24 يوليو 2013 بقلم
محمد طيفوري قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:تعد "رسالة العبودية الطوعية" إحدى أهم الأعمال التي قدمت في تاريخ الفكر السياسي الحديث عن التسلط والسلطوية والاستبداد، في بدايات القرن السادس عشر من شاب فرنسي ثائر يدعى إتيين دي لابواسييه (1530 – 1563).
هذا الشاب الذي كتب المؤرخ ول ديورانت يصفه قائلا: "إنه (إتيين دي لابواسييه) كان بارعًا في أن يشعل النار ويقذف بها في الهواء، ولكنه كان من البراعة بحيث إنه يطفئها قبل أن تصل مشتعلة إلى الأرض، وأنه كان من النبل بحيث إنه لم يكن ليهدم بيت جاره قبل أن يعد له المسكن اللائق به".
تتضافر العوامل التي تجعل الباحث يهتم بهذا العمل؛ فبالإضافة إلى ما قاله مؤرخ من حجم ديورانت، بقيت هذه الرسالة في طي الكتمان لما يقارب ثلاثة قرون من كتابتها، فلم تنشر إلا سنة 1816، وذلك على يد ميشيل مونتنييه صديق لابواسييه الذي توفي في ريعان شبابه عن عمر يناهز 32 سنة، وقد برر مونتنييه هذا التأخر في النشر بالقول إن فيها "حياكة أدق وألطف من أن تخرج إلى الجو الخشن الذي اتسمت به العلاقة بين حركة الإصلاح الديني وبين الدولة الملكية" التي وصلت آنذاك حد اللاعودة بعد مذبحة أشياع كالفن المعروفة بليلة القديس بارتوليمي.
إن هذا النص يحظى اليوم بانتباه منقطع النظير من جانب المشتغلين بالفلسفة السياسية وعلم الاجتماع، لأن الأحداث التي نعيش لا تترك بدًا من التفرقة بين السيادة والاستغلال، مما يجعل راهنية التعاطي مع إشكالية العلاقة بين الاستغلال والسيادة ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، كما هي مواجهة سؤال: هل استغلال الإنسان للإنسان هو أساس السيادة؟ أم أن للسيادة جذورا أخرى ما كان الاستغلال ليستتب بغيرها في صورة الدولة؟
نقول بداية، إنه من العسير جدًا اختزال رسالة محبوكة بدقة كتبت في زمن عزل فيه الكلام في ورقة كهذه؛ فقد كان تناول لابواسييه للعبودية من خلال شقين اثنين: أحدهما مخصص لمسألة الحرية (التحرر)، والآخر تعاطى فيه مع إشكالية الطاغية (الاستبداد)، بأسلوب استفهامي مثير ينم عن أن لابواسييه يرى ما لا نراه في الحياة السياسية والاجتماعية، بل حتى في الناس. لكن ميزة هذه الرسالة هي الأهمية الكبرى لموضوعها، والمعالجة الأخاذة له المطعمة بشواهد من التاريخ والطبيعة من جهة، ومن صدورها في وقت كان فيه الاستبداد باسطًا فسطاطه على البشر والحجر والناس مستسلمون طائعون خانعون من جهة أخرى.
تعد رسالة العبودية الطوعية محاولة لإعادة فهم جذور الطغيان والاستبداد واستنفار النفوس للسعي نحو الانعتاق والحرية، فمنذ البداية يتساءل لابواسييه: "كيف أمكن لهذا العدد من الناس أن يتحملوا طاغية، لا يمتلك من السلطة والقوة إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته". فالسبب الأول الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية لنير الاستعباد هو كونهم يولدون رقيقًا وينشؤون كذلك، والولادة هنا ليست بجينات الرق لكن في المناخ المحيط بالإنسان والوسط الذي يصيره كذلك، فالرق لا يعدو أن يكون ثقافة مكتسبة في آخر المطاف. وكأني بدوروثي تومبسون تلخص ما ذهب إليه لابواسييه بقولها: "عندما تؤخذ الحرية بالقوة، يمكن استعادتها بالقوة أيضًا، ولكن عندما يُتخلى عنها طوعًا من خلال الإهمال، فلن تُستعاد البتة".
إن الشعوب هي التي تترك القيود تكبلها، أو بالأحرى تكبل نفسها بنفسها، مادام الخلاص مرهونًا بالكف عن خدمة المستبد، فأي تعاسة هذه أن نرى عددًا لا حصر له من الأفراد، لا أقول يخدمون طاغية بل يستبد بهم. لا حقوق لهم، بل حياتهم نفسها ليست لهم. ويستغرب لابواسييه من أن تحمل كل ضروب القسوة والسلب والنهب يكون من واحد هو في معظم الأحيان أجبن من في الأمة.
يعتبر لابواسييه الحرية شيئًا طبيعيًا، فالناس لا يولدون أحرارًا وحسب، بل مفطورون على حب الحرية والذود عنها؛ فحتى العيش وفق الحقوق الممنوحة من الطبيعة، إشارة إلى أول نص تشريعي للفقيه ترييونيان الذي صاغ فكرة القانون في العهد الروماني، وميز بين قانون الطبيعة أو ما يعرف بقانون كل الشعوب وقانون الدولة، والدرس الذي تلقننا إياه يحتم على الإنسان أن لا يكون مسخرًا لأي كان سوى عقله على حد تعبيره. لأنه "في المعنى الأصح للكلمة، الحرية لا يمكن أن تُمنح، بل إنها يجب أن تُكتسب" على حد تعبير فرانكلين روزفلت.
