جذور حريّة الضمير في الفكر العربي الحديث: بطرس البستاني أنموذجاً
[size=40]23يناير 2016بقلم حمّادي ذويبقسم: الدين وقضايا المجتمع الراهنةحجم الخط
-18
+للنشر:[/size]
جذور حريّةّ الضمير في الفكر العربي الحديث:
تنصّ المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنّه "لكلّ شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة". والملاحظ أنّ هذا الإعلان اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948 نتيجة لما خبره العالم في الحرب العالمية الثانية.
وللمعلم بطرس البستاني 1819- 1883، المعاصر للطهطاوي، مقالات صدرت في نشرته "نفير سورية" في العام 1860 بعنوان "وطنيات"، وعلى رغم تأرجحه آنذاك بين التابعية العثمانية والوطنية السورية يقول في الوطنية الرابعة "نفير سورية"، العدد 4، بيروت 25/10/1860: "فسورية المشهورة ببلاد الشام وعربستان هي وطننا على اختلاف سهولها ووعورها وسواحلها وجبالها، وسكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم هم أبناء وطننا". ويعطي لهذه العلاقة بين الفرد والوطن معنى حقوقياً، فيقول: "يا أبناء الوطن، لأهل الوطن حقوق على وطنهم، كما أنّ للوطن واجبات على أهله... ومن الحقوق التي على الوطن لبنيه الأمنية على أفضل حقوقهم، وهي دمهم وعرضهم ومالهم، ومنها الحرية في حقوقهم المدنية والأدبية والدينية، ولا سيّما حرية الضمير في أمر المذهب".".(وجيه كوثراني، المواطنة والانتماء، جريدة الحياة، العدد 14196، 30-01-2002).
وممّا كتبه البستاني أثناء روايته قصة أسعد الشدياق(1798-1830) "ممّا لا شكّ فيه أنّ حرية الضمير لا يمكن أن تمنح من قبل أصحاب الحكم في هذا العالم. وحتى إن اتحدت قوى الأرض والجحيم كلها فلن تكون قادرة على انتزاع الحرية من صدر من يمتلكها، ذلك أنّ أيّ شخص ذاق مرّة حلاوة الحرية الإلهية فلا سبيل لكي يرجع إلى العبودية". والملاحظ أنّ أسعد الشدياق تحوّل -على غرار البستاني- من المذهب الماروني المسيحي إلى المذهب البروتستانتي عندما كان يعمل ضمن الإرسالية الأمريكية في بيروت.
وقد ضايق الزعماء الدينيون للموارنة الشدياق بسبب ارتداده ورفضه التوبة، واحتجزوه في دير سنة 1826 حيث توفي في نهاية المطاف سنة 18301. وبعد ثلاثة عقود نشر بطرس البستاني "قصة أسعد الشدياق"، لا من أجل بعث الحياة مجدداً في حجج البروتستانتيين والموارنة، بل لعرض شرور التعصب الديني والشروع في التعبير عن رؤية للتعايش الحديث القائم على مساواة علمانية بين الأديان والثقافات. ويستخدم البستاني قصة هذا الشاب الذي تحوّل عن مذهبه، والذي اضطهد ظلماً للدفاع عن حرية الضمير. البستاني ومصطلح حرية الضمير في المعجم العربي الحديث
لم يكن البستاني وحده من يعتقد أنّ الإصلاح اللغوي مسألة مركزية في الصحوة العربية الثقافية، فالطهطاوي وفارس الشدياق وأعلام آخرون في عصر النهضة في القرن التاسع عشر ناقشوا أيضاً الطرائق التي تحتاجها اللغة العربية لتصبح لغة حديثة صالحة لتكون أداة للتعليم الحديث. وقد ترجم البستاني ألفاظاً من اللغات الأوروبية إلى العربية مستخدماً الآليات نفسها لدى الطهطاوي كتعريب الكلمات الأجنبية وتجديد الألفاظ العربية القديمة والعامية.
