04 يناير 2014 بقلم
صلاح الدين الجورشي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:قبل حوالي سبع سنوات من كتابة هذا المقال، التقيت على غير ميعاد بالأستاذ راشد الغنوشي بأحد فنادق العاصمة السويسرية جنيف. وفي أثناء الحديث، بادرني بالاستفسار عن رأيي فيما وصفه بـ"الصحوة الدينية الثانية" التي اجتاحت تونس في تلك الأيام. وكان يقصد بذلك الإقبال المفاجئ لآلاف التونسيين على المساجد، وبالأخص الشباب منهم، وذلك بالرغم من استمرار هيمنة نظام بن علي على كل ما له صلة بالمجال الديني. وكانت الفرضية التي اعتمد عليها رئيس حركة النهضة يومها، قوله بأن الشعب التونسي "يشعر بعقدة ذنب، لأنه عندما تعرض الإسلاميون للاضطهاد والقمع الواسع، لم يقف إلى جانبهم أو يدافع عنهم". ولهذا علل هذه "الصحوة" بكونها "تكفير عن ذلك الإحساس بالتقصير في حق الحركة الإسلامية".
لقد فوجئت فعلا بتعليل الظاهرة من قبل شخصية خبيرة في شؤون الحركات الإسلامية بحكم الانتماء والتأسيس، ووجدت نفسي مضطرا لأشرح له المسألة من زاوية مختلفة. فأشرت له بأن البلاد بدأت تمر مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، بتحول نفسي وثقافي ملموس، وأن هؤلاء الشبان الذين أقبلوا على التدين لا يعرفون الشيء الكثير عن حركة النهضة، ولم يطلعوا على أدبياتها، ولا يعرفون قياداتها، بل منهم من هو ناقد للحركة، ورافض لخطابها، وساحب منها شرعية التحدث باسم الإسلام. وختمت حديثي بالقول: "إنه التدين السلفي الذي قد تعاني منه الحركة كثيرا في مستقبل الأيام".
السلفية بمختلف تياراتها، سواء التقليدية أو الإصلاحية أو الجهادية، تعتبر ظاهرة جديدة في السياق التونسي. لقد بدأت تخترق أجواء هذا البلد مع أواخر التسعينيات، وذلك عن طريق الفضائيات السلفية التي تأسست في مصر وبعض دول الخليج. وبما أن النظام السابق قد شن حملة ضد مصادر التدين غير الرسمية؛ فقد وفر بذلك الفرصة للمتعطشين للثقافة الإسلامية إلى التأثر بهذا الخطاب القادم إليهم من فوق الحواجز التقليدية، وبذلك أصبح جزء من التونسيين يتلقون معلوماتهم الدينية من وراء الحدود، في بلد كانت الزيتونة فيه تصدر الخطاب الديني، وتجعل من تونس قبلة الراغبين في امتلاك المعرفة بالعلوم الإسلامية.
لم يتفطن نظام بن علي لخطورة التحول الذي حصل في أذهان البعض من الشباب، إلا عندما اكتشف عن طريق الصدفة مجموعة مسلحة، خاض ضدها معركة ضارية وسريعة في مدينة سليمان التي تقع على بعد مسافة قصيرة من العاصمة. وقد تمكن يومها من الإجهاز على ستة عشر من أبرز عناصر هذه المجموعة، قبل أن يشن حملة أمنية واسعة النطاق خلط فيها الحابل بالنابل، وامتلأت السجون نتيجة ذلك بأكثر من ألفي معتقل من أبناء التيار السلفي، أو القريبين منه. وبدل أن ينجح النظام في اقتلاع هذا التيار كما كان يتوهم، حصل العكس حيث ثبته في الأرض التونسية، ووفر له "شهداء ومراجع وقيادات ميدانية"، وبذلك توفرت كل مقومات السلفية الجهادية في تونس.
بدأت متاعب حركة النهضة مع السلفيين بعد قيام الثورة، وإطلاق سراح جميع معتقليهم في سياق ما سمي بالعفو التشريعي العام. وفي البداية حرص أغلب قادة الحركة على استقطاب السلفيين، وتحويلهم إلى أنصار أو حلفاء، كما عملوا على إقناعهم بضرورة التصويت لمرشحي الحركة، باعتبارهم "حماة الإسلام في تونس". وبما أن السلفيين التونسيين لم يكونوا في غالبيتهم متحمسين لمسألة المشاركة في الانتخابات، إلا أن اتصالات وحوارات قامت بها كوادر عليا من النهضة، عملت على تأصيل العملية الانتخابية، باعتبار أن الصوت أمانة يحاسب عليه صاحبه يوم القيامة. لكن مع ذلك، فإن العقبة الرئيسة كانت مع جماعة "أنصار الشريعة" الذين تمسكوا بـ"خصوصيتهم"، وتبين تدريجيا أن أجندتهم كانت ولا تزل مختلفة مع أجندة حركة النهضة.
في هذا السياق، شكلت مسألة "الشريعة" الأساس لتعميق الفجوة بين النهضة والسلفيين، الذين يعتقدون بأن الشريعة هي الإطار التشريعي والمرجعي الذي يجب أن يحكم الدولة والمجتمع، والسلوك الفردي في كل التفاصيل وجميع القطاعات. والشريعة عندهم نظام جاهز ينتظر من يطبقه وينزله على الواقع. لهذا اعتبروا أن تخلي الحركة عن التنصيص على الشريعة في مسودة الدستور خيانة للمشروع الإسلامي، وتنازل غير مقبول للقوى الغربية والعلمانية. وجاء الرد الأعنف من "التيار الجهادي"، وذلك على لسان زعيم تنظيم القاعدة "أيمن الظواهري" الذي اتهم حزب حركة النهضة بأنه "ينتهك قدسية القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بقبوله دستورًا لا يتخذ من الشريعة مصدرًا وحيدًا للتشريع". وأضاف أن هذا الحزب يفضل "إسلامًا مقبولاً من وزارة الخارجية الأمريكية والاتحاد الأوروبي ودول الخليج، إسلامًا يقبل بشواطئ العراة وأندية الميسر".
