لماذا هذا القبر بارد يا نهى ؟ “ ما الذي يضايقك ، يا عزيزتي ؟ “
“ البرد الشديد والوحشة . “
تتحرك في مكانها ثم تقول بنفاد صبر :
“ لماذا هذا القبر بارد جدا ً ؟ إنني أرتجف من البرد ؟ “
“ إنه ليس قبرا ً . نحن في مشرحة . “
“ هل قلت ِ إنها مشرحة ؟ “
“ نعم . “
“ لماذا لا يغطوننا بالبطانيات ؟ “
“ هم يعتقدون أننا ميتتان ، الموتى لا إحساس لهم ، هذا ما يظنونه على الأقل .”
“ لكنني أحس بكل شيء وأتذكر كل شيء . أحس بالوجع والبرد والوحشة ، كما أتذكر كل شيء . أتذكر خالتي أنعام التي كانت تصنع لنا البيتزا ، وأتذكر والدي الذي يأخذني إلى بيت جدتي ( صفية ) في كل جمعة . وأتذكر معلمتي ازدهار التي حكت لنا عن شلالات بيخال . لماذا نحن هنا ؟ ومتى جئنا ؟ “
“ لسنا وحدنا هنا . المشرحة مليئة بالشهداء .”
“ هل يعني أننا شهيدتان ؟ “
“ نعم . وسوف نذهب إلى الجنة . سنجد هناك شهداء ً كثيرين . “
“ هل الجنة جميلة؟ “
“ طبعا ً . هي أجمل من جزيرة بغداد السياحية ، وهي حتما ً أجمل من الحبانية . هل رأيت الحبانية ؟
“ لا ، لم أشاهد الحبانية .”
“ كنت في الخامسة حين أخذنا بابا إلى الحبانية . لبست المايوه ودخلت في ماء البحيرة . كان باردا ً ومنعشا ً . أنا وصديقتي لمى كنا نرمي الكرات المطاطية الملونة ونسبح في اتجاهها . كنا نضحك من أعماقنا ، ونرش إحدانا الأخرى بالماء .”
“ لم تجيبي على سؤالي . متى أتينا إلى هنا ؟
“ أنا أتيت في يوم الأحد. أنت ِ أتيت ِ في اليوم التالي ، أي في يوم الاثنين . سمعت في التلفاز أنهم صاروا يسمون الأيام التي يموت فيها عدد كبير من الأبرياء الأيام الدامية . عمي نعمان يقول دائما ً : أيام الأسبوع كلها دامية . كيف فاتني أن أسألك عن اسمك ! اسمي نهى . “
“ أنا سهى . سهى ونهى . اسمانا متشابهان . دعينا نكتب إنشاء ً يحمل عنوان : سهى ونهى في المشرحة . ولماذا إنشاء ؟ لنكتب قصة . قصة قصيرة للأطفال . ولتكن البداية هكذا : سألت سهى صديقتها : لماذا هذا القبر بارد ، يا نهى ؟ “
تحل هنيهة صمت ثم تقول سهى بتعجب وهي تتلمس مؤخرة رأسها : “ ما هذا ؟ أين شريطي الساتان الأبيض ؟ إنه غير موجود . حتى ضفيرتي لا أثر لها .”
“ ياه ، كيف نسيت . أين هي أزهاري الملونة التي صنعتها في يوم الجمعة . لقد أخذتها معي صباحا ً . شاهدت الست حمدية ، معلمة التربية الفنية ، في باب المدرسة ، أردت أن أعطيها الباقة ؛ لكنها قالت لي : ليس الآن ، يا نهى . أعطني إياها في الدرس . لكن ، سهى ، جرس المدرسة لم يدق منذ الدرس الثاني . لماذا لم يقرعوا جرس المدرسة حتى الآن ؟ أريد أن ترى صديقاتي سوزان وأطياف وأفراح أزهاري الملونة . كانت المعلمة ستقول لطالبات الصف صفقن لنهى بحرارة ، بأعلى صوت . “
سهى : لا ترفعي صوتك يا نهى . الشهداء نائمون . إنهم متعبون . “
في اللحظة التالية يستيقظ رجل على اليمين ومن ثم رجل آخر على اليسار . وفي النهاية يصبح عددهم خمسة . ثلاثة رجال وامرأتان . وإذا حسبنا سهى ونهى يصبح عدد الشهداء الذين أفاقوا من نومهم سبعة .
تهمس سهى لنهى : ألم أقل لك ِ لاترفعي صوتك ِ ؟ ها هم قد استيقظوا .
