تلتقي النصوص التي عرضت في ندوة أبريل 2012 حول موضوع “السيرة الاجتماعية” في أن موضوعها المركزي هو المهمَّشون، تلك الشريحة التي استهان بها التاريخ الموَثَّق، ولم تُعتبر مصدرا للمعرفة. استوجب الاهتمام بالمهمَّشين التركيز على المصادر الشفوية لتجميع المعلومات، بسبب النقص الحاصل في التوثيق المكتوب حولهم، وهو ما يفسر هيمنة تقنيات البحث الميداني التي تنوعت من التاريخ الشفوي، إلى الاستجوابات، فالسيرة الاجتماعية، والبيوغرافياوالبورتريهات والحوارات.
تكمن الأهمية الأولى لموضوع المهمَّشين في السياق المغربي، في التنبيه إلى أن إهمالهم يحرم البحث من مصادر غنية للمعرفة والتي بدونها يبقى الواقع المدروس ناقصا، بل قد يقود لاستنتاجات خاطئة، على غرار القول بأن مقاومة المستعمِر انحصرت في الرجال، أو أن النساء المقاوِمات انتمَين إلى النخبة الحضرية والمتعلمة فحسب. يضاف إلى هذا النقص على المستوى المعرفي، ما يخلفه هذا الإهمال من حيف على المستوى العملي، حيث أنه يحرم النساء من الاعتراف المستحَق لهن بإنجازاتهن السياسية، وأن ذلك يمنعهن من إمكانية توظيف تلك الإنجازات في الدفاع عن مطالب المساواة مع الرجل.
لا يقتصر الاهتمام بالمهمَّشين، مثل النساء المقاومات في حالة دراسة أليسون بيكر، على تصحيح نقائص التأريخ، بل إنه يعمل في حالة كتاب فاطمة المرنيسي، المغرب محكي من طرف نسائه، على تصحيح التمثلات السائدة في كل الخطابات المجتمعية والرسمية التي تشرعن وتبرِّر وضعية اللا-مساواة التي تعرفها وضعية المرأة المغربية. وسعت المرنسيي إلى دحض تلك التصورات السائدة المضلٍّلة عن طريق تقديم شهادات وبيوغرافيات عبر أصوات نساء مغمورات.
يؤشر الاهتمام بالمهمَّشين من طرف باحثين مغاربة وجلهم شباب، في كتاب الدار البيضاء، وجوه ومشاهد متروبولية ، على التحولات التي يشهدها المغرب على مستوى السوسيولوجيا والثقافة السياسية. إن تحمّس المسؤولين السياسيين المحليين لمشروع الكتاب، ورغبتهم في اكتشاف مدينتهم من خلال البحث الأكاديمي الشّفاف، عوض الاقتصار على السرية في جمع المعلومات، يشير إلى بوادر تَحوُّل في مفهوم السلطة وكيفية تدبيرها. لكن، بغض النظر عن أنها حالة استثنائية اقتصرت على الدار البيضاء في فترة محددة نادرة أم أنها ظاهرة أكثر اتساعا، فإنها توثق لانتقال المهمّشين من أفراد ظلوا يُعتبرون غير جديرين بأي اعتبار، إلى شريحة اجتماعية ذات وزن مؤّثر تُمثل الأغلبية العددية لسكان الدار البيضاء، وتُجسِّد التحولات التي يشهدها هذا التجمع الحضري الضخم، ليس فقط على المستوى السوسيو-اقتصادي، بل أيضا على مستوى القيم والثقافة. ويشكل الاهتمام الأكاديمي بمهمّشي الدار البيضاء من هذه الزاوية، صدى لمقاربة السوسيولوجي ذي الأصل الإيراني عاصف بيات، للحياة اليومية للناس البسطاء بكونها لا تعيش وضعية الركود التي تتسم بها ظاهريا، بل هي تمثل تلك القوى الفاعلة التي تتحرك ولا تُرى، وتُحدث تغييرات تتجذّر شيئا فشيئا، وتُفرز تحولات مجتمعية صامتة ولكنها حقيقية، وتغيّرات في علاقة الناس بسلطة الدولة في تجلياتها الميدانية المباشرة. لا تقتصر أهمية حياة المهمّشين على هذا الجانب، بل إن التقلّبات التي تُحدثها تدريجيا قد تُهيّئ أيضا للرّجات السياسية الكبرى التي تنفجر وقتا ما، كما حدث في الربيع العربي، وتبدو حينها كما لو أنها فُجائية بدون مقدمات.
