لفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور في حوار طويل غير منشور
|
| |
تحتفل فرنسا بمرور مئة سنة على ولادة الفيلسوف بول ريكور (1913 2013) وجهاً كبيراً من وجوه الفكرة الفرنسية في القرن الماضي، ومن أعلام الثقافة والفكر والعاملين بجدلية مهمة بين الذاتية والهوية في سيرة شخصية مختبرة صارت سيرة المدينة الفرنسية الفكرية والعوالم الانسانية وسيرة الذات والهوية التي هي مستوى الآخر من فلسفة تأملية عميقة جداً.
وفي سياق الاحتفالية وتحية لمسيرة كاملة من عطاءاته ومجالات الثقافة والفكر أعادت مجلة "الفلسفة" في عددها الأخير (Philosophie) نشر مقابلة كانت أجرتها ولم تنشرسابقاً مع ريكور في العام 1997 في لقاء بقي بعيداً عن الأضواء وهو لقاء يحمل الكثير من عناصر المفاجأة والدهشة لصراحة ريكور ونضارته الفكرية القائمة وجرأته في التصدي الى قضايا ما تزال قائمة لليوم. وهنا مقتطفات من ذلك اللقاء المهم، الذي يتأسس على حوار شخصي وعاطفي ويتضمن القبض على السمات المميزة لمساره الفلسفي المتميز والثري جداً والمعقد بالتحولات بين الفلسفة والأدب.
ذلك أن بول ريكور يدخل في العام 2013 عامه المئة، وهي سنوات طويلة ومشروع ضخم جداً اقترن بالكثير من الأسئلة التأسيسية بالنسبة لعلم دراسة الظواهر الوحدوية والتحليلية التقليلية والبنوية. بول ريكور رجل يعرف الكثير من الالتزامات والتعهدات. وأهمية اللقاء "المجهول" من أنه يأتي تعبيرأ عن دائنية كبيرة عبّر عنها بمجموعة لقاءات معتصرة جداً في العامين 1986 و1997 أجراها من منزله في "شابتئيه مالابري" بحيطانه البيضاء.
رجل حركت أفكاره طويلاً الشارع الفكري الفرنسي، سواء بحركتيه أو مخطوطاته المحفوظة جيداً على الكراسي ودائماً في حدود دائرة "الطبيعة والقاعدة"، الى حواراته في مجال العلوم والتجربة الحياتية وانشغاله القوي بالفيتومينولوجيا والهرمنوتيقا وعلم التأويل..
دائماً هو بول ريكور الحاضر، الحيوي، الدافئ، الدينامي وبالتأكيد المشعّ والمقاتل على عدة جبهات.
[الموت كان حاضراً كثيراً في حياتك، فقدت والدتك وكان عندك بضعة أشهر، ووالدك فقد في الحرب 1914 1918 حين كان عمرك لا يتجاوز السنتين، كيف تقيّم هذا وأنت التي صرت صدفة عين الوطن؟
ـ هذا أمر فضولي ولافت للنظر كفاية. لأنه بالمعيار نفسه الذي كنت أنمو فيه وأكبر كان الأمر يصير سؤال الشباب نفسه. هذا الأمر كان يشكل الحس المادي الذي سيقضي على العقل ونوعاً من التمرد والعصيّ إزاء شكوى وظلامة من مظاهر التصنع والتفكر الذي عشته وكنت أقول في نفسي "آه، أيها الفقير، أيها اليتيم!"، هذا أمر أثّر فيّ كثيراً.
في العمق، لا أتذكر أن تألمت كثيراً من غياب والدتي لأنه كان عندي تلك العلاقة مع جدّي وجدّتي ومع عمّتي وهي علاقة كانت خاضعة لي على نحو كبير. كان لديّ تلك الحياة الداخلية الخاصة والحميمة.