وكانت حرية الضمير من العبارات الجديدة التي يبدو أنّ البستاني صاغها للتعبير عن معنى حرية الفكر. وتمثل حرية الضمير مركّباً من لفظين عربيين قديمين تمّ تحديث دلالتيهما هما الحرية والضمير. وقد استخدمت الحرية قديماً باعتبارها إلغاء للرق، إلّا أنّ معناها اتسع بواسطة الطهطاوي ليعكس المعاني السياسية الحافة بالحرية ولوصف الوضع الإيجابي الذي يضحي الفرد بمقتضاه قادراً على القيام أو عدم القيام بأي فعل في أي وقت من الأوقات وفق إرادته واختياره.
وقد انتقل البستاني في تعريفه للحرية من الاتباع إلى التحديث، ففي معجمه "محيط المحيط" عرّف الحرية على غرار التعريفات القديمة بأنها حالة الحُرّ، وهي ضدّ الرق وحقيقتها الخصلة المنسوبة إلى الحرّ"2. لكنه في دائرة المعارف التي ألّفها أبان عن انفتاح على المعاني الحديثة لمفهوم الحرية، فهو يحدّها بكونها "حالة يكون الإنسان فيها قادراً على فعل شيء أو تركه بحسب إرادته واختياره، وهي نوعان داخلية وخارجية، فأمّا الداخلية فهي عبارة عن قوة الاختيار بين أمرين متضادين أو متخالفين، ويعبّر عنها بحرية الإرادة وحرية الضمير وحرية النفس، وبالحرية الأدبية إذا أريد بها الاختيار بين الخير والشر أدبياً... ، وأمّا الحرية الخارجية فهي على أنواع: منها الحرية الطبيعية ومنها المدنية ومنها السياسية، ومنها الحرية الدينية وهي أن يكون قادراً على الاعتقاد بالمذاهب الدينية التي يرى أنها صحيحة وعلى تعليمها من دون معارضة..."3. ويبرز البستاني في وقفته التعريفية لمفهوم الحرية أنها كانت موضوعاً لأبحاث طويلة وجدالات في كل جيل سواء عند الفلاسفة أو عند اللاهوتيين قديماً وحديثاً، كما يبدي اطلاعاً على أحد الكتب التأسيسية لمفهوم حرية الضمير قائلاً: "وقد ألّف بوصوي (Bossuet) العالم الفرنسي رسالة جليلة في حرية الضمير"4. والظاهر أنّ هذا العالم الفرنسي قد أثر في جيل كامل من العلماء المعاصرين للبستاني، فالعالم التونسي محمد السنوسي (ت1900م) على سبيل المثال اعتمد على رسالة المفكر اللاهوتي الفرنسي بوصوي "رسالة في حرية الضمير" ليعرّف الحرية الفكرية بأنها امتلاك الإنسان القوة على إظهار أفكاره بلا مانع في كلّ مادة فلسفية أو دينية أو سياسية أو غيرها...، وحق أصحاب المطبوعات لا سيما الجرائد في نشر آرائهم في كل مبحث اختاروه أو أرادوا موافقته للأحوال"5. ويمكن أن نلاحظ أنّ مفهوم حرية الضمير في سياق كتابات البستاني يفيد دلالات دينية ضمنية، فترجمة هذا المفهوم بالنسبة إليه يكون أكثر اكتمالاً عندما يتضمن حرية الاعتقاد أو العبادة طبقاً لما يهديه وعينا الذاتي إليه. وتعدّ هذه المعاني الدينية الضمنية بدهية من خلال قصة أسعد الشدياق التي صاغ البستاني من خلالها احتجاجه لحرية الضمير مستخدماً حكاية اضطهاد أسعد الشدياق. لكن فيمَ تتمثل هذه الحكاية؟