وفي ختام نقاشه حول الحرية في رسالته يعقد هذا الشاب الثائر مقارنة رائعة بين الحيوان والإنسان؛ فالكثير منها أي الحيوانات لا تقع في الأسر ولا تستسلم حين اقتناصها إلا بعد استنفادها لشتى طرق المقاومة، بكل ما تملك، معلنة بذلك إعزازها لما تفقده، بل إن قبولها العيش والبقاء يكون بغاية رثاء ما خسرته من حرية لا التنعم بالعبودية. وفي المقابل نجد الإنسان لا يبدل أية قوة للرغبة في الحرية التي يفقدها، ذلك الخير الأعظم الذي إن ضاع ما يلبث أن تتبعه النواكب التي تفسد طعم وجمالية ما تبقى للإنسان، إن بقي هناك شيء أصلاً.
إن "الحرية وحدها هي ما لا يرغب الناس فيه، لا لسبب فيما يبدو، إلا لأنهم لو رغبوا لنالوها، حتى لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته" بهذا الوصف الدقيق والكلمات الثاقبة يختم لابواسييه شق الحرية في رسالته؛ ليتحول للتفكيك بنية الطغيان بالقول: "إن الشعب الذي يستسلم بنفسه للاستعباد يعمد إلى قطع عنقه، والشعب الذي يكون حيال خيار العبودية أو الحرية، فيدع الحرية جانبًا ويأخذ نير العبودية هو الذي يرضى بالأذى، بل يسعى بالأحرى وراءه".
كتب إتيين دي لابواسييه في تحديد أصناف الطغاة قائلاً: "هناك ثلاثة أصناف من الطغاة: البعض يمتلك الحكم عن طريق انتخاب الشعب، والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم". بيد أن هذا التصنيف لا يغير من واقع الأمر شيئًا، فكلهم يسعون إلى تثبيت دعائم الاستبداد ومضاعفة الاستعباد وطرد جذور الحرية من أذهان الرعايا، لتكون المحصلة متشابهة إن لم نقل متطابقة، فمن انتخبهم الشعب ينظرون إلى هذا الأخير كثور هائج يجب تذليله، والغزاة يرون الشعب فريسة لهم، بينما يعامله الوارثون للحكم كقطيع من العبيد يندرج ضمن باقي الممتلكات الطبيعية التي ورثوها.
تتفاوت الأسباب التي تكون وراء انسياق الإنسان إلى العبودية؛ فهو إما مكره أو مخدوع دون إغفال العادة التي تعد أولى أسباب العبودية المختارة. لكن الغريب هو لعبة النسيان التي يدخل فيها الإنسان بعد سقوطه ضحية العبودية، حتى ليخال نفسه لم يخسر الحرية، بل كسب جديدًا وهو العبودية.
أكيد أن بقاء هؤلاء الطغاة في سدة الاستبداد واستتباب حكمهم هو شغلهم الشاغل، أمر توقف عنده الكاتب في نهاية رسالته متحدثًا على لسان أحد الطغاة بأن أساس وسر دوام الاستعباد والاستبداد يعود إلى تعويد الناس على أن يدينوا لهم لا بالطاعة والعبودية فحسب، بل بالإخلاص أيضًا. نعم، فالإخلاص هو مفتاح السيادة وسرها، فلا قوة الجيوش ولا كثرة الحراس ولا عدة العتاد هم من يحمون الطغاة، بل قلة لا تتجاوز رؤوس الأصابع من الأفراد أو الحاشية هم من يبقون الطاغية في مكانه ويضمنون له الاستمرارية؛ لأن هذا الرهط من الرجال ينتفع في كنف كل واحد منه مئات إن لم تكن آلاف التابعين له في مناصب الحكم في الدولة في سلسلة أتباع ما أطولها.
هذه السلسلة من الأتباع هي التي تسمح للطغاة بارتكاب كل المظالم على الشعب باسم الشعب، فصارت الحقائق تغتال تحت يافطة الشعارات فيكسب القاموس كلمة، ويخسر الواقع حقيقة على حد تعبير الكاتب الليبي الصادق النيهوم.
وأنا أعيد قراءة هذه الرسالة التي سبق أن قرأتها قبل سنوات خلت، أجدني أوجه تحية خاصة إلى روح هذا الشاب الفرنسي الثائر على هذه الرسالة التي كتبها، وهو لم يبلغ بعدُ العشرين من عمره، ببساطة لا تبسيط مفضلاً التنقيب عن آليات صناعة الأسئلة اللامتناهية المستقاة من شواهد الطبيعة والتاريخ قبل التفكير في إيجاد الأجوبة، مانحًا بذلك رسالته قوة جعلتها دليلاً يصلح للمساعدة على استيعاب وفهم ما يعتري المنطقة العربية من حراك رغم مضي ما يقرب من خمسة قرون على كتابتها.
فمرة أخرى، تحية لهذا العقل الفذ الذي اعتصر في صمت الآلام، لفهم ميكانزمات الطغيان، بغية فك طلاسيم هذا الداء الملغز الذي صير الحرية التي كانت قاعدة استثناء، والاستبداد الذي هو استثناء إلى قاعدة