الفيلسوف هو أول من شعر بصعوبة ما، منذ ولجت هذا الفضاء، فضاء النصح ولنقل منذ أواسط الثلاثينيات في القرن العشرين حيث عبرت بفيض من المشاهد الفلسفية.
[ماذا تريد أن تقول؟
ـ انغمست باكراً في حياة القارئ. غرقت في عالم الأدب باكراً. كنت تلميذاً جيداً في المدرسة. لم أشعر بذلك الفقدان.
لاحقاً، ما أن أصبحت في سن والدي وتجاوزتها، حتى كان لدي ذلك الانطباع بعلاقة، هكذا بالمصادفة، مع تلك الشخصية في تلك الصورة الأكثر شباباً مني. وجدت ذلك في قراءتي "الرجل الأول لكامو" تكلم كامو عن "الأب الأصغر من الأخوة". اختبرت نفس الشعور. حين نتقدم بالعمر نفهم جداً أكثر طبيعة هذا الشعور، وتتحرك كجزئية إلكترونية حرة، وأكثر من ذلك، مثل حلقة في مسلسل الأجيال.
معسكرات الموت
[كانت حياتك مشبعة بإحساس الجرم أو الذنب والمسؤولية الخيانية، من خلال حياتك الهادئة قبل الثورة الطالبية 1968 تعاملت معها بالكثير من الحدب وهذا شعور ولّد بداية بالنظر الى شقيقتك؟
ـ نعم، بالنظر الى علاقتي بشقيقتي، كان لدي الشعور بالقلق الى جانب الطرف الشبابي، وهذا إحساس من اتساق الاستيهام المعيشي. كنت حققت نجاحاً مهماً في المدرسة، في حين كانت شقيقتي بطيئة على صعيد دراستها، باهتة جدا. إذاً هي زوجتي التي كانت الصديقة المفضّلة لي، والتي فتحت عيني على اللاعدالة وعلى تلك اللامساواة. اللاعدالة في اتساق دراساتي وبالعلاقة مع أهلي الكبار ومع عمّتي ولم تكن في حيّز التقاسم والمشاركة، ولكنها مقبولة بالنسبة لي.
[وهذه اللاعدالة كانت المفتاح لك في كلمة "الدين" أو الدائنية والتي ترددت كثيراً على لسانك؟
ـ "الدائنية" هي كلمة غامضة، عندما لا نريد أن نقر بالذنب، ولكن ببساطة عندما يكون لدينا حساب مدين. ربما المصطلح بالألمانية "Schuld" أفضل بكثير من المصطلح الفرنسي.
[لدي انطباع وأنا أسمعك بأن كل شيء هو لفرع من المديونية الأساس في النظرة الى الآخرين والى الحياة؟
ـ نعم، وأضيف الى ذلك انها مديونية غير قابلة للصرف، أو الدائنية المفلسة.
[لماذا مفلسة؟
ـ لأننا في تلك العلاقة غير المتكاملة القائمة في الدائن والمدين، نستدين الكثير في حياتنا ونحصل على الكثير ولا نعطي بالمقابل الكثير. فكّرت كثيراً في متابعة ميرلو بونتي في حالة الفنان سيلزان، وأطرح دائماً هذا السؤال: لماذا برع والى آخر الدنيا جيل القديس سانت فيكتوار على نحو كما لو أنه لم ينتهِ منه مطلقاً. سواء بالمعنى الجمالي اللانهائي أو بالمعنى الأخلاقي. كما لو أن جمالية ذلك الموقع تؤثر في الرسام وتجعله لا يتوقف عن الرسم هناك في البعيد ذلك التوصيف للجواب غير الملائم وغير الوافي بالغرض.
[ماذا عن أهمية الروح النقدية؟
ـ أتمنى أن لا يتحوّل الى شعار: مصادفة تحولت الى مصير بواسطة اختيار سيتم بالاستمرارية.
