09 أكتوبر 2014 بقلم
محمد نور الدين أفاية قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:عن سؤال الدين وسطوة السياسة*
تفرض معطيات عالمية جديدة ذاتها على التفكير في كل مرة، لدرجة يجد المرء نفسه إزاءها أمام ضرورة استدعاء نموذج مفهومي مغاير لتقديم فهم مناسب للظواهر التي تبرز في مساحة الإدراك منذ بداية هذه الألفية، لأنه لا يمكن مقاربتها أو إدعاء استيعابها استناداً إلى مقولات بدايات القرن الماضي.
يبدو من المشروع الملاحظة بأن الظرفية التاريخية التي يمر منها العالم، تنتج شروطاً جديدة يتعين على العمل الفكري أخذها بالحسبان والاعتبار. هناك، على الأقل، خمس معاينات (أو ملاحظات) يمكنها تحديد عملية التفكير في تجليات، ورهانات، وخطابات بل والتفكير في الفاعلين الذين يفرضون ذاتهم على الفهم، ويحركون التساؤل:
أول معاينة مرتبطة بالاهتزازات التي عرفتها وما تزال تعرفها العلاقات الدولية بعد نهاية الحرب الباردة. نشهد حروباً جديدة غير متكافئة، خصوصاً بعد الحادي عشر من شتنبر 2001، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أهم من فجرها، وما تزال تصنعها من خلال مختلف "الأحلاف" التي تشكلها لمحاربة "عدو" غالباً ما تعمل هي على إنتاجه؛ تتمثل المعاينة الثانية في حركات العولمة الاقتصادية والتواصلية، على الرغم من التعثرات التي تشهدها بين الفينة والأخرى (الأزمة المالية في خريف 2008 وتداعياتها المستمرة إلى الآن). كل شيء يتعولم، لدرجة أن الدول لم تعد، وحدها، قادرة على احتكار "العنف الشرعي"؛ أما المعاينة الثالثة، فتتجلى في بروز أوجه جديدة للضحية، الفردية والجماعية. وكأن الكل أصبح يتقدم إلى المجال العام في هيئة ضحية يفترض الاعتراف بما تعرض له من اعتداء، أو ظلم، أو استبعاد...إلخ. صور الضحية اليوم، باسم هوية خاصة أو اختلاف خصوصي، أو تنوع لا يشبهه أحد، تستدعي تفكيراً جديداً في ظاهرة العنف، أو بالأحرى في الآليات الجديدة التي بدأ العنف يعبر بها عن مضمونه الثقافي، والتالي التفكير في جدل الهوية، والدين، والسياسة والعلاقات الاجتماعية. ترتبط المعاينة الرابعة بالدور الاستراتيجي لوسائط الاتصال، وللموقع الاجتياحي للتلفزيون. إذ من وسيلة اتصال أصبح، شيئاً فشيئاً، سلاحاً حربياً يساعد على التموقع والتأثير، وأداة غذت التجليات الجديدة للسلطة تعبر عن ذاتها بواسطة الصور والأصوات. نفس الأمر ينطبق، بطرق مغايرة، على الإنترنيت.
أما المعاينة الخامسة، فتتمثل في تداعيات الاهتزازات، ومختلف أشكال الحروب الأهلية التي تمخضت عن الانتفاضات والحركات الاحتجاجية العربية ضد الاستبداد وسياسات إذلال الكائن.