احتجزت الكنيسة المارونية أسعد الشدياق سنة 18256، لكنه فرّ سنة 1826 من كنيسة سان جورج ولجأ إلى الإرسالية الأمريكية في بيروت. وقد طلب منه بعض أفراد أسرته الرجوع عن معتقده الجديد فأجابهم قائلاً: "اضمنوا لي حرية الضمير فحسب أرجع معكم إلى بلدي، لأنّ ديانتي هي كلّ ما أملك لذلك يجب أن تكون لي الحرية فيها"7. وقد تضامن فارس الشدياق مع أخيه الأكبر أسعد، وبيّن ضرورة ارتباط حرية الضمير بالفصل بين الدين والدنيا، وقد تأثر فارس الشدياق بالاشتراكيين المسيحيين الذين اهتموا بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية أكثر من اهتمامهم بالإصلاح السياسي، ولم يكن في دين آباء الشدياق ما يرتبط بالنظم السياسية من قريب أو من بعيد، بل رجع إلى قول المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (متى، 22/21)، فما دام المسيح قد أوضح أنّ لكلٍّ من الدين والسياسة ميدانه الخاص، فقد سهل الأمر على الشدياق ليؤمن بوجوب الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، ودعا إلى سيادة الأولى على الثانية، حين عرض لمحنة أخيه أسعد، وهاجم الكنيسة المارونية واتهمها بالخروج عن ولاية السلطان العثماني، وإقامة دولة داخل دولة حين حاكمت أسعد بدلاً من أن توكل أمره إلى حاكم شرعي8، وعليه وعى الشدياق تماماً الصراع بين السلطتين الدينية والزمنية، وأكد أنّ التقدم المدني لا يتمّ إلا بالفصل بين السلطتين، وإخضاع الدينية للزمنية، بل إنه رآه شرطاً ملازماً لكلّ تقدم مدني9. ويمكن أن نستخلص من خلال استخدامات البستاني لعبارة حرية الضمير أنها يمكن أن تترجم بالحرية الدينية أو حرية المعتقد، ومع ذلك فإنّ حرية الضمير تدلّ على معنى أكثر فردانية من معنى الحرية الدينية التي ذكرها الطهطاوي والجبرتي اللذان كانا مشغولين في المقام الأول بحرية الجماعات الدينية.
وكان البستاني من جهة أخرى يدافع عن حرية الفرد في العبادة حسب ما يمليه عليه ضميره الشخصي. ويمكن عند الضرورة أن يقتضي ذلك من الفرد أن يفارق جماعة دينية ما على غرار ما فعله البستاني وأسعد الشدياق. وهذا مخالف لموقفي الجبرتي والطهطاوي، فكلاهما لم يقبل حرية الأفراد ـ وخاصة المسلمين- في ترك عقيدتهم. إلّا أنّ مفكرين آخرين شاركا البستاني في إثارة مسألة حرية الضمير، هما قاسم أمين وسلامة موسى، الأول آتٍ من الديانة الإسلامية والآخر من الديانة المسيحية. وقد طالبا بشكل جليّ بأن يكون للإنسان الحق بـ"عدم الإيمان بالله، وبرسوله"، وبـ"رفض قوانين وعادات معاصريه"، و"اختيار عقيدته الخاصة وفق ما يراه في مرآة عقليته وضميره"10. ويعكس استخدام البستاني لمصطلح حرية الضمير وتشديده على حرية الأفراد الدينية تأثير الإرسالية الأمريكية في فكره، وكان عمل لفائدتها لفترة تفوق العقد بعد تحوله إلى البروتستانتية سنة 1840. وقد حافظ البستاني بعد مغادرته الإرسالية وبعد توليه وظيفة الترجمة للقنصل الأمريكي سنة 1851 على علاقات صداقة وثيقة بكثير من أعضاء الإرسالية. كما شارك البستاني في الجمعية السورية للفنون والعلوم المتكوّنة من عرب ومن أعضاء الإرسالية الأمريكية. والظاهر أنّ البستاني صادف مصطلح حرية الضمير عبر هذه الصلات المتبادلة مع الجهات السابقة. وثمّة أمثلة عدة لاستخدام حرية الضمير لدى أعضاء الإرسالية الأمريكية في رسائل ومداخل يوميات منشورة في "Missionary Herald"، وهي الصحيفة الرسمية للهيئة الأمريكية المسؤولة عن الإرساليات الأجنبية التي تتخذ بوسطن مقرّاً لها11. وكثير من هذه الرسائل والمداخل كتبت قبل نشر قصة أسعد الشدياق. لم يصادف البستاني لدى أعضاء الإرسالية الأمريكية مصطلح حرية الضمير فحسب، بل إنّ حافزه الشخصي دفاعاً عن هذه الحرية كان أيضاً نتيجة جهودهم ونجاحهم في دفع تحوّله إلى البروتستانتية.
