2013-11-13 السياسة على مستوى النظرية
|
| |
من بين الأمور التي استوقفت من كتبوا عن المرحوم سالم يفوت، إثر غيابه عنا، ما دعاه البعض "عزوفه عن السياسة"، بل إن منهم من رأى في الاهتمام الذي ما فتئ يوليه لمبحث الإبيستمولوجيا، بعد تجربة السجن القاسية، تأكيدا لذلك العزوف، وعلامة على اليأس من النضال السياسي.
ولعل تصوّرا معينا عن الإبيستمولوجيا قد يزكّي هذا الرأي، إذ لا ينبغي أن ننسى أن الاهتمام بقضايا العلم وفلسفته قد اعتبر، لمدة غير قصيرة، مبحث الوضعيين بلا منازع، وملجأ كل من يهوى التحليل المجرد والوصف "البارد" البعيد عن كل نفي لواقع الحال.
طبيعي إذاً، أن يقال عمن كان ينخرط انخراطا كليا في النضال السياسي، وينتظم في نشاط حزبي وينضوي انضواء لا يعرف الفتور. إنه، عندما توَجَّه بكل اهتمامه نحو البحث الأكاديمي، والإبيستمولوجي على الخصوص، طلق السياسة وتحصن بالمعرفة العلمية وفلسفتها.
وعلى الرغم من ذلك، فلا يخفى أن كل هذا يظل رهينا بما نعنيه اليوم بالإبيستمولوجيا، وبالأخص بما نعنيه بالنضال السياسي والانضواء الفكري.
لا ينبغي أن ننسى أن تفتّح المرحوم على العلوم وفلسفتها، كان في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ أي في فترة عرفت رواجا كبيرا للهزة التي تمخضت عن إعادة القراءة التي قام بها لوي آلتوسير وجماعته للفكر المادي الجدلي، وأن آلتوسير نفسه، الذي كان أحد تلامذة غاستون باشلار، جاء من الحزب الشيوعي، ولكن أيضا من الإبيستمولوجيا.
ولعل من أهم إسهامات المفكر الفرنسي في هذا الباب، كونه تمكن من إعادة النظر في ما رسَّخته القراءات التقليدية للمادية الجدلية عن مفهومي البراكسيس والنظرية، فقام بخلخلة هذا الثنائي،ونحْتِ مفهوم "الممارسة النظرية"، وإعادة النظر في علاقة الفلسفة بالسياسة، فحاول إرساء أسس فلسفة "لا تكف عن التدخل سياسيا في المجادلات التي يتقرر فيها مصير العلوم، لتفصل العلمي الذي تقيمه العلوم عن الإيديولوجية التي تهدده"، فلسفة "لا تكف عن التدخل علميا في الصراعات التي يتقرر فيها مصير الطبقات الاجتماعية، لتفصل العلمي الذي يخدم تلك الطبقات عن الإيديولوجي الذي يهددها".
نعرف جميعا القيمة الكبرى التي يعطيها آلتوسير لهذا "التدخل" الفلسفي، الذي حتى وإن كان يمثل في مجرد وضع خط فاصل بين العلمي والإيديولوجي، فإن مفعوله السياسي بعيد التأثير على النظرية وعلى الممارسة، أو لنقل على النظرية بما هي ممارسة وبراكسيس.
لا داعي لاستعراض كل النتائج التي تمخضت عن هذا "التحويل" لوظيفة الفلسفة ومكانة الإبيستيمولوجيا، ويكفي أن نذكر أن من أهم تلك النتائج نقل مفهوم الجهوية الذي وظفه باشلار في حقل فلسفة العلوم، إلى مجالات أخرى لعل أهمها مجال النضال السياسي.
وهكذا، فقد تبين أن تكريس قيم العقلانية لا يمكن أن يتم إلا قطاعيا، كما اتضح، أن من بين أشكال تحويل الواقع تحويل النظرية كذلك، وتحويل المفهوم الذي كرسه التقليد عن الواقع ( وهنا يتضح لنا أنه ليس من قبيل الصدفة أن ينصب موضوع أطروحة المرحوم للدراسات العليا بالضبط على المفهوم الاختباري عن الواقع).
قد يقال إن هذه الممارسة للسياسة في النظرية، لا بد وأن تظل ممارسة محدودة، أو كما قلنا ممارسة قطاعية. وقد كان آلتوسير نفسه على وعي بمحدوديتها؛ فقد كتب في "لينين والفلسفة": "إن بإمكان هذه الممارسة الجديدة للفلسفة أن تحوّل الفلسفة، وإن بإمكانها، بالإضافة إلى ذلك أن تساعد على قدر استطاعتها، على تحويل العالم، أقول أن تساعد فقط على ذلك التحول، لأن التاريخ لا يكون من صنع المشتغلين بالنظرية، علماء أكانوا أم فلاسفة".
لكن رغم هذه المحدودية، فإن هذا الانكباب على الإبيستيمولوجيا هو ممارسة للسياسة في قطاع نظري، وهي ممارسة تتعدد جبهات نضالها بتعدُّد قوى المقاومة التي تتخذ أشكالا متنوعة، وتتحصن بتاريخ العلم، مثلما تتحصن بالقلب الإيديولوجي والعنف السياسي.
على هذا النحو، لن يعود العزوف المزعوم سوى استبدال لنضال ضيق، يضع نفسه يسارا ضد يمين مطلق، بنضال جهوي قطاعي يتصيد الأوثان أنى وجدت، ويتعقب الأوهام كيفما كان لبوسها.