كيف يمكن التفكير اليوم في موضوعات الدين والقيم، والسياسة، بدون أن نأخذ في الاعتبار الأشكال الجديدة للعنف، واللامساواة، والإقصاء، والأصولية، ومظاهر الاختلال الجديدة؟ وكيف يمكن التفكير، حالياً، في الرابطة الاجتماعية، أو في شروط العيش المشترك في علاقتها الثلاثية بالدولة والدين، والديمقراطية؟
الدين هو روح عالم بدون روح
أصدر ميشال فوكو كتابًا حواريًا بعنوان "إيران، الثورة باسم الله"، وهو جُماع مقالات وشهادات الفيلسوف الفرنسي عمّا عاشه في طهران في سنتي 1977 و1978، ثم في سنة 1979 في معمعة الثورة الإيرانية، حيث لم يتردد في التعبير عن اندهاشه من تفجر "الشغف" الديني والمد الجماهيري الكاسح الذي أطاح بنظام الشاه. وقد وضع فوكو، في مفتتح هذا الكتاب، جملة لكارل ماركس تقول: "إن الدين هو روح عالم بدون روح". وقد لاحظ أن كثيراً من الماركسيين والمناهضين لهم على السواء، توقفوا دائما عند قولة ماركس الشهيرة: "إن الدين عفيون الشعوب"، متناسين أن لفظة "عفيون" كانت لها دلالة خاصة في القرن التاسع عشر؛ إذ لم يكن استعماله دائما للمخدرات، وإنما كان وسيلة يلتجئ إليها الأطباء في المستشفيات للتخفيف من آلام المرضى، وتهدئة أسباب معاناتهم. ثم إنه، وإن كان ماركس في شبابه مازال تحت تأثير فيورباخ، وخصوصا بفعل كتابه "جوهر المسيحية" فإنه، في نظر فوكو، عبر عن وعي رفيع بالدين وبوظائفه في المجتمع والتاريخ، حتى ولو اتخذ منه موقفًا نقديًا؛ فهو تعامل معه باعتباره مسألة وجودية ورمزية في غاية الجدية والأهمية.
كان يهم فوكو أن يشهد على حدث في التاريخ. حدث كبير يحصل باسم الدين. ولأن هذا الفيلسوف كان من أكبر من تصدوا للأوهام المعاصرة بالدراسة والكشف والتفكيك، ومن بينها آليات وأوهام السلطة، فإنه لم تكن تحركه توقعات كبرى بخصوص مسار ومآل "الثورة الإيرانية الإسلامية"، لأنه كان مقتنعًا بأن خلط الدين بالسياسة ينتج أشكالًا من الاستلاب والقهر والاستبداد والموت.
تختزن الظاهرة الدينية تصورًا للكون، وتقترح نمطًا من الاعتقاد يرمي بالمؤمن في مناخ ذهني ووجداني يدفع به إلى الانخراط في حركية دائمة للتماهي بين ذاته وبين موضوع إيمانه. وبقدر ما تندرج الظاهرة الدينية ضمن مجال الاعتقاد والمقدس والمتعالي، تجد نفسها، في كل الأزمنة والظروف، معرضة للسؤال ومحاولات تجديد الفهم والتأويل. لذلك، فإن التفكير في الدين هو تفكير في أكثر مجالات النظر تشابكًا وانزياحًا، وهو مجال الرمز والمقدس، فضلا عن أنه لم يكن- كما وليس- من الممكن نعت الدين بأنه سلوك سحري محض، كما روجت بعض الكتابات في عصر الأنوار، أو هو "عفيون الشعوب" عند ماركس، أو "مستقبل وهم"، في تصور فرويد، أو "فيتامين الفقير" كما يقول دوبري. ليس الدين أمرًا هينًا أبدًا، واهتمام هؤلاء المفكرين به، وغيرهم، دليل على أنه مسألة جدية، ويصعب ادعاء تصفية الحساب معه، مهما كانت المقاصد، أو التقليل من قدرته على إنتاج المعنى والرموز، سيما في أزمنة تختلط فيها الدلالات ويضيع فيها الكائن.
ومع ذلك ما يزال المرء يصطدم بعدد لا حصر له من المواقف الاختزالية للدين، ولا سيما من طرف أكثر المدافعين عنه، أو الناطقين باسمه. وذلك في كل الديانات. والحال أن الظاهرة الدينية تبرز في الأفق في الوقت الذي يطمئن البعض إلى نسيانها. لكن هل العودة الجارفة لهذه الظاهرة تسمح بإمكانية القبض عليها فكريا؟
بقدر ما يبدو هذا السؤال مرتبطًا بالهاجس الديني يحيل على، وبكيفية ما وفي نفس الوقت، على مجال الفكر والفلسفة، باعتبار أن الفلسفة اهتمت، دومًا، بالمسألة الدينية، سواء بدوافع التوفيق أو الفهم، أو من منطلقات النقد واستبعاد تجليات المتخيل الديني أو غيره من مجال اشتغال الفكر العقلاني. وإن عملت الفلسفة، منذ لحظتها الحديثة، على التعامل مع الشأن الديني بوصفه ميتافيزيقا، فإن "التعب" البادي على العمل الفلسفي، كما يقول غادامير، قد يعطي للخطاب حول الدين مشروعيته ويجعل من التمييز بين الفلسفة والدين مسألة إشكالية.