وقد واجه نتيجة هذا التحوّل معارضة شديدة من زعماء الكنيسة المارونية التي تركها، فلمدّة سنتين بعد هذا التحوّل ظلّ في حماية منزل آلي سميث (Eli Smith)، حيث كان سجيناً افتراضياً لا يغامر بالخروج وراء أبوابه خوفاً من أن يقتله جواسيس الكنيسة المارونية12. وكان البستاني وهو يقصّ قصة أسعد الشدياق يحكي بطرق مختلفة حكايته الشخصية. فكلاهما ينحدر من أسرة مارونية، وكلاهما درس في المدرسة اللاهوتية المارونية "عين ورقة"، حيث وقع إعدادهما لتولي وظيفة من وظائف رجال الدين، وكلاهما تحوّل إلى البروتستانتية وواجه معارضة شديدة من الكنيسة المارونية. وهذا التشابه الصادم بين الشخصيتين ولّد خوف أعضاء الإرسالية من أنهم قد يكونون مقبلين على قضية شبيهة بقضية أسعد الشدياق، إلّا أنّ مخاوفهم لم تتحقق، لأنّ النفوذ البريطاني في العقدين اللذين تليا موت أسعد الشدياق توسّع ليمنح مزيداً من الحماية للبروتستانتيين.
وعندما نأخذ بعين الاعتبار تحوّل البستاني عن مذهبه الأصلي والاضطهاد الذي واجهه يتضح لنا أنّ دفاعه عن حرية الضمير يجب أن يكون مهمّاً بالنسبة إليه شخصياً، وليس مجرّد اتّباع لمثال نظري. ولئن كان تأثير الإرسالية على فكر البستاني بدهياً في دفاعه عن حرية الضمير فإنّه برهن أيضاً عن قدر من الاستقلال عنها لا بأس به، إن على صعيد حياته أو على مستوى فكره.
وقد يكون أحد الأسباب الرئيسة لانفصال البستاني عن الإرسالية الأمريكية وعيه المتنامي بأنّ نشاطها التبشيري المتواصل وسعيها إلى إيجاد مجموعة بروتستانتية متميزة ليس من أهم مصالح سورية. وقد كان البستاني يعتقد أنّ أعضاء الإرسالية كانوا يعملون بشكل أساسي لإنشاء طائفة مذهبية داخل مجتمع منقسم وقابل للعنف المذهبي. وفي سنة 1874 كتب البستاني مقالاً نقد فيه الطبيعة المذهبية لمدارس الإرسالية، ونلفي نقداً شبيهاً يستهدف الإرسالية في قصة أسعد الشدياق.
وتعتبر رواية البستاني رفضاً للطرق التي استخدمت في قصة أسعد الشدياق من قبل السلطات المارونية والإرسالية الأمريكية لشيطنة كلّ طرف للآخر، فبينما يصف الموارنة الأمريكيين باعتبارهم زنادقة ماكرين، يستخدم أعضاء الإرسالية "استشهاد" الشدياق مثالاً على شرور الديانة البابوية.
ولم يقبل البستاني الصورة التي رسمتها الإرسالية الأمريكية للشدياق، فقد كانوا ينسبون إليه أشياء زائفة، ولم يكن يرى في قصة أسعد فرصة لانتقاد الكنيسة المارونية، وكان يرى عوضاً عن ذلك أنها تمثل قصة شاب اضطهد ظلماً، وأنّها بمثابة درس أخلاقي وحجّة لفائدة حرية الضمير.
وفي العدد الرابع من "نفير سورية" الصادر في 25 أكتوبر 1860 كتب البستاني منوّهاً بحرية الضمير، فذكر أنّه "حق مدني وديني استشهد من أجله كثير من أبناء الوطن"13. ويبدو أنّ مفهوم حرية الضمير في ذهن بطرس البستاني لا ينفصل عن مفهوم العلمانية، فهو يعتبر أنّ سورية تحتاج لتحقيق التقدم والالتحاق بركب البلدان الغربية المتطورة إلى الفصل بين مجالي السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، فالمزج بين الدين والسياسة مضاد لروح العصر الذي يتطابق في نظر البستاني مع الثورة الفرنسية.
وقد دعا البستاني إلى التفريق بين السلطتين الدنيوية والدينية، لكي تتمكن السلطة الدنيوية من حماية حرية كلّ المواطنين بقطع النظر عن معتقداتهم الدينية.