حين يستيقظ الرجال الثلاثة يصيحون بصوت واحد : ما الذي جاء بنا إلى هذا المكان ؟
وتقول المرأتان بصوت أنثوي لا يخلو من الرقة : من الذي أودعنا في هذه الثلاجة الكبيرة ؟
تقول الأولى : كنت ذاهبة إلى صالون التجميل كي أقص شعري . زوجي يحبه قصيرا ً . فمن أتى بي إلى هنا ؟
وتقول الأخرى : أما أنا فكنت ذاهبة إلى عملي . أنا معلمة في روضة أطفال . كنت أعلم الأطفال نشيد ( موطني ) .. فاطمة وإحسان حفظا النشيد بسرعة . أما الباقون فيحتاجون إلى وقت إضافي كي يحفظوه جيدا ً . لماذا جئتم بي إلى هنا يا أوغاد ؟ كيف سيمكنني أن أتابع برنامج ( هن ) بعد الآن ؟ هل يعرضون لنا هنا البرامج التلفازية ؟
ترد عليها السيدة الأولى ساخرة ً : ولماذا البرامج ؟ أليس من الأفضل أن تعرفي شيئا ً ما عن أخبار بلدنا ؟ تعطي الأعمى عينين فيطالبك بالحاجبين !! احمدي ربك ؛ فأنت تستطيعين الرؤية بعينيك مع أنك في عداد الأموات . “
تجيب المرأة الثانية : أريد العودة إلى الروضة . الأطفال لم يحفظوا النشيد بعد .
وترد المرأة الأولى : وأنا أريد العودة إلى بيتي . سيندهش زوجي بتسريحة شعري الجديدة . سأبدو أجمل من كيلوباترا !! قال لنا إنه سيأخذنا أنا وأطفالي إلى متنزه (الزوراء) في يوم الجمعة . ثريا وأمجد سيلعبان في المتنزه وأنا وهو نشم الهواء العليل ونحكي النكات ونضحك .
“ هل تعتقدين أننا ميتتان ؟ أنا لا أريد أن أموت . أريد أن أسافر إلى الإسكندرية أو اللاذقية . أريد أن أرى البحر المتوسط . أريد أن أسمع صراخ النوارس وأسمع هدير الموج . أتمنى سماع الأطفال وهم يلعبون ويضحكون ويركضون بالطائرات الورقية على شاطئ المتوسط . أريد أن أرى العالم من دون مرارة . أريد أن أسمع أصوات الطبيعة ، أريد أن استمتع بالحياة ، بمباهجها ، أعراسها ، أصواتها ، موسيقاها ، غنائها ، مرحها . “
ويقول الرجل الأول : لماذا لم يبدأ مهرجان الشعر حتى الآن ؟ كتبت أمس قصيدة ً جميلة ً . أريد أن أقرأ قصيدتي . أمضيت خمسة أيام في كتابتها . أريد أن أعلن امتناني للحياة ، امتناني للجمال ، امتناني للطفولة البريئة . “
يرد الرجل الثاني وهو يدعك عينيه : “ ياه ! يا لها من غفوة عميقة ! لا أدري هل نمت في المقهى أم في منزلي ؟ منذ قليل غادر آخر زبائن المقهى . كان يلعن حظه العاثر لأنه لم يعد يملك دينارا ً واحدا ً في جيبه . قرأ جريدة ( الصباح ) بإمعان ، قرأها من الصفحة الأولى حتى الأخيرة ، وبين صفحة وأخرى كان يتمتم بعبارات غير مفهومة . لماذا لم يأت الصبي هذا اليوم ؟ هل وجد عملا ً له في مقهى آخر ؟ بسبب غيابه المفاجئ اضطررت لخدمة الزبائن بنفسي . كان عددهم قليلا ً على أية حال . رواد مقهاي جلهم من الصحفيين ، كانوا يتناقشون بصوت ٍ عال ٍ وغالبا ً يطلقون الشتائم . “
ويقول الرجل الثالث وعلى وجهه ابتسامة غامضة : “ كم كانت حياتي موجعة ؟! كنت أتجول في عدن وبيروت ودمشق وموسكو وبرلين ومدريد ومالمو ولويفن ، وكان النحس يتجول معي ، يرافقني أينما حللت . المأساة تتجول هنا وهناك . حياتي نزيف موجع للأحلام والآمال . بالأمس حلمت برجال يتنافسون على كرسي مذهب أو ربما عرش . كانت الأيدي تسحب من اليمين واليسار . بعضهم يسحب من المسند والآخر من الظهر ونفر ثالث يعض بأسنانه على خشب الساق ؛ أما أنا فكنت أبكي بكاء المجانين . “
يقول الرجل الأول : لماذا لم يحضر الجمهور بعد ؟
يقول الرجل الثاني : لماذا لم يأت ِ الصبي ؟
يقول الرجل الثالث : متى ينتهي نزيف الأحلام ؟
تقول المرأة الأولى : متى أرى تسريحة شعري الجديدة في مرآة صالون التجميل ؟
تقول المرأة الثانية : متى يحفظ الأطفال نشيد ( موطني ) ؟
تقول سهى : لماذا تأخروا في جلب البطانيات ؟
تقول نهى : لماذا لم يدق جرس المدرسة حتى الآن ؟
يقول الرجل الثالث : لا أريد أن أغادر العالم على الرغم من فظاظة الوطن وقسوته . عانيت من صقيع المنفى وجحيم الغربة ، لكنني لا أريد أن أنسى شارع الأميرات ولا شارع الحمرا ولا حي مونماتر . لا أريد أن أبقى في هذه الثلاجة فقد شبعت من صقيع السويد وموسكو . دعوني أخرج ، أرجوكم .