ولعل ما يشهده العالم العربي، اليوم، يدعونا إلى مساءلة أنماط فهمنا لأدوار الدين في المجتمع وفي السياسة، إذ ما يحصل يمثل تعبيرًا، متنوع اللغات والأساليب والتدخلات، عن نمط جديد من تجليات المُتخيّل السياسي العربي، وهو متخيّل ليس بعيدًا، تمامًا، عن مرجعياته، أو نظامه الرمزي "الديني"، بالمعنى الثقافي العام، وليس في فهمه "العقائدي" أو "الطقوسي" المخصوص. وما يجري من أحداث وتحولات، في الأفعال والتحركات والخطابات، يؤشر على نوع من التعامل "شبه الإطلاقي" مع السياسة؛ أي أنها غذت الموضوع الجدي "المطلق" الذي لا يحتمل أن ينازعه أي مجال آخر –باستثناء التعبيرات الدينية- لأن فاعليه أو الذين ينطقون باسمه –وهم كثر ومختلفون- يعمدون إلى إعادة توزيع القيم اعتبارًا من أن ما ليس سياسة، وما لا يدخل في نطاقها ويحقق أهدافها، من فن، وحب، واحتفال، ودين عليه أن يخضع لها بطريقة من الطرق
[sup][1][/sup]. انبجس المتخيل السياسي ليفرض لغته في فضاءات النقاش والفعل، وإن عملت الحروب الأهلية ومظاهر العنف التي تمخضت عنها شوشت على مفردات هذا النقاش، وبرزت اعتبارات دينية في السياسة، سواء في مناسبات التوتر والتسوية، والتقليد في الدعوة إلى بناء سياسة حديثة، والاستيهامات في المجالات التي تدعي التزامها بالعقلانية. يتعلق الأمر بحدث كبير – أو بأحداث كبرى- أعطته وسائل الاتصال السمعي البصري والإنترنيت مظاهر "استعراضية"، بل "فرجوية"، حتى في أبعاده المأساوية، وساهمت، بكل الطرق، في خلق كل أشكال الالتباسات، حيث تضيع الدقة في المعلومة، والوضوح في التعليق، واستنفار كل عوامل الانفعال التي تنتج تمثلات وأحكاما اختزالية لا علاقة لها بالمعيش وبالتعقيدات الاجتماعية والثقافية لهذه الساحة أو تلك.
قلق في الفهم
يستدعي الحديث عن الدين في علاقته بالواقع، اليوم، وفي ضوء ما يجري في العالم العربي من انتفاضات وانتقالات ومواجهات متنوعة الأشكال والأسلحة، كثيرًا من الحذر والتواضع. فهو حديث إشكالي، غير برئ، ويترجم حالات مختلفة من الحيرة والقلق. ويتطلب يقظة خاصة في مواجهة مختلف أشكال اللايقين والتعقد التي تشهدها مختلف الساحات العربية، فضلًا عن الالتباسات الكبرى التي تولدها صعوبات الخروج من التسلطية ومختلف تجليات الاستبداد، أو إذلال الإنسان وقتله باسم الدين. كما أنه يزج بنا في حالات من الخوف تعترينا في هذا الوقت، والصعوبات التي تعترض السياسيين والنخب، الكبار وغير الكبار، على توقع أو تخيل المستقبل.
وما يثير الانتباه، في مقاربة سؤال الدين أو القيم، يتمثل في غلبة نوع من الغُمّة أو الحداد على بعض المبادئ أو حتى القناعات الماضية، أو فقدان قيم تبقى، عند استدعائها، راهنة وذات جدارة. لكن إيقاع التحولات وحركة الاقتصاد، وسطوة الإعلام، واتساع دوائر أنماط التواصل الافتراضية، والأشكال الجديدة للعنف...إلخ تدفع بالمرء إما إلى تحويل الشك إلى نظام واختيار، أو السقوط في فخ الأنماط القديمة أو الجديدة من الدوغمائيات.
