محمد أركون و” علمنة ” الإسلام
|
| |
يُعدّ الجزائري المتفرنس محمد أركون حلقة قويّة في سلسلة “مفكّرين” عرب و “مسلمين” معاصرين يجمعهم مشروع كبير وضعوه أو وُضع لهم يتلخّص في نقض عرى الإسلام من الداخل بزعم التجديد والاجتهاد وإعادة القراءة للوحي بطرق لا علاقة لها بأصول التفسير والفقه المعروفة في الثقافة الاسلامية، وهؤلاء عددٌ من المتشبّعين بالقيم العلمانية والأفكار التغريبية المتبرّمين من ” التزمّت” الاسلامي، ويُعرَفون بالتنويريّين، من أبرز وجوههم:محمد أحمد خلف الله ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني (مصر) محمد شحرور (سورية) هشام جعيّط و عبد الوهاب مدّب(تونس) و محمد عابد الجابري (المغرب).
· محمد أركون…الإنسان:
من المناسب أن أُفرد كلمات لشخص محمد أركون ليتيسّر للقارئ الإحاطة بفكره ومشروعه، وليس لنا مع شخصه أي عداوة لا حيًا ولا ميّتًا، لكنّ تناوله لديننا الحنيف بالنقد اللاذع يبيح لنا أن نتساءل عن دوافعه وغاياته ونبحث عن الإجابة في عمق شخصه من غير أن نحيد عن العدل،قال تعالى :” ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا،اعدلوا هو أقرب للتقوى” – سورة المائدة (08).
1. تذكر موسوعة ”ويكيبيديا” أنّ محمد أركون تربّى عند ”الآباء البيض”، وهذه معلومة على جانب كبير من الأهمية لأنّ هؤلاء تنظيم تنصيري مكّنت له فرنسا بعد احتلال الجزائر في 1830،وكان أغلب نشاطه في منطقة القبائل التي وُلد فيها أركون، وقد ركّزت هذه الإرسالية على تلك المنطقة – لمزاعم ليس هذا مكان بسطها – وحاربت الإسلام واللغة العربية بضراوة وعملت على إحياء اللهجات المحلية لتكون وحدها اللغة الأصلية للجزائر، وقد تمكّن الاستعمار الفرنسي من تخريج بعض الرجال والنساء المنسلخين صراحة أو خفية من دينهم، شكّلوا الآن أحزابا سياسية وجمعيات ثقافية تدعو إلى ” التحرّر” من الإسلام والعربية ، فلا يُستبعد أن يكون أركون ممّن ربّاهم الرهبان وكوّنوهم لضرب الإسلام ”علميا”،مع العلم أن الرجل – وهو صاحب كرسي الدراسات العربية بالسوربون – لم يكن يكتب إلاّ بالفرنسية ( وبالإنجليزية حسب قوله).
2. في أواخر سبعينيات القرن العشرين ألّف الطبيب الفرنسي موريس بوكاي كتابه ”القرآن والكتاب المقدس والعلم” الذي حاكم فيه الكتب السماوية إلى الحقائق العلمية التجريبية في جميع الميادين وخلص بالأدلّة التطبيقية إلى أنّ التحريف طال التوراة والإنجيل بينما تتوافق الحقائق القرآنية مع آخر ما قطع العلم بصحته وثباته، وحقّق الكتاب شهرة عالمية وتُرجم إلى لغات العالم، لكن محمد أركون لم يرُقه ذلك ولم يسلّم بما توصّل إليه بوكاي من نتائج باهرة بل قال بالحرف ”إنّ بوكاي ألف هذا الكتاب تزلّفًا للمسلمين”!!!، فهو ينزع عنه أيّ قيمة علميّة ويشكّك في قصد صاحبه لسبب واضح هو رفضه أيّ شكل من أشكال تعظيم القرآن ونُصرته لأنّ هذا سباحة ضدّ التيّار الّذي سلكه طول حياته وهو نزع القدسيّة عن كتاب الله وعدم تناوله إلاّ لغرض واحد هو النّقد، وهذه النقطة تقودنا تلقائيّاً إلى الّتي تليها.