[ألم يكن في المقدور أن تكون فيلسوفاً أو مسيحياً لو ولدت في الصين؟
ـ أنتم تتحدثون دون شك عن شخص غيري. أنا ولدت في حضن عائلة فوق أرضٍ من التراث المسيحي الذي أنتمي إليه وأصبحت في رحلة الصبا تجريدياً من انتمائي الى ثقافة غربية. هذا صدام بين "القناعة والنقد" في انتمائي الى المسيحية في تفكيرها الاصلاحي التقدمي، وعلى سبيل المثال، فإنني أعثر بين أنبياء إسرائيل والمآسي الاغريقية على أنواع من التجاوب والتصادي العميق.
[تحيا في نظام من الخوف؟
ـ كلا، ولا أعتقد أن الضعف حقيقة، ذلك، اننا نوجد على المستويات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية في عهد من الاحتجاج.
صدمة
[تعتقد أن الفنانين والرسامين والكتّاب والموسيقيين يدفعون ديونهم ويفون بالتزاماتهم أكثر؟
ـ أنا أحترم حقيقة بذلك الشعور من الالتزام بالعمل لدى كبار الفنانين ويعالجون المسائل غير المحتملة. إذاً من هو الذي يلزمهم بوفاء تعهداتهم؟ أقول "انه الشيء الذي يفضلونه نفسه"، أي الفعل نفسه الفعل المنجر يجر خلفه فعلاً آخر للفعل، وهكذا دواليك. يوجد من تأثير عميق، وصفة قيمية أخلاقية. أنا متأثر جداً بحياة بيتهوفن، أو حيات الموسيقى فأكثر، ينعزلون في تلك القصور "البافارية"، ويشتغلون بتلك الوحشية.
[لا أعرف دائماً، عن أي دين يبحثون في سداده أو الاعفاء من التزاماته؟
ـ أنا لا أعرف ذلك. الدين يخلق منه التزاماته والايفاء به يأتي في سياق الفعل نفسه وفي دائرة نسقية قيمية لاستمرارية الفعل وتسلسله.
[اشرح لي حياتك كفيلسوف؟
ـ كلا. ليس هذا ما يقلقني كدين، ولكن لحل بعض التناقضات ولكن لا تصاب بفصام الشخصية (الشيزوفرنين) لأني كنتُ دائماً موجوداً بين هذين المدّين من التناقضات والمؤثرات وبينهما رميت جسراً.
بين المسار الفلسفي النقدي وقناعتنا الدينية لأني أيضاً بروتستانتي. بروتستانتي لكن ليس أقل من ذلك فيلسوفاً.
الوالدة
[بالعودة الى سيرة حياتك الشخصية هل حدّثتني مثلاً عن والدتك، بالكاد تحدثت عنها؟
ـ لأنني لم أعرفها. هذا كل شيء. وتوفيت وأنا لديّ بضعة أشهر فقط، وحتى جدّي وجدّتي اللذان تولّيا رعايتي بوفاتها قليلاً. أعتقد أنهما لم يقبلا زواجها من والدي. بالنهاية هناك نوع من الصفحات السوداء في تلك الجهة العاطفية، حتى اليوم ليس لدي صورة لوالدتي. صورة جديرة بالتصديق.
[لا تعرف كيف كانت والدتك؟
ـ كلا، أعرف أنها تتحدر من عائلة متعددة "savoyarde" من جنيف من عائلة تحمل اسم "فافر" (Favre).
وجدت بعض الأوراق العائلية وعملت منها شيئاً. ولكن لم أعثر على شخص يعطيني معلومات جديرة بالتصديق. لم أجد شخصاً يقول لي بوضوح". أنا عرفت والدتك". أنا سمعت كلمة "ماما" عندما كانت امرأتي تراسل والدتها أو عندما تحدث أطفالي الى والدتهم. ولكن بالنسبة لي هذه كلمة لم أتلفظ بها مطلقاً.
[حتى عندما كنت تتكلم عن والدتك أمام أطفالك؟
ـ كلا، كنت أقول "والدتكم" أو "سيمون" منعت ترداد كلمة "ماما" أو مُنعت.. هذا مكان يجب أن يبقى فارغاً، بدون آخر.