وقد يكون من الأليق التذكير، ونحن نحاول الاقتراب من سؤال الدين، بأن العمل التحرري الطويل للفرد - وهو ما بشرت به الحداثة- عمل مُكلف جدا، وهو ما لا يظهر أن كثيراً من المعالجات والتعليقات العربية قد أدركته أو تنتبه إلى مقتضياته التاريخية وشروطه السياسية، ولاسيما الثقافية. كل واحد، أو كل مجتمع، يؤدي الثمن حسب طبيعة القوى والفاعلين فيه. وبقدر ما يمكن اعتبار الكلفة التي يتعين تقديمها من أجل الحرية، فإن ذلك لا يمنع الإقرار ببعدها المفارق بوصفها ثقلًا ومسؤولية ليست هينة، لدرجة أنها قد تغدو استعبادًا من نوع جديد. وكثير ممن كتب ويكتب عما يجري في بعض الساحات العربية من انتفاضات من الكتاب الغربيين، أو من المثقفين العرب القاطنين في الغرب، حتى منهم من يكتب من الداخل يتصور أن هذا الحراك كان إيذانا ببروز الفرد العربي في المجال السياسي، وهي كتابات بدت لي، منذ البداية، حاملة لكثير من التسرع وسوء تقدير للمعطيات العميقة لهذه المجتمعات المنتفضة.
كيف يمكن إذن، العيش في عالم بدون بوصلة؟ هناك من يرى، مثل "أندري كونت سبونفيل" André Comte- Sponville أن العيش في هذا العالم التائه، المُستلب بكل أشكال الاستبداد والاستهلاك، الغارق في "ثقافة الإدراك"
[sup][2][/sup]، ممكن، لكن ليس بتخيل قيم جديدة، وإنما بابتداع نمط جديد من
الوفاء لتلك التي تركها لنا تاريخ الإنسانية، أو تلك التي أنتجها التاريخ الخاص لكل مجتمع، مع الانتباه إلى ما يفرزه العالم الذي يتشكل أمامنا من مظاهر الاحتجاج والتسلط، والاغتراب، والقلق. وما هي هذه القيم؟ هي تلك التي تبقى وفية للأصول أو المبادئ الأربعة للأخلاق، تلك التي تسير في اتجاه الحياة، وفي اتجاه المجتمع ومصالحه، وفي اتجاه العقل أو ما هو كوني فيه، وأخيرًا تلك التي تسير في اتجاه المحبة. ذلك أن التفاعل الحي بين هذه الاتجاهات هو ما يؤسس للوفاء، باعتبار أن متطلبات الحياة تقف عند حدود حاجات المجتمع التي تقف، هي بدورها، عند حدود العقل الذي يتحدد ويستكمل بالمحبة. وهكذا، فإن الانتقال الذي نعيشه اليوم، على صعيد السياسة والقيم، ليس انتقالًا من سُلَّم للقيم إلى سُلم للمبادئ وللقيم آخر، وإنما انتقالًا من التشبث المتشدد بإيمان ما إلى الوفاء للقيم النبيلة، باعتبار أن الوفاء هو ما يبقى من الإيمان حين نحسب أننا ضيعناه.
[sup][3][/sup]قد يبدو على هذا الحديث، وكأنه ينتهل من خطاب غارق في الأخلاقيات، وتحركه نزوعات رومانسية، وهو أمر مستبعد تمامًا. فالتداخل بين السياسة والفلسفة والأخلاق مسألة بديهية كلما تعلق الأمر بمنعطف في التاريخ، أو حركة تتغيا التجاوز، أو الانخراط في عملية انتقال. فكيف يمكن صياغة فعل جماعي لإقامة "دولة ديمقراطية" تحرر الإنسان العربي من حالة "الإذلال"، ومن "سيكولوجية القهر" إلى وضع عقد اجتماعي وسياسي جديد؟ وإلى أي حد يمكن التطلع إلى إعادة بناء مجال سياسي "ديمقراطي" يضع الدين في مكانه المناسب؟
الدين وسؤال الهوية السردية
هل يمكن أن نتحدث عن "الدين"، أو عن "الظاهرة الدينية" مع ما تفترضه من اختيار، وتموقع وقراءة لطبيعتها ووظائفها وأبعادها الروحية، أو أن نتحدث عن "نقل الرسالة الدينية"، أو "الخطاب الديني"، بدون أن ينتابنا نوع ما من أنواع القلق؟
في كتابه "الذات بوصفها آخر" يدعو بول ريكور إلى الاقتراب من الهوية السردية، أو الذات الساردة من خلال طرح الأسئلة التالية: من يتكلم عمّاذا؟ من يقوم بماذا؟ عمن وممن يُنتج الفعل السردي؟ ومن هو المسؤول، أخلاقيا، عمّاذا؟
الاقتراب من هذه الأسئلة في حديثنا عن الدين، أو عن الدين الإسلامي، إذا اخترنا أن يكون هو موضوعنا، هنا والآن، يمثل، بلا ريب، مغامرة. إذ إنه بمجرد أخذ الكلمة لتقديم فهم للوقائع المدركة أو للوقائع العميقة لنقل الرسالة الدينية، ولا سيما الرسالة الإسلامية، تضع كل هوية سردية موضع سؤال.