3. هل كان أركون مسلماً؟ بل هل كان مؤمناً بأيّ دين؟: لعلّ هناك من يستغرب طرح هذا السؤال عن رجل يحمل اسم النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم –، وهو ابن بيئة عربيّة إسلاميّة، وهو أكاديميّ يدرّس الإسلام في الجامعات ويكتب حوله طوال خمسين سنةً، ويجدر بي أن أوضّح أنّه لا يعنيني مطلقاً الحكم على الرجل بالإيمان أو الكفر، فالله حسيبُنا وحسيبُه، ولكن أريد من خلال هذه القضيّة الإشارة إلى خطورة الخطّة الّتي اعتمدتها الأوساط المعاديّة للإسلام الّتي اقتضت منذ فترة ضرب دين الله من الداخل بأيدي “علماء مسلمين” للتعمية على النشاط الاستشراقي الّذي أفل نجمه أو كاد بعد أخذ المسلمين الحيطة منه، ومحمّد أركون يمكن أن تَلمّس علاقته بالدين من خلال أفكاره وإنتاجه، فهو صاحب فكر ماديّ بحت يؤمن بالتفسير المادّي ليس للتاريخ فحسب وإنّما للدين الإسلاميّ بالذات، لكن لقطع أيّ ظنّ باليقين أنقل شهادة تلميذه وصديقه شديد الإعجاب به – رشيد لن زين – الّذي يقول: ” لقد رفض ( أي أركون ) دائماً الإجابة عن هذا السؤال: هل أنت مؤمن؟ و قبل أيّام من وفاته قال لي: “لا أحبّ أن يُطرح عليّ هذا السؤال”.
هذا هو الرجل الّذي كان يزعم – وما زال أتباعه يزعمون – أنّه يريد الخير للإسلام من خلال تجديده وإعطاء الفهم الصحيح عنه لأنّ جميع المنتمين إليه لم يضطلعوا بهذه المهمّة أو لم يوفّقوا فيها طوال هذه القرون!
وذكّرني هذا بموقف نصر حامد أبي زيد الّذي قيد للمحكمة بتهمة الردّة،ورفض إجابة محاميه الّذي طلب منه أن يصرّح في الجلسات أنّه مسلم.
4. كتب الدكتور يحيى بوعزيز الاستاذ بجامعة وهران – رحمه الله – مقالاً في جريدة جزائريّة واسعة الانتشار مقالاً ذكر فيه أنّه كان في مؤتمر دوليّ حول الإسلام في بلد أوروبيّ ورأى محمّد أركون يحاضر في الإسلام ثمّ “يشرب الخمر في فترات الاستراحة ويستزيد منها”، وكان أركون على قيد الحياة أثناء نشر هذا المقال، و انتظرت أن ينفي مضمونه لكنّه لم يفعل،ممّا يُضفي المصداقيّة على كلام د. بوعزيز الذي لم نُجرّب عليه كذبا.
فهل يحتاج هذا إلى تعليق؟
5. رغم أنّ محمّد أركون “مسلم” وامرأته أيضاً (وهيّ مغربيّة) لكنّه سمّى ابنته “سيلفي” Sylvie وهو اسم فرنسيّ مسيحيّ، ممّا يشير إلى انتمائه الحقيقيّ نفسيّاً ووجدانيّاً وليس فكريّاً فقط.
6. في سنة 2003 شكّل الرئيس الفرنسيّ جاك شيراك لجنةً للنظر في حظر ارتداء الحجاب،هي “لجنة ستازي”، وعيّن فيها عضوين مسلمين اثنين أحدُهما امرأة لا ترتدي الحجاب (هي حنيفة شريفي) والآخر محمّد أركون الّذي يُنكر أحكام الشريعة كلّها ويعتبر الزيّ الشرعي عادة بالية ورمزا للتخلّف، وكانت النّتيجة إجماع اللّجنة على منع ارتدائه باعتباره من “المظاهر الدينيّة”، وكانت عضوية أركون بردا وسلاما للحكومة الفرنسية لأنّه “مسلم وعالم متبحّر في الدين”.