وفي القرن التاسع عشر في سورية العثمانية كان البستاني يعتقد أنّ أفضل سلطة يمكن أن تحمي الحقوق المدنية والدينية لمواطنيها هي السلطة القائمة في اسطنبول، وقد اكتسب العثمانيون مصداقيتهم من المنشور الإصلاحي لسنة 1856، وهذا المنشور يضمن المساواة في معاملة كلّ الرعايا دون اعتبار لانتمائهم الديني.
وقد رأى البستاني في هذا الإصلاح فرصة للمسلمين وغيرهم للاندماج ضمن مجموعة سياسية واسعة. ولم يكن البستاني يشجّع الروح الوطنية غير المذهبية فحسب، بل كان يقوم بخطوات عملية لتحقيق هذه الغاية، ففي سنة 1862 أنشأ أول مدرسة مذهبية في سورية، سمّاها المدرسة الوطنية، تتسع لعقائد كلّ تلاميذها. وفتحت هذه المدرسة الوطنيّة أبوابها لجميع أبناء الوطن دون تمييز في الدين أو في المنطقة أو في الطبقة الاجتماعيّة. وجعل برنامجها التعليمي محاكياً للمدارس الأجنبيّة الراقية. وكان التعليم فيها يشتمل على المواد التالية: العربيّة، والفرنسيّة، والإنكليزيّة، بعلومها وآدابها، مع الخطابة والشعر، والرياضيات والترجمة والتاريخ والجغرافيا، وكان الغرض من إنشاء بطرس البستاني لمدرسته في ذلك الحين معالجة الرواسب السلبيّة التي خلّفتها فتنة 1860 الطائفيّة في المجتمع اللبناني البيروتي، عن طريق التثقيف العلمي والتوجيه العلماني (الوطني...)14. وقد وضع بطرس البستاني عدة مبادئ أساسية للمدرسة الوطنية، يمكن اعتبار المبدأ الثالث منها أهمّها، خاصّة في ذلك العصر، إذ كان الوطن أداة بيد الأتراك والفرنسيين والإنكليز، تحكمها وتشغلها بسياسة فرّق تسد، حيث الطائفية هي سلاح التفرقة الأمضى. ينصّ المبدأ المذكور على "أنّ المدرسة الوطنية تقبل تلامذة من جميع الطوائف والملل والأجناس، من دون أن تتعرض لمذاهبهم الخصوصية أو تجبرهم باتباع مذهب غير مذهب والديهم، مع إعطاء الرخصة التامة لهم في إجراء فروض ديانتهم. وهذا الموقف جاء ضد موقف المدارس التبشيرية الغربية. أنشأ المعلم بطرس البستاني مدرسته الوطنية، وطوال حياته فيها لم يتكلم عن المذاهب، وقد ساوى طلابه بأبنائه وبشخصه أيضاً، وهذا المبدأ في عقيدة البستاني يتصل بمبدأ آخر هو الوطنية أو حب الوطن وما ينجم عنه من رقي وتقدّم. ولكي يضع البستاني مبدأ الوطنية موضع التطبيق الكامل جعل التعليم والتربية في مدرسته متلائمين وواقع عصره ومجتمعه"15. يمكن أن نستخلص في نهاية هذا البحث الموجز أنّ بطرس البستاني كان يدافع عن حرية الضمير باعتباره حقاً شخصياً، وكان يعتقد أنّ حرية كلّ المواطنين ينبغي أن تقع حمايتها من لدن حكومة علمانية، إلّا أنّ أعضاء الإرسالية الأمريكية كانوا يستخدمون مفهوم حرية الضمير ذوداً عن مصالحهم المذهبية الضيقة. ولئن كان أعضاء الإرسالية يعارضون العلمانية، في موطنهم وفي الإمبراطورية العثمانية، فإنّ البستاني كان يدافع بحماس عن إقامة حكومة علمانية، يمكن أن توفر مسلكاً بعيداً عن العنف الطائفي المريع الذي شهدته سورية سنة 1860. وهذا الرأي الذي يقوم على اعتبار الحكومة العلمانية أفضل حام للحرية، يبرز تأثر البستاني بفكر الثورة الفرنسية أكثر من تأثره بفكر أعضاء الإرسالية الأمريكية16.