أحمد الزعتري ورشا حلوة
تركت سيزاريا إيفورا قارورة الكونياك وعلبة السجائر على الخشبة، وقرّرت الاعتزال في جزيرتها الأولى. المغنية التي حملت المورنا إلى مسارح العالم، ودّعتنا السبت الماضي عن سبعين عاماً، بعدما خذلها قلبها المليء بالحنين، وذكريات الفقر، ورواسب الكحول...
لماذا قد يقع العالم في غرام امرأة سمراء، على مشارف شيخوختها، تغني حافية عن جزيرة منسيّة؟ ما هو سر الافتتان بديفا الرأس الأخضر سيزاريا إيفورا (1941 ـــ 2011) التي غادرتنا قبل أيام؟ ومثلها عجائز سمراوات أهلكهنّ الوقت من دون أن ينهك إرثهنّ، مثل شافيلا بارغاس، وماما أفريكا، وبي كيدودي، ونينا سيمون... تكمن الإجابة ربّما في سِير فنانات شققن طريقهنّ ضد «القدر الأسود»، ضدّ الاستعمار، والعبوديّة، واليُتم، والعنصريّة. كان على سيزاريا إيفورا أن تحارب كلّ ذلك، حتى توفيت أخيراً عن 70 عاماً، بعدما أنهكتها العمليات الجراحيّة التي خضعت لها أخيراً.
كان على سيزاريا إيفورا أن تحارب الحياة ذاتها، لتصير قادرةً على إطلاق ضحكتها النادرة على المسرح، وتنسحب قليلاً إلى طاولتها وسط الخشبة، لتدخّن، وتشرب الكونياك، نصف راضية، ونصف مخذولة، ثم تعود لتغنّي Besame mucho. اشتهرت الأغنية بصوت سيزاريا، وكانت مؤلّفتها المكسيكيّة كونسويلو فيلاسكيز قد كتبتها بعمر الـ 21، لأنّها لم تكن قد حظيت بعد بقبلة واحدة... أمّا إيفورا، فقد حظيت بكل شيء قبل الشهرة. لا بل إنّها استهلكت حياتها قبل أن تعتلي أهم المسارح العالميّة، وهي في عقدها الخامس. في جزيرة ساو فيسينتي، إحدى جزر أرخبيل الرأس الأخضر الأفريقي (المحيط الأطلسي)، ولدت سيزاريا لعائلة بحّارة فقيرة عام 1941، كحال كلّ أهل الجزيرة. كان والدها عازفاً على الغيتار والكمان، توفي وهي في السابعة. وألحقتها والدتها الطباخة بميتم في العاشرة. بقيت في الملجأ ست سنوات. لا أحد يعرف كيف مرّ عليها الوقت هناك. لا تتكلّم كاهنتنا الحافية عن الموضوع، ولم تشر إليه في أيٍّ من أغانيها. اختارت تكثيف تجربتها بالحنين: Sodade، كما تقول أشهر أغنياتها. وبلغة بلدها الأم الكريول، غنّت عن الرأس الأخضر «أرضها الثمينة»، وعن «مقهى أتلانتيك» المتخيّل، الذي «يؤوي الأرواح الهائمة في العالم»، وعن «البحر الأزرق»، وساو فيسينتي، التي تصير برازيليّة أثناء كرنفالها. كان هذا بعد عقود من الصعود على البواخر السياحيّة البرتغاليّة، والتجوّل في حانات البحّارة للغناء. في السادسة عشرة، بدأت سيزاريا مهنتها، حافيةً. كانت تغني مقابل عدة كؤوس من الكونياك... بقيت تفعل ذلك ثلاثين عاماً. حتى بعد اتساع شهرتها عالمياً، حافظت على عادة الغناء حافية القدمين، لأنّها لم تكن تمتلك في طفولتها ثمن حذاء كباقي أطفال الجزيرة. فسّر ذلك كـ«تضامن مع الفقراء»، ولم يفهم الغرب أنّ عدم انتعال حذاء حالة ثقافيّة في بلاد سيزاريا. بعد ثلاث زيجات انتهت بالطلاق، وصلت صديقتنا إلى أوروبا عام 1982، تلبية لدعوة مواطنها بانا، وجمعية المرأة في الرأس الأخضر، لتجرب حظّها في لشبونة. خذلتها المدينة البرتقاليّة. لم تبد أيّ شركة إنتاج اهتماماً بنوع الغناء الذي تمتهنه، أي المورنا، موسيقى الرأس الأخضر التقليدية. إلى أن عثر عليها موسيقي فرنسي مغمور، ودعاها إلى تسجيل أسطوانة في باريس. هكذا ولدت أسطوانة «الديفا الحافية» (1988). كانت «سيزي» ـــ كما يلقبّها المقربون منها ــ تبلغ آنذاك 47 عاماً. مدخّنة شرهة، ومدمنة على الكحول، تطلّ على شيخوختها كما يُطل بلدها على البحر. ربما هذا ما جذب المنتجين لإصدار أسطواناتها الواحدة تلو الأخرى، ومنها Mar Azul (1991) وMiss Perfumado (1992)، فيما بدأت بالغناء في المسارح الكبيرة، أطلقت أسطوانتها الثالثة شهرتها عالميّاً، وخصوصاً مع انتشار أغنية Sodade.
أضفت موسيقى المورنا عليها هالة غير مكلفة وطازجة. وهي موسيقى تشبه الفادو البرتغاليّة الأصل، والبلوز الأفرو ــ أميركيّ. كان من السهل مزج المورنا مع هذين النوعين، في خدمة الصوت الذي ينضح بحزن البحارة وقهر العبيد وتيه العشّاق المتعبين... هكذا انطلقت سيزاريا عالميّاً لتسجيل 11 أسطوانة، والترشّح لجوائز «غرامي». قدمت أعمالاً مشتركة مع المغنّي الإسباني الشهير كايتانو فيلوسو، والمالي ساليف كيتا، وتعاونت مع الصربي غوران بريغوفيتش.