المسألة الخلافية الثانية بين الطرفين تتعلق بالديمقراطية كنظام سياسي، حيث يعود معظم السلفيين بالفكر الإسلامي الحركي إلى نقطة الصفر التي وضعهم فيها المرحوم سيد قطب عندما شبه الديمقراطية بالصنم، وجعل منها إحدى نواقض الإيمان، عندما حولها إلى "دين" مقابل الدين.
أما المسألة الثالثة التي أفاضت الكأس، فهي لجوء "التيار الجهادي" إلى استعمال العنف المسلح ضد أجهزة الدولة، وتصفية الخصوم العقائديين والسياسيين، من خلال اغتيال معارضين من الجبهة الشعبية التي تجمع يساريين وقوميين، وهو ما أفقد قيادة حركة النهضة أعصابها، وجعلها تقرر الدخول في معركة حاسمة مع رافعي السلاح في وجه الدولة.
ترتبت عن هذا الصراع جملة من التداعيات الخطيرة، يمكن اختزالها في نقطتين رئيستين:
- أولا: الانتكاس بالخطاب الإسلامي، حيث إن الخطاب السلفي لا يتوافق في جزء من أطروحاته مع متطلبات المرحلة، ولا يعكس الأهداف التي فرضتها الثورة. فتصحيح العقائد مسألة مهمة، لأن العقيدة كلما كانت سجينة مفاهيم خاطئة أو سلبية، كلما انعكس ذلك على السلوك، وعلى رؤية المؤمنين للوجود، ولدورهم في الحياة وفي المجتمع. لكن ما يخشى في هذا السياق، أن يختزل تصحيح العقيدة في رؤية مذهبية واحدة، مع إقصاء بقية الرؤى والتأويلات، وهو ما يؤدي عمليا إلى إعادة تغذية صراع قديم لا تتحمله المرحلة الحالية التي يمر بها المجتمع التونسي. فالمعركة التي يصر عليها عموم السلفيين ضد الأشعرية، من شأنها أن تجعلهم في صدام مع أغلبية التونسيين، لأن الأشعرية هي التي استقرت في منطقة المغرب العربي بما في ذلك تونس، وهو ما يفسر مناهضة الزيتونيين والقرويين في المغرب وأنصار جمعية العلماء في الجزائر، وعموم الشيوخ في ليبيا يشنون قبل هذه المرحلة حملة مضادة لهذا النمط من السلفيين، ويصفونهم بالتكفيريين. فالدفاع عن صفاء العقيدة، كما حددته مراجعهم، يمكن أن يوقع أتباعهم في مطلب الإقصاء والتكفير، بل وحتى ممارسة العنف، وهو ما كشفت عنه معاركهم ضد المتصوفة والشيعة، وغيرهم من أصحاب المذاهب والديانات.
لقد أثر ذلك على الأجواء الدينية والفكرية لتونس ما بعد الثورة، وأسهم بقوة في تغذية المعارك ذات البعد الأيديولوجي. ومما زاد من حالة الارتباك العام تذبذب قيادات حركة النهضة في التعامل مع الصعود السلفي، وعدم اتخاذ مواقف حاسمة على الأصعدة الفكرية والسياسية والأمنية، وهو ما جعلها محل اتهام أوساط واسعة، بكونها تستعمل الورقة السلفيــــة " لحماية قاعدتها الانتخابية، وابتزاز خصومها ". يضاف إلى ذلك، أنه بالرغم من اختلاف خطاب زعيم الحركة السيد راشد الغنوشي عن عموم الخطاب السلفي السائد بالمشرق العربي، إلا أن جزءًا مهما من أنصاره – وحتى بعض قادة الحركة - متأثرون بهذا الخطاب، ويدافعون عنه وعن أصحابه؛ أي أنه بدل أن تؤثر حركة النهضة في الحالة السلفية الناشئة في تونس، حصل العكس، حيث تمكنت هذه الحالة من " تسليف " جزء لا بأس به من قواعد الحركة.
- ثانيا: اضطرار حكومة حركة النهضة إلى الدخول في معركة كسر عظم مع "الفصيل الجهادي" في التيار السلفي، وهو ما عمق الفجوة بين الطرفين على الصعيد الحركي، ووفر فرصة للقوى العلمانية إلى شن هجوم قوي ضد الحركة، واتهمها بــ "ازدواجية الخطاب والتكتيك". كما وجدت حكومة الترويكا نفسها مدعوة إلى أن تصبح جزءًا نشيطا في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية للحرب على الإرهاب، وذلك بعد أن تأكدت العلاقات العضوية التي توحد جزءًا من الأطراف الداخلية مع شبكات إقليمية ودولية تعتبر نفسها تخوض "معركة مقدسة". فالجماعات الدينية المسلحة أهمت بقوة في تحويل حركة النهضة إلى حليف لواشنطن.
وأخيرا، لقد زادت التهديدات الأمنية في إضعاف الأداء الأمني للتحالف الحاكم الذي تزعمته حركة النهضة، وهو ما جعلها تضطر، بعد مواجهة سياسية واسعة النطاق مع المعارضة، إلى القبول بالخروج من الحكومة قبل الوصول إلى تنظيم انتخابات سابقة لأوانها. ولهذا يعتقد جزء من النهضويين بأن تيار "السلفية الجهادية" قد شارك بقسط وافر في إفشال تجربتهم في السلطة.