هناك بُعد إضافي لا تَقلُّ أهميته عما سبق، وهو أن الانتباه إلى شريحة المهمّشين، والتي ينحدر منها عدد من الباحثين، يعني أيضا بداية المصالحة مع الذات الغائبة عن النصوص العالمة التي انحصر اهتمامها لحد الآن على النخبة وهمومها وحساباتها. وهذه المصالحة مؤهلة إلى أن تفتح آفاقا واعدة ستدعو لا محالة لتجريب مقاربات أكاديمية جديدة للفهم ووسائل مبتكرة للتعبير.
لا ينتمي المهمَّشون في نص الجيلالي العدناني إلى الشرائح الفقيرة أو المغمورة، ولا يمثلون البسطاء المهمّشين اجتماعيا، من صنف أبناء سانشيث موضوع كتاب أوسكار لويس، والذين لم يكن لمواقفهم تأثير يذكر أو معترف به على الأحداث الكبرى، بل إن رجال العدناني احتلوا مناصب عليا على المستوى المحلي، مثل القيادة والباشوية، ولعبوا أدوارا سياسة وعسكرية، واتسع دورهم ليهُمّ دبلوماسية القوى الاستعمارية الكبرى المهتمة بالمغرب: فرنسا، وإسبانيا، وألمانيا. إلا أنهم و مع كل ذلك ينتمون إلى صنف المهمّشين، بحكم أن المؤرخين أهملوهم لكون مسارات حيواتهم المتقلبة ظلت خارج خانات التصنيف الرائج مثل ثنائية “العملاء” و”المقاومين”، ولذلك بقيت على هامش الحكي السائد في الكتابات التاريخية المغربية. إن السيرة المؤسَّسة على قراءةٍ مُقارَنةٍ للأرشيفات تثير الانتباه إلى أن التصنيفات التي يُقرأ بها التاريخ، الاستعماري في المغرب في هذه الحالة، لا تمثل إلا جوانب منتقاة لا تعكس التقلبات المستمرة في مواقف الشخصيات قيد الدراسة. ومن جهة أخرى، فإن هذه التصنيفات لا تعكس حقيقية موضوعية ثابتة، بقدر ما هي قراءات تقلَّبت حسب حسابات كل من المؤسسات الساهرة على تجميع الأرشيفات والكتابات التي تعتمد على هذه الأرشيفات، في توظيف المعطيات لتحقيق غايات متنوعة، لا تقتصر بالضرورة على الطموحات السياسية، بل قد تهدف إلى تحقيق منافع مادية محضة، كاسترجاع ممتلكات ضائعة. وفي هذه الحالة، فإن السيرة الاجتماعية، كما أكد العدناني، تتيح إمكانية التحرر من دوغمائية التاريخ الرسمي وسلطته الإيديولوجية.