بعد أيام على احتفالها بعيد ميلادها السبعين في آب (أغسطس) الماضي، أعلنت إيفورا أنّها ستعتزل، لتعود إلى منزلها في الرأس الأخضر. وقالت آنذاك في لقاء مع صحيفة «لو موند»: «آسفة، لكنني يجب أن أستريح الآن. لم تعد لدي طاقة. وددت لو أنني أستمر في منح البهجة لأولئك الذين تابعوني طيلة هذه السنوات». في المقابلة، قالت سيزي إنّها تشعر بالرضى عن مسيرتها، لكن ثمّة ما كان يسحب منها حياتها شيئاً فشيئاً. ثمّة من سحب منها حذاءً، واضطرها إلى التوقف عن شرب الكونياك. في منزل عائلتها الذي رمّمته ليستقبل أصدقاءها وعائلتها، استعاد صوتها، لكن، بالطبع، لا أحد يمكنه استعادة كل آلام الحنين حين تغنّي: «ثمّة أشخاص كثيرون يعانون من الوحدة. أشخاص كثيرون مشرفون على الموت، من ذلك الشّفق الذابل».
المرأة العجوز والبحر
في غمرة انشغال العالم بشهرة سيزاريا إيفورا، نسي الجميع أنّه أمام سيّدة عجوز، بقلب هتّكته حياة الفقر والتدخين والشرب. في السنوات الأخيرة، أجرت صاحبة Sodade عمليات جراحيّة عدة لقلبها، كانت آخرها عملية قلب مفتوح سنة 2010، بعدما أحيت حفلة في باريس. وكما بدأت حياتها في البحر، قدّمت سيزي آخر حفلاتها على باخرة سياحيّة في فرنسا في الربيع الماضي، قبل أن تعلن اعتزالها في أيلول (سبتمبر).
Sodade شوق الطريق الطويلرشا حلوة
ارتبطت «الديفا الحافية» في ذاكرتي بأغنية Besame Mucho أكثر من أيّ أغنية أخرى... رغم أنّ الأغنية ليست لها في الأساس، ولم تكتب بلغتها الأم. لكنّ الأغنية التي كتبت في عام ولادة سيزاريا إيفورا، ارتبطت بها، وصارت النسخة المغناة بصوتها أجمل تسجيلات الأغنية الشهيرة... حين علمت برحيل إيفورا، لم أسمع أغنيتي المفضلة. شعرت بأنّه من واجبي الاستماع إلى «سوداد»، الأغنية التي ربطها النقاد كثيراً بحياتها، وذلك لجمال الأغنية، وثقلها في الوقت ذاته. تعني كلمة Sodade أصعب أنواع الشوق، ولحنها الغارق في موسيقى الفادو البرتغالية، محمّل بالكثير من الحزن، والفراق، والوداع، وأمل اللقاء. رحت أبحث عن فيديو للأغنية على موقع يوتيوب، فوقعت على تسجيل مدته 7 دقائق، من إحدى حفلاتها الموسيقية. على المنصة، وإلى جانب الفرقة الموسيقية، وُضعت طاولة مغطاة بشرشف أزرق، عليه زجاجة، وكأس، ومنفضة ملأى بالسجائر. جلست إيفورا على كرسي أمام الطاولة، بدأت العزف، والسيجارة المشتعلة لا تزال في يدها.
لم تقف فوراً، بل انتظرت أن يحين موعد غنائها، فوضعت السيجارة على المنفضة، وقامت لترقص وتغني. تقول الأغنية: «من سيدلّك على الطريق البعيد؟ الطريق إلى ساو تومي (جزيرة)؟»
كم يشبه هذا المقطع المصوّر حياة ابنة رأس الأخضر التي اعتزلت قبل ثلاثة أشهر، بعد تدهور حالتها الصحيّة إثر إفراطها بالتدخين وشرب الكحول. نراها جالسةً على الكرسي بكامل سكينتها، غير مستعجلة على شيء حتى الغناء. الموسيقى تستطيع أن تنتظر لحين انتهاء هذه السيجارة، وهذه الكأس. انتظرت الموسيقى طويلاً. هي لم تسجل باكورتها إلا عام 1988، حين كانت في السابعة والأربعين.
بعدما غنّت المقطع الأول، علت الموسيقى من جديد. فرجعت حافية القدمين إلى طاولتها وسيجارتها. جلست ومسحت العرق عن جبينها. في هذه الأثناء، كان أحد عازفي الغيتار يتجوّل على المسرح مبتسماً، وجاء ليقف وراءها، كأنّه يحاول ملاعبتها. لم تنتبه له، ولم تجاره في لعبته، بل واصلت طقسها الخاص: تسمع الموسيقى، وتدخّن سيجارتها. حين لاحظت وجوده أخيراً، أطلقا معاً ضحكتين تلقائيتين وعاليتين.
عادت لتحمل المايكرفون، ووقفت لتنهي أغنيتها الحزينة، بخفة وسعادة. ضحكت ضحكة خجولة. كأن الجمهور سينسى الشوق بعد قليل، ليبقى معها، هي وحدها كالصدى... بعد وداعها الأخير، ستبقى أغنية «الشوق» هذه تحكي قصتها. لكنّ الديفا لن تسمع بعد الآن تصفيق الجمهور. لكنّ الملايين حول العالم لن ينسوها، ولن ينسوا الـ «سوداد»، وذاك الطريق الطويل.