ومن جهة أخرى، يتعين التأكيد، ومنذ البدء، على أنه من الصعب، علي على الأقل، ادعاء أخذ الكلمة لتمثيل جماعة دينية كيفما كانت توابثها الاعتقادية؛ إذ كيف يمكن الحديث عن نقل الخطاب الديني، أو تقديمه في سياق الفارق الموجود بين ما هو مُدرك، وما هو عميق في الوقائع المعقدة لكل رسالة دينية؟ وكما يقول جاك ديريدا، بحق، في كتاب بعنوان "الدين" ألفه بالاشتراك مع جياني فاتيمو، "كيف يمكن التجرؤ على التحدث بلغة المتكلم بدون خشية ولا اضطراب؟ وأين يكمن الشر، اليوم، في اللحظة الحاضرة، أو في حضور اللحظة؟ ولنفترض أن هناك شكلا نموذجيا وغير مسبوق للشر، بله للشر المطلق الذي يميز زمننا، وليس شكلا آخر؟ هل بتحديد هذا الشر سنتمكن من الوصول إلى ما يمكن أن يكون عليه شكل الخلاص، أو الوعد بالخلاص لزمننا، وبالتالي لمعنى الديني الذي تقول كل الصحف أننا نشهد على عودته"؟ (ديريدا).
ثم هل عودة "الديني"، وفي كل الديانات والمجتمعات، يمكن اختزالها، وبكيفية متواطأ عليها وأحيانا بطريقة غامضة، في ما ننعته بالأصولية، أو التطرف، أو الراديكالية؟
حتى وإن كانت هذه الأشكال من التعبير المتشدد تشتغل في كل الديانات، فإنه لا مناص من الملاحظة أن الإسلام مقصود في كل مرة، من خلال إبراز أكثر التعبيرات التي تدعي تمثيله عنفًا، وبطرق فرجوية محسوبة؛ أو بوضعه موضع سؤال بسبب الأشكال المختلفة للشر التي تعبر عن ذاتها باسمه، أو بسبب الاعتبارات الجيوسياسية، منذ نشأة إسرائيل إلى 11 شتنبر 2001، مرورا بالثورة الإيرانية سنة 1979، واحتلال العراق وتدمير كيانه، إلى ظاهرة داعش والدولة الإسلامية.
سيكون من البديهي القول إن الإسلام ليس هو الأصولية الإسلامية، كيفما كانت ترجمتها السياسية والعسكرية، لأن الثانية تبرر ممارساتها باسم الأول. وهنا بالضبط مكمن الغموض الذي يلف الخطاب والفهم، كما يتكرس الخلط بين المدرك والواقع، بين ما ينعت ب "المُسبق المشروع" وما ليس كذلك، باعتبار أن "المسبق المشروع" هو ما تصادق عليه، أو تجيزه "سلطة مدنية أو دينية". لكن ما هي هذه السلطة؟ في حين أن "المسبقات غير المشروعة" هي، من حيث المبدأ، ما يتعين استبعاده لأنها خاطئة، تفتقر إلى الأساس، ضالة، منحرفة، معيبة، أو حتى داعرة. والمثير أن المسبق غير المشروع هو ما يتم الاحتفاظ به للدلالة على "الرأي المكتسب"، أو الإدراك الخاطئ والخطير لرسالة دينية ما.
سطوة السياسة على الإسلام
يتعرض الإسلام، في اللحظة الراهنة، إلى كل "المسبقات غير المشروعة" التي لا تقتصر أو تتوقف على مظاهرها الإدراكية أو التأويلية، لأن هذه المسبقات يتم ترجمتها، وأحيانا تبريرها، بأفعال عنيفة، حربية، مؤلمة تنتج مآس وأشكالا متفاوتة من المعاناة. ولعل المسبقات عن الإسلام، التي يلوكها غير المسلمين، وحتى من يدعي التموقع من منطلق الإيمان برسالته، تظهر وكأنها إدراكات "متوحشة"، بل وأحيانا ناتجة عن أشخاص يصعب الإقرار بأنهم يمتلكون ما يلزم من القدرة على إصدار حكم سليم.