تعتبر الأنتروبولوجيا الحقل الأكثر ارتباطا بالمهمّشين. ويرتكز اهتمام كتاب كافن دوايير، حوارات مغربية، على إشكال منهجي ونظري يهم الأنتروبولوجيين بالأساس، ويتعلق بكيفية تجاوز العقبات التي ظلت تعترضهم في فهم الآخر، والمتمثلة في اللا-تكافؤ بين الباحث وبين ميدانه، وفي سلطة الأنتروبولوجي المسلّح بأدوات وانشغالات تخصصه، مقابل عفوية وتلقائية الآخر، المتجسد في المخبر[1]، المادة الرئيسية للانتروبولوجي، وأداته ومدخله لفهم عالم وثقافة موضوعه
نحن هنا أمام هموم قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن انشغالات البحث في المغرب، حيث لا يدرس الأنتروبولوجيون المغاربة ثقافات دول أخرى، وحيث لا يعتبر الآخر موضوعا غريبا، بعيدا، ومختلفا كل الاختلاف، ويحتاج إلى مشاريع منهجية ونظرية للتقرب إليه، كما يفعل دوايير. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد على المصادر الشفوية في البحث الأكاديمي لا زالت لم تراكم بعد في المغرب ما يكفي من التجارب للخوض في غمار انشغالات دوايير. لكن الجانب المثير في مشروعه، هو تحويل المخبر من موقع مَصدر للمعلومة الخام، التي يبحث عنها وينتقيها الأنتروبولوجي من خلال اختياره لمكان بحثه الميداني وللأسئلة التي يطرحها، ثم من خلال المعاني والتأويلات التي يعطيها للمادة التي يجمعها بمساعدة مخبره، بدون أن يشركه قبليا في تهيئ مشروع البحث، أو بعديا في إعطاء المعاني للمعلومات المجمَّعة. فمن هذه الزاوية، يبقى المخبر، بالرغم من موقعه المركزي ظاهريا كمصدر للمعلومة، هامشيا على مستوى مصير التأويلات الذي تنتهي إليه المعلومات التي وفّرها للباحث صاحب السلطة المطلقة في هذا الشأن. إن قلب دور المخبر، وهي العملية التي يطمح لتحقيقها دوايير، تسعى لتحويل العلاقة بين الباحث ومخبره من علاقة سلطة غير متكافئة يمثلها الباحث، إلى حوارات تسعى لتحقيق المساواة بينهما، تدخل في إطار إعطاء الكلمة للمهمّشين، أي أولئك الذين يتعرضون للتهميش من الوجهة المنهجية والنظرية من طرف الأنتروبولوجيين.
يمكن قراءة حوارات دوايير في سياق أوسع، سياق البحث عن بدائل للمعرفة الاستشراقية التي تنبني على سلطة المعرفة التي ظل يوظفها الغرب تجاه الآخر، الشرق بالنسبة لإدوارد سعيد، وعلى تجاهل صوت هذا الآخر وإنكار القيمة المعرفية لثقافته. وعلى خلاف ما قد يبدو، فإن هذه القضايا لا تقتصر على سلطة الغرب على الشرق، بل هي كامنة في كل علاقة بين باحث وموضوعه، مهما كانت الجنسيات والحدود الجغرافية، وهو ما يجب أن يُنبه باحثينا إلى أن مخاطر سلطة المعرفة لا تقتصر على خلفياتها الإيديولوجية وتوظيفاتها السياسية، بل إنها أيضا قادرة على توجيه المنطلقات الابستمولوجية للمعرفة مهما كان موضوعها، وإزاغتها عن غاياتها العلمية النبيلة.
[1]أشير هنا إلى أن وظيفة “المخبر”، التي في حقل الأنتروبولوجيا تعني القيام بدور الوسيط بين الباحث وميدانه، عن طريق الترجمة، وربط الاتصالات مع الناس والإدارات، والمساعدة في الجوانب اللوجستيكية، تحمل نكهة قدحية، تقربها من حرفة التجسس، بالرغم من أن هذه الأخيرة تشترط السرية المطلقة، وتشترط القيام بالوظيفية لحساب أجهزة دولة. وقد بدأ الأنتروبولوجيون يتجنبون مصطلح “المخبر”، ويستعملون بدله تسميات أخرى كالمساعد، أو الشريك.