يتململ في مكانه .
يقول الرجل الأول : إلى أين أنت ذاهب ؟ نحن أموات ولا يحق لنا مغادرة المشرحة ؟
“ ولماذا لا يحق لنا ؟ “
“ إنها قوانين المشرحة . ألا تقرأ هذه اليافطة ؟ مرحبا ً بكم في المشرحة . ممنوع مغادرة المشرحة إلا بعد الحصول على الموافقات الرسمية الأصولية . “
“ نموت بقرار ونحيا بقرار . هل ننتظر قرارا ً يعيدنا إلى الحياة ؟ أريد أن أرحل إلى وجهة مجهولة . أريد أن أعرف حقيقة ذاتي . أريد أن التصق بعالمي التصاق الوشم بالجلد . أريد أن أسبر أغوار المعاني ، وأفهم ما يعتمل في داخل روحي من حرائق وتناقضات وصدوع مؤلمة . “
“ ها قد بدأت َ تتفلسف . كيف ستخرج من هنا يا فيلسوف القرن الحادي والعشرين ؟ “
“ لا أدري ، لكنني سأخرج حتما ً . لن أبقى في هذا الصقيع الذي يشل العقل والحواس . لن أسمح لذاكرتي بالتلاشي . سأبقى أبحث عن المدن التي ضاعت ، سأستعيد حتما ً أراجيح الطفولة والصنارات التي كنت أصطاد بها صغار السمك . “
“ كنت أرتعد خوفا ً وأنا ذاهب إلى مهرجان الشعر . الأمن مفقود والانفجارات تتواصل على الرغم من الأعداد الغفيرة للجيش والشرطة . لكنني حدثت نفسي قائلا ً : ما جدوى أن تبقى القصيدة حبيسة الورق ؟ الجلوس في البيت ممل ولا طائل من ورائه . هنا ، أيضا ً ، أشعر بالضجر ، فالبقاء في المشرحة قاتل وغير ذي جدوى . أنا ، مثلك ، لا أريد أن أبقى هنا . أريد أن يسمع الجمهور قصيدتي .”
تهمس سهى لصديقتها نهى : “ في زيارتنا الأخيرة ، وضعت جدتي في حضني حفنة من قطع الشوكولاته . قالت لي : إنها لم تعد قادرة ً على تناولها ؛ لأن أسنانها صناعية . لم أفهم ما قالته . وفي الحال نزعت طقمها الصناعي وأرتني لثتها الدرداء .”
“ في كل عيد تأخذني أمي لخالاتي غيداء وهديل وأريج . أقول لخالاتي لا أريد الحلوى . أريد نقودا ً . أجمع ( عيديات ) خالاتي وأشتري بها دمية ً جميلة ً.أشتري ( فلة ) أخرى بحلة جديدة . أشترى دوما ً الدمى ذوات الوجوه الضاحكة . أحب الأعياد ، أتمنى أن تتحول أيام حياتنا كلها إلى أعياد . نبتهج ونضحك ونلعب ونتبادل التهاني . نرفل بثيابنا الجديدة ، ونحشو جيوبنا بقطع الحلوى . وحين نركب دولاب الهوا نتلمس جيوبنا خشية ضياع ( عيديتنا ) . فساتيننا تطير في الهواء . فساتيننا تهفهف وتكشف سيقاننا ، نمد أيدينا ونغطي ركبنا بسرعة . “
تقول المرأة الأولى : “ انظري . لقد تركوا آثار مخالبهم في صدري . جسدي كله يحمل آثار تعذيبهم . لا أريد أن يعبثوا بجسدي كما يشتهون . لا أريد أن أتحول إلى كائن ممسوخ ، لا أريدهم أن يشوهوا مفاتني ويحطموا أنوثتي . أريد أن أستعيد جمالي المفقود وشرفي الضائع . “
تقول المرأة الثانية : “ ألا تعتقدين أن الوقت ما زال مبكرا ً كي نفارق الحياة ؟ مع أنهم جاؤوا بي إلى هنا بجسد معطوب ، إلا أن روحي لا تريد أن تذبل ، روحي ترفض الانكسار والهزيمة . مع أنني صرت من الأموات إلا أن أيام وليالي بغداد ما تزال تبحر في دموعي . أرى حدائقها وبساتينها وشوارعها ، صفصافها ونخيلها ، كرخها ورصافتها . “
“ أنا مثلك يا عزيزتي لا أريدهم أن ينهشوا أنوثتي . لا أريدهم أن يسحقوا روحي . لا أريد أن أصرخ وأتوسل . كان يدور بخلدي أن وحشيتهم ستنتهي بانتهاء لهاثهم . لكنهم واصلوا أفعالهم السود المرة تلو الأخرى . كان الدم يسيل من زوايا أفواههم وهم ينقضون على جسدي . لم يتركوا بوصة ً من لحمي لم يغرسوا فيها أنيابهم . كنت أتمنى أن أتوارى عن أنظارهم ، لا بل تمنيت أن أختبئ حتى من نفسي . لا أريد أن أموت وأنا ملطخة بدناستهم ، أريد أن أمحو قذاراتهم وأحلق في الفضاء كحمامة وديعة . لا أريد البقاء في هذا المكان البارد كالصقيع . “
ينهض الرجل الأول . يفتح السحاب الطويل للكيس المصنوع من المشمع . يقلده الرجل الثالث ومن ثم الأول .