غايات فكر أركون:
ليس الإسلام الذي يتناوله أركون هو الدين الذي نعرفه لكنّه شيء لا قدسية لمصادره ولا ثبات لأحكامه ولا نسبة ربانية له، لذلك يجب أن يخضع للنقد كأيّ تراث،فالقرآن ليس وحيًا كما هو متوارث بل هو نصّ أسطوري mythiqueتاريخي تحوّلت معانيه وبُدّلت بفعل تناول الفكر الإنساني – وممارسة المسلمين الإيديولوجية – لها،فلم يعُد نصّا دينياً أصيلا بل أصبح إنتاجا إنسانيّا،وهكذا يجب التعامل معه، بذلك يسعى أركون إلى غرض كبير من أغراض الاستشراق والتغريب هو “أنسنة” الإسلام وخلع الصفة الربانية عنه.
وقد تكرّر في كتابات الرجل عبارات واضحة جليّة يعبّر فيها عن انزعاجه البالغ من تعظيم القرآن وتقديسه واعتباره معجزا وخالدا،ويعدّ كلّ ذلك “إشادة دفاعية عنه” وتحنيطا عاطفيّا له ودليلا على التحجّر والتزمّت والجموح العاطفي.
إنّ من أهمّ ما يهدف إليه أركون في كتاباته – كما يقول محمد بن حامد الأحمري- نزع الثقة من القرآن الكريم وقداسته واعتباره نصاً أسطورياً قـابـلاً للـدراسـة والأخذ والـرد،وهو يغالط كثيراً في معنى كلمة “أسطورة” لكنّه يحمّلها معانيها الأصلية التي تشير إلى الخرافة والأسطورة والوضع الإنساني،والقرآن بزعم أركون لم يصلنا بـسـند مـقـطـوع الـصـحـة؛ لأنه لم يُكتب كلّه في حياة الرسول – صلى الله عـلـيـه وسـلـم – بل كُتبت بعض الآيات ثم استكمل العمل في كتابة القرآن بعد وفاته، وهذه من الـمـغـالـطـات الـتـي يسوقها أركون ويخلط فيها بين قـضـيـتي الجمع و الكتابة، بعد ذلك يشكّك في القصص القرآني – في نفس السياق الذي بدأه طه حسين – ويرى أن التاريخ الواقـعـي المحسوس هو الذي يحاكَم إليه القرآن، فالأخبار والآثار التاريخية هي وحدها الـمـوثـوقـة!
ولـنقرأ له هذا النص الذي تكرر نظيره في مؤلّفاته:
”ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس”.
ويرى أنّ القرآن عمل أدبي لم يدرس كما يجب إلاّ من قِبَل قلّة من أمثال “محمد أحمد خلف الله” – وهو شيوعي مصري معاصر- عندما كتب عن القصص الفني في القرآن وقال إن القصة الـقرآنـيـة مـفـتـعـلـة، ويـقـول عن كتاب الله: “إنّ الـقـرآن – كما الأناجيل – لـيـس إلاّ مـجـازات عالية تتكلّم عن الوضع البشري، وهذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً، أما الوهم الكبير فهو اعتقاد الناس – اعتقاد الملايين – بإمكانية تحويل هذه التعابير المـجـازية إلى قـانون شغال وفعال ومبادئ محدودة تطبّق على كل الحالات وفي كل الظروف”.
ويقول في موضع آخر:
“إن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقَّى بصفتها تعابير أدبية، أي تعابير محوّرة عن مطامح ورؤى وعواطف حقيقية يمكن فقط للتحليل التاريخي السوسيولوجي والبسيكولوجي اللغوي – أن يعيها ويكشفها”.