[إذاً أباؤك الحقيقيون هم كتبك؟
ـ هذا صحيح، حتى مع التقدم في الدراسة في المدرسة التقيت بوجوه عائلية.
المدرسة
[المدرسة شكلت مكاناً للمصالحة بين صورة الأب وابنه؟
ـ بالتأكيد، التقيت بالكثير من الأساتذة الجامعيين ولم يكن عندي شك بأني سأصبح دوماً بروفسوراً.. شعوري كان، مدة اقامتي وعلى مدى ذلك وكلما بقيت على مقاعد الدراسة وتعلمت.. آه.. هذا يعني أن ملف عائلتي مقفل، والباب مقفل جيداً على مستوى عزلتي الشخصية. المدرسة بالنسبة لي هي الهواء.. كنت مثل السمكة في الماء، لا أستطيع الخروج من المدرسة الى الخارج منعاً لتسرب قلق العزلة وقلق الهوية الذاتية.
[لم تكن تخشى من التقدم في قراءاتك، ومن موضوع الآخر في الصف؟
ـ نعم. لكن كنت أتسلى مع الآخرين. كنت بحالة اضطراب، "تلميذ ذكي، لكن مضطرب بعض الشيء".
[لدينا القليل من أشغال الخيال؟
ـ ولكن كنت أتسلى كثيراً، كنت محركاً دينامياً ومخرجاً للعبة الكلمات. مع أطفال الصغار، كنت ألعب دائماً ألعب دور المهرج وليس دور البروفسور الكبير في السن (يضحك).
السجن
[سجنت خلال الحرب العالمية، وأرسلت الى معسكر اعتقال وأشغال شاقة، واستطعت مع آخرين أن تنشئ مكتبة وتنظّم امتحانات جامعية؟
ـ كان معسكراً رسمياً للضباط. وحتى صدور كتاب دانيال غولدهاغن "Les Bourreaux volontaires de Hitler" ("عن منشورات سوىـ 1997") كنت مقتنعاً أن الجيش الألماني كان لديه مختلف عن الحزب النازي.
في المعسكرات التي عرفتها، كل المعسكرات الرسمية لم يكن هناك خروقات فاضحة لاتفاقية لاهاي أو جنيف بخصوص الأسرى المعتقلين(...) فقط احتجاز للمساجين ومنعهم من الخروج لأنه كان هناك اجتياحات. ولكن شروط الاعتقال والاحتجاز كانت قائمة إذاً. وكنا نأكل مثل عامة الناس، مثل عامة الناس الفقراء والأكثر فقراً شيئاً فشيئاً، في غرفتنا، كنا مجموعة من المثقفين، بيننا يهوديان روجيه ايكور، والكاتب ايماويل ليغيناس، انقذت حياته لأنه كان سجيناً في مخيم رسمي.
[في نهاية فترة احتجازك قمت بترجمة ياسبرس؟
- نعم، ومع صديقي مايكل دوفرين قرأنا كل الأبحاث المنشورة لكارل ياسبرس وبعد ذلك كتبنا الكتاب الأول "كارل جاسبيري وفلسفة الوجود"، نشر في العام 1947.
[كيف ترى الى كتاب غولدهاغن؟
ـ يوجد في هذا الكتاب أفعال صريحة ومحققة. وبأهداف محددة. وموضوع اساي عام يبدو لي بما لا يطاق: تجريم وتوجيه الاتهام واعتبار الناس كتلة واحدة. يجب أن يبقى غولدهاغن وفياً للتقاليد الغربية وبالنسبة لها الجرم الجنائي القضائي يجب أن يكون فردياً. غولدهاين وضع الاتهام الجنائي للشعب الألماني في سياق الأجنّية الوراثية، الجزئيات الوراثية المسيحية. ايديولوجيا مناهضة للسامية المسيحية هي الغالية من نوع تلك المقاومة الروحية حول كارل بارث... معلوماتي من طبيعتين. من النوع الذي عشته في شبه "كانتون تاريخي"، ومن خلال القراءات التي اختبرتها واشتغلت فيها على موضوع الإبعاد والنفي (الاعتقال خارج الوطن) واكتشفت في يوم إطلاق سراحي في "Bergen Belsen" وفي الباب الخارجي لمخيم الاعتقال، رأينا جثثاً حيّة. كانت صدمة مرعية جداً.
هايدغر
[قلت عن هايدغر بأن لديه مزاج معلم المدرسة؟
ـ اي انه لم يترك فيّ أثراً انطباعياً كبيراً. هذا أقل ما أقوله عنه. ولكن التقيت به من خلال قراءاتي.
[بالنسبة للبعض، كتابك الفلسفي أو مؤلفك الفلسفي لا يفرّق ولا يفصل من التزامك بأطراف نازية ما هو موقعك؟
ـ أنا أحدد العلاقة على النحو التالي: فلسفة هايرغر تتركز وتتمحور حول سؤال الوجود، الانطولوجيا، والنقد لخيارات أخلاقية وسياسية أحياناً غائبة أو غيبية. إذاً هي انطلوجيا غير قادرة على انتاج أخلاقية أدبية. إذاً ليس لديها خط دفاع داخلي.
هايدغر كان فيّ في شكلٍ ووجه من إعادة تأسيس فلسفته الخاصة. أي شكل من أشكال البطولة التي تحتل عشاً فارغاً.
لكن بعض الموضوعات الماورائية موجودة هناك... وبعض المؤلفات التي تتناول موضوعات أخلاقية لم تجاوز كونها حلولاً في مواجهة الموت. لكن هذه الاشكالية أي الموت، هي بالعمق مشكلة وجه لوجه ازاء الذات حتى مع التموضع السياسي والاشتراكي.. هذا ليس الوجه لوجه مع أخلاقيتي الخاصة. موت الآخرين هو الذي يؤثر بي أكثر، توجد مسؤولية غير مباشرة هناك وبالخطأ في أعمال هايدغر.
بلا ندم
[هو لم يظهر أي ندم، الحد الأدنى من الندم بعد الحرب؟
ـ نعم، أتخذ موقف الهرب، ولم يكن موقف يأخذه الى اعترافات ما بعد الحرب.. لكن ما أراه أكثر شذوذاً هو المصدر الثاني في خطأه السياسي: الفكرة التي يقول فيها ان "التكتيك" أو التقنية هي مشروع انساني كبير والتي تأخذ بعدها من الميتافيزيقيا. في هذه النظرة تمييز عنصري حيث كل السيطرة لليهود على الشكل التقني المقصود هنا. أعتقد أن أفكار ارنست جونغر تقود هايرغر هنا.
أنا قلت بنوع من المجادلة والمناظرة الاقتصادية والاجتماعية وجونفر يعرفها بمفهوم الحركية العامة. هذا عامل قلق واضطراب ما زال قائماً الى الآن.
[كيف يمكن حل هذه الاشكالية؟
ـ هي مشكلة أوروبا، كل أوروبا الغربية اليوم، حيث لكي نستمر بالحياة والبقاء يجب أن تمسك بنوع من الاخلاقية وبالسياسة الوحدوية. الصراع يضعنا على جبهتين اثنتين: من جهة اقتصاداتنا يجب أن تبقى تنافسية، ومن جهة أخرى يجب أن لا نفقد الروح، بمعنى الحس المادي بإعادة التوزيع والعدالة الاجتماعية.
جهود كبيرة يجب أن تبذل وصعبة جداً لإيجاد حلول على ربع الكرة الأرضية(...)، ربع الدائرة الانسانية اذا أردت هي اوروبا.