الشهداء السبعة يغادرون أكياسهم . يمسحون بقع الدم العالقة بأجسادهم . يفتحون باب الصندوق البارد . كان ثقيلا ً جدا ً وكأنه مصنوع من الرصاص . يسخرون من اليافطة المثبتة على الجدار الجنوبي للثلاجة .
يقول الرجل الثالث : من هذا الصقيع ستخرج الحياة .
يقول الرجل الأول : من هذا اليباب سينبت البرتقال .
يقول الرجل الثاني : في خضم هذه العفونة سنشم رائحة الهيل .
تقول المرأة الأولى : من هذه البشاعة سيطلع الجمال .
تقول المرأة الثانية : من جراح العذراوات ستتصاعد أناشيد الفرح .
تقول سهى : هيا بنا ، يا نهى ، لم نعد بحاجة للبطانيات . الربيع جاء .
يخرج الشهداء السبعة من المشرحة . الممرضون نائمون على الأسرّة في غرفة كبيرة متاخمة . يشم الشهداء رائحة الزهور المنبعثة من حديقة قريبة .
يقول الرجل الثالث : لا نريد أن نبقى في هذا الظلام . علينا أن ننسى الصندوق البارد الذي أودعنا فيه . انسلخوا ، أعزتي ، من عالم الأموات .البسوا ثيابكم ، واجمعوا حاجياتكم . نحن عائدون إلى الحياة .
تقول نهى لصديقتها سهى : دعيني ألملم أزهاري من الأرض المبقعة بالدم . المراقبة قرعت الجرس ، والست حمدية ، معلمة التربية الفنية ، سترى أزهاري الملونة . ستصفق لي طالبات الصف كلهن . هيا بنا . لقد أضعنا وقتا ً طويلا ً في هذه الثلاجة الكبيرة . هل قلت إنها قبر ؟ لا ، سهى ، أنا لم أمت ولا حتى أنت ِ . كنا في رحلة قصيرة وها نحن جميعا ً نعود من جديد . هيا .ألم يقل زميلنا الشهيد إننا عائدون إلى الحياة .
ترد سهى : صحيح . هو ذا شريطي الساتان الأبيض . وهي ذي ضفيرتي الشقراء تتأرجح على صدري .
تقول المرأة الأولى بعد أن تلتقط حقيبتها النسائية من الأرض وتتأمل وجهها في المرآة الصغيرة المدورة : ياه ، أنظري ، عزيزتي ، كم يبدو وجهي جميلا ً بهذه التسريحة . ألم أقل لك ِ إنني سأكون أجمل من كيلوباترا ؟ !
تطرح سهى سؤالا ً لمع في ذهنها : متى نذهب إلى الجنة ، يا نهى ؟ ألم تقولي لي إننا شهيدتان وسوف نذهب إلى الجنة ؟
تجيبها نهى : “ بلى ، قلت ُ لك ذلك . سوف نذهب إلى الجنة . سوف نذهب ، حتما ً . “
تقول المرأة الأولى : انظروا جميعا ً . الناس يتطلعون إلينا من العمارات السكنية كلها . إنهم فرحون بعودتنا إلى الحياة . كانت نوافذهم مشرعة للريح ، خلال غيابنا . كانوا ينتظرون رجوعنا . أما الآن فقد انتهى زمن الفقدان والحسرة . انظروا ، الشوارع ، خلت من الكلاب الضالة . لا عواء ولا نباح الآن .
يقول الرجل الأول : ما أحلى نشوة الانتصار ! ارهفوا السمع جيدا ً . اسمعوا أصوات الحياة !