· مكانة السنة عنده:
لا تقلّ جرأة أركون في التشكيك في ثبوت القرآن الكريم عن جرأته في إنكار السنّة النبوية والزعم بـأنّ الظروف السياسية وأوضاع المجتمعات التي انـتـشـر فـيـهـا الإسلام احتاجت إلى أحاديث فاختلقتها لتدعّم مواقفها السياسية والمذهبية، و يرى – تماشيا مع منهجه الثابت – أنّ الـحـديـث جـزء مـن التراث و يجب أن يخضع للدراسة النقدية الصارمة مثل كل الوثائق والـمـواد المـوروثة كما يسميها، ثم يـقـول:”وبالـطـبـع فـإنّ مـسـيـرة الـتـاريخ الأرضي وتنوّع الشعوب التي اعتنقت الإسلام قد خلقت حالات وأوضاعاً جديدة ومـسـتـحـدثـة لـم تـكـن مـتـوّقعة أو منصوصاً عليها في القرآن ولا في الحديـث، ولكي يـتـمّ دمجها وتمـثّلها في التراث لَزمَ على المعنيين بالأمر أن يصدّقوا عليها ويقدّسوها إما بواسطة حـديـث للنـبي ، وإما بواسطة تقنيات المحاجة والقياس” ، فالحديث – عنده – كالقرآن شأن إنساني بحت تصاحبه النيات السيّئة!
· الأسلوب والوسائل:
ملأ أركون الدنيا وشغل الناس بحديثه المتكرّر عن نقد العقل الإسلامي – ويقصد بوضوح لا لبس فيه الإسلام ذاته كدين – وأعلن أنّ ذلك لا يتمّ إلاّ باعتماد أدوات النقد الحديثة، أي التي أنتجتها الثقافة الغربية العلمانية، المتّصلة بالعلوم الانسانية والاجتماعية وعلى رأسها اللسانيات والتاريخ وعلم النفس والأنثروبولوجيا قصد “فتح أقفال التراث الاسلامي التي ما زالت مُحكمة الإغلاق من طرف علم كهنوتي مقدّس يحول دون الكشف عن وجهه المعرفي” على حدّ تعبيره، ويضيف “لا يمكن تناول التراث الاسلامي عَبر أدوات بالية موروثة عن الدراسات الاسلامية الكلاسيكية”.
والحقيقة أنّ أركون يهوّل أمر النقد ووسائله لكنّه يعمد فقط إلى المراوغات اللفظية وحيَل التعبير ليمرّر قناعته الراسخة بضرورة علمنة الإسلام و”أنسنة” الدين،وكثيرا ما يُبدي إعجابه بالمسيحية التي وُجد فيها مَن تحرّر من الدغماتية واقتحم ميدان النقد الجذري لها كأنّها مادة بحث عادية يجوز الخوض فيها لأنّها شأن انساني، وهو ما لم يحدث في الاسلام بسبب المفسّرين والفقهاء والمحدّثين والأصوليّين الذين فرضوا عليه الجمود والتحنيط لأسباب إيديولوجية ومصلحية وحالوا دون تطويره وتقويمه وفق معايير علمية معرفية موضوعية !!!
· خلاصة
يلاحظ الدارس أنّ أعمال أركون ليست تجديداً ولا اجتهاداً ولا بناءً، إنّما هي النقد الهدّام للدين ذاته، فهو يستبعد الإيمان نهائيّاً ويلغي بذلك البعد القيمي والأخلاق في حياة المسلمين ويستبدل به – في النهاية – التفسير الماديّ الّذي يستصحب “الأنسنة” المطلقة حتّى للأخلاق والوجدان ،كما يستصحب “علمنة” الحياة الاجتماعيّة والسيّاسيّة للمسلمين لأنّه لا يتبقّى بعد نقده اللاذع “العلمي” للمصادر المؤسّسة للإسلام أيّ حقائق ولا معان دينيّة، فالقرآن والإنجيل – كما يقول ويؤكّد ويكرّر – في مستوى واحد من الثبوت والدراسة، وهما محلّ شكّ وجحود، فماذا بقي سوى العدم ؟إذ كيف لدين مطعون في ثبوته ونسبته السماوية – فضلاً عن أحكامه – أن ينظّم حياةً بشريّة معقّدة؟