الألم
[أنت تفكر حالياً بالحد الأدنى من الكلفة المادية والمعنوية أو الحد الأدنى من "زفرة الألم"؟
ـ نحن خرجنا للتو، ولم ننته حتى من ارث العنف في الحرب الأخيرة. ولا حتى من قساوة الجهاز الاستعماري ومن انتصار الرأسمالية على الاشتراكية(...). التقنية الوحيدة السائدة اليوم هي كيفية انتاج الثروات ولكن بذائقة انسانية منفية. عدم المساواة الانسانية والتفاوت في توزيع الثروات أمر لا يحتمل(..).
[ما هي الخطوط العريضة التي يمكن اتباعها لمعالجة هذه الأسئلة؟.
ـ لا أعتقد أن هناك علاجاً حاسماً، أميل الى تجريب حل يمكن أن يكون "كلبياً".. هذا قد يكون مفاجئاً بعض الشيء أن يطرح من قبلي، ولكن جهازنا السياسي الأوروبي لا ينتج سوى أفعال غير محتملة ولا تطاق بالنسبة لعدد كبير من الناس. معنى هذا أن نستمر في الجري بالأزمات، يعني مزيداً من الآلام(...) يكفي أن نذهب الى الشرق الأدنى والصين أو اليابان لكي تكتشف أنه ليس ثمة مثيل للانسان الغربي واننا نمثل بالواقع قوة نقدية.
لكن لا يمكن لمجتمع معقد ومتناقض أن ينجز اليوم خلاصة لقيمه لوجوده، أفكر أننا عرفنا في أوروبا الغربية طريقاً صحراوياً قاسياً جداً(...) صعود الاقتصادات الناشئة الآسيوية وصعود الاقتصاد الصيني، يفرض علينا تحديات اقتصادية لا تستطيع أن تتحملها، فالصين تتحكم اليوم باحتياطات العملة الصعبة العالمية والدول الناشئة تتقدم بخطوات واثقة في النمو. ونحن في أوروبا إما اننا لا نريد أو غير قادرين ترانا نعود الى زمن تشغيل الأطفال، ولهذا أنا وبقوة "برو أوروبي" (Proeuropien) وحدة اقتصاد أوروبي كبيرة وتكبر صحف الناتج القومي الأوروبي العام يمكن أن يشكل مخرجاً ومنقذاً لأوروبا. أي الحلول هي الأفضل؟ في الولايات المتحدة جهاز من الضرائب القاسية. ملايين من الناس يشتغلون من أجل أجور زهيدة ولكن ملايين تبقى داخل الجهاز(...) ينبغي تحرير السياسة من المعايير التي لا تمتّ لها بصلة. وهنا يكمن مكسب الغرب عبر الفصل بين حلقة لاسياسة وحلقة الدين ليس أيضاً، حصر هذه الأخيرة واسمها دائماً يهدف وجلها بالجمهور الذي لا يمثل القوة والوضع المؤسساتي هل نريد أن نشتغل بالحد الأدنى من الأجور؟.
الجواب ثقافياً تكرر، ولكن يجب أن نصارع من أجل ذلك التموضع الاقتصادي الجديد، أو نواجه ونصارع أو مزيد من التراجع. هذه هي الاشكاليات والتحديات وهي تقوم على خيارات ثقافية وفي أساسي صورتنا لأنفسنا نحن الأوروبيين.
سارتر...
[سارتر، مارلو بوانتي، ديريدا، أسماء معاصرة، ما الذي بقي من سارتر اليوم؟
ـ سارتر أثر فيّ قليلاً على عكس مارلو بونتي عدوي المطلق، وكنت قريباً جداً منه. بين الاثنين، أبوة الفكرة هي سطحية ظاهرة لا تحكي أن القرن إلا في هذه الجهة أو تلك.
[وما الذي تنتقد في فترة سارتر؟
ـ آه. بداية هناك ذلك التنوع، وصعداً من نوعه أدوات الحوار، الأدب، المسرح. التجارب، السيرة الذاتية، والمعالجات الفلسفية مثل "الوجود أو العدم"، وأيضاً يوجد أيضاً تجارب على أفكار أخرى مثل أسئلة الطريقة(...).