نحن بإزاء مشكلة حقيقية للفهم، والتحليل، والتموقع؛ إذ من المؤكد أن الديانات الكتابية (اليهودية، المسيحية، الإسلام) تنطلق من مسلمة الخلق الإلهي، ومن الكيفيات المختلفة التي بواسطتها يحصل التجلي الرباني في العالم، ومع ذلك عاشت المسيحية قرونا من الالتباسات القاتلة بين الديني والدنيوي، بين القدسي والسياسي، وما تزال اليهودية تتعرض لكل أشكال الاستغلال السياسي والحربي من طرف الإيديولوجية الصهيونية، غير أننا نلاحظ في حالة الإسلام أن الاستعمال السياسي (أو الاستعمالات السياسية) لهذا الدين تشوش على فهم المعطيات العميقة والجوهرية للربوبية، كما تكثفها الروحانية الإسلامية، إذ يسيئ الإسلام السياسي، بمختلف الصيغ والسلوكيات، إلى الرسالة الكونية للإسلام. فالجيش الكبير للدعاة، والمفسرين، والمؤولين، ونجوم القنوات الفضائية (123 قناة فضائية عربية)، والأمراء والخلفاء يتناسلون مع السلفية الجهادية الحالية، ومع مختلف أشكال "الفبركة" الخطابية والسلوكية التي تختزل القرآن في مرجع تشريعي لإسناد الدولة الإسلامية، ويضحون بغنى الدلالات العميقة التي يختزنها النص المُؤسس، كما يستبعدون القوة التفسيرية للنص لفائدة منظومة من الأوامر والإكراهات.
يتطلب التفاوت الكبير ما بين المعنى الأول، والسطحي للنص ودلالاته العميقة يقظة خاصة، ومجهودًا بيداغوجيًا دائمًا لتوضيح الأبعاد المتعالية على الوقائع المدركة والوقائع الفعلية. هكذا فإن مسألة الجهاد، على سبيل المثال، منظور إليها من زاوية مجاهدة النفس تحولت- وهذا ليس أمرًا جديدًا ولا مستغربًا- إلى فقه جهادي من طرف أمراء الحرب والموت، حيث اكتسب الجهاد دلالة تقضي باعتباره تطهيرًا للنفس وخلاصًا يتم عبر الحرب ضد أعداء الإيمان، مسلمين وغير مسلمين، وأضحى الجهاد استراتيجية لإخضاع من لا يستجيب لهذا الفهم بدل اعتباره انتصارًا على الأهواء.
لا شك في أن الاحتواء السياسي العنيف للإسلام يولد أنواعًا من الغبطة لدى خصوم الإسلام، ويريح أصحاب "المسبقات غير المشروعة". يتعلق الأمر بمشكلة حقيقية للمعنى، وبصراع حار لتأويلات الرسالة؛ ذلك أن القيم الدينية، مهما كانت الديانة، هي دائما قيم متنقلة. فالمعنى الذي نمنحه لنص أو لقيمة يتبدل مع الوعي بالقيم الذي بواسطته ندرك، أو ننظر، أو نحكم على الناس والأشياء. فلنقارن ممارسة الإسلام من طرف المغاربة قبل خمسين أو ستين سنة، والأشكال الجديدة للتدين التي أصبحت تغزو، بالتدريج، المجال العمومي، بل وتخترق المؤسسات "العصرية" التي تخضع لمقتضيات الزمان والمكان التي لا تستجيب، نهائيًا، للأشكال المتشددة الجديدة للتدين الذي بدأ يمارسه بعض الموظفين والعمال.
من جهة أخرى، تزداد الوضعية تعقدًا حينما تستولي وسائط الاتصال على الدين وتدعي احتكار الحديث باسمه؛ سيما إذا اتفقنا على أن العمل الإعلامي والوسائطي، مهما كان سنده التقني وطبيعة اشتغاله، عاجز عن رصد معنى الحدث، بنزاهة، أو حياد وموضوعية (وهذه المصطلحات سجالية