[ما هو كتاب سارتر الأفضل برأيك؟
ـ "الكائن والعدم"، صفحات كبيرة جداً، مادة دراسية كبرى عالية، الى اليوم، ولكن أجده ثرثاراً حياً. ولكن هذا مساري في تحفظ الفلسفة التحليلية الانكلو ساكسونية ومن نوع من الزهد والقناعة التي تحملني هذا الحكم.
[الجزء من "الكائن والعدم" وتخيل وجود عالم نفسي أبعدك متراً عن سارتر ولكن أقدمت على تطوير عملية فهم التحليل النفسي حتى بمعزل عن تقنيات التحليل والتطبيق...؟.
ـ نعم، في كتابي عن فرويد، جمعت كتابات متخصصة محورية في مؤلفه وأفكاره التأملية من خلال الاختبار والتطبيق. إذاً، كتب أكثر وأكثر محمولاً على الاقتناع بأن التأليف النظري لفرويد ليس من أعلى اكتشافاته. وبأن لغته غير ملائمة لاكتشافاته. وهذا يعطينا حرية أكبر في تفسيرها بطريقة جديدة.
[وماذا عن الانتقادات لفرويد من قبل ويتتنشتاين، بوبر، بوفيريس؟
ـ انهم على حق في اعتبار أن فرويد يدعي الطبيعية ويضع نفسه في موقع يطلب منه استنتاجات لاختبارات علمية، بالعكس تأخذ التحليل النفسي ليس من جهة الاختبار والتوكيد، لكن من اختبار الحقيقة ويطرح منها كل نوع من أنواع الغش أو التزوير إذاً هي من الجانب نفسه من الشعر، والفنون الجمالية والدين...
في هذا المعنى، أنا أبقى مرتبطاً أكثر بفكرة انه يوجد في العلاقة التحليلية بعض الأشياء من التميز والتفرد بحيث نقاسمه مع الحقيقة.
[كل أعمالك تتركز على فكرة رئيسة، المنحى التفسيري والتأويلي، عمل دائم من التحليل؟
ـ نعم، الفعل الذي أكون فيه بعيداً عن الشك. ولكن ما أكون عليه هو بالعمق هو ذلك التجذر في الشك كطريق الى اليقين. وبالنتيجة لست قريباً كفاية من نفسي أو مطلقاً ولكن من علاقة تأملية/ تحليلية. انها دائرة كبيرة من الفرق في التحليل التأملي والفلسفي وهي الطريق الأفضل من الذات الى الذات ومن النفس الى النفس، والنفس في الرتبة الثانية بعد العقل التحليلي.
[لنعد الى شخصكم، أنت انسان سعيد؟
ـ كنت في الحقيقة استاذاّ سعيداً ولم أشعر بأي شيء من جراء عدم اعتباري معادلاً لجيل دولوز ومشيل فوكو. أعجب كثيراً بهذين المفكرين أكثر من الآخرين. السعادة تأتي في جزء منها من خلال القراءة، وهي بالنهاية عنصر الديمومة.
[أي القراءات هي الأجمل لذلك؟
ـ الكتلة الاغريقية، عصية على التغيير، واجد انجذاباً قوياً نحو الاستمرارية الثقافية الكبيرة. هذا يوجد من قراءة المآسي أو كتب مؤرخي الاغريق. أنا لا أستخم في كتاباتي كلمة "حديث" وأفضل عليها كلمة "معاصر"، صفة حديث تعتبر صنفاً مقارناً بالقدماء. ولا أعرف ما تعنيه كلمة حديث، لم يكن حصرها من عصر الأنوار الذي كان يروم إليه شارل بودلير الذي كان يقول: "ان الحديث هو زمن العابر وليس الكوني".
نبذة
بول ريكور فيلسوف فرنسي وعالم انسانيات معاصر ولد في فالينس، شارنت في 27 فبراير 1913 وتوفي في شاتيناي مالبري 20 مايو 2005، وهو واحد من ممثلي التيار التأويلي واشتغل في حقل الاهتمام التأويلي، ومن ثم بالاهتمام بالبنيوية، وهو امتداد لفريديماند دي سوسير.
يعتبر ريكور رائد سؤال السرد. اشهر كتبه "نظرية التأويل"، "التاريخ والحقيقة"، "الزمن والحكي"، "الخطاب" "وفائض المعنى" و"Interpretation theory"، "Discourse and the Surplus of Meaning".
هو واحد من كبار الفلاسفة في القرن العشرين وكان صديقاً لادوارد سعيد ولكثير من الكتاب العرب الذين تتلمذوا على يديه.
شكل الحالة هي الاكثر مقروئية في العالم، ولكنها كانت خارج دوائر النقاش الفرنسي من سنوات الستينات والسبعينات. لماذا تم نفي بول ريكور من المشهد الثقافي الفرنسي لسنوات ولماذا انزوى في الهامش.
اكتشافه ارتبط اكثر بصدور مجلة "فكر" (Esprit) وبندوة "سيريزي".
ساهم ريكور الى جانب ايمانويل ليفناس وميرلو بونتي وجانب بول سارتر في التعريف بالفينومينولوجيا الالمانية بفرنسا واشتغل في الستينات ضمن العلوم وبخاصة ضمن التحليل النفسي الفرويدي. ما اثار الكثير من سوء الفهم، اهتماماته تحولت أكثر وأكثر في السبعينات انكلوساكسونية وصار رائداً في اشاعة الفلسفة التحليلية الاميركية في فرنسا. وصدر له كتابان هما "الاستعارة الحية" و"ثلاثية الزمن والحكي".
رفض الالتزام السياسي السارتري ويفضل عليه "الانفصال"، لكنه التزم الفضاء العمومي واحتفظ بمسافة عن الايديولوجيات والفلسفات الراديكالية. برز موقعه المعارض للحرب الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، وكان استقبل ثورة ايار الطلابية (1968) بكثير من الحدب.
سار في طليعة أحدى التظاهرات الاولى المناهضة للحرب على البوسنة 1992 في باريس، واختار المسألة السياسية في قلب المفارقات التي يجابهها.
الاسهام الرئيسي له حول الخطة المزدوجة للفلسفة السياسية وفلسفة الحق وله قول فصل: "المشكل الرئيس للسياسة هو الحرية".
يمثل كتابه "الذات عينها الآخر" تتويجاً لكل فلسفته هو أحد كبار فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين، وهو يطرح فيه السؤال المتعدد الأخير والأبقى في كل الفكر البشري: مَن أنا، مَن أكون، ما هي هويتي وما هو الوجود؟
لقد حطمت العلوم المعاصرة وهم الآن الواعية لذاتها والمتيقنة من ادراكها لشفافيتها المباشرة، غير ان الكارثة عن طريق العمل تفتح باب المقدرة امام ذات متجذرة في الحياة اليومية.
تكتشف هذه الذات القدرة على السرد، الرد كصيغة لغوية مع الواقع المعيش، ولعلاقته مع الزمن الانساني والخطاب من خلال القصة.
فلسفة تأويلية بعد كل ما اتى به فلاسفة الريبة وعلى رأسها التحليل النفسي والالسنية، وتكسب عودته الى الأنا / الآخر عمقاً استثنائياً.
مفكر كثير الثراء والتنوع اقتحم ميادين الفينومينولوجيا والهرمنيوطيقا والتفسير التوراتي وفلسفة الدين واللسانيات والادب والانتروبولوجيا. وقدم في كل منها اسهامات تشهد على دوره في الثقافة الانسانية.
التقديم والترجمة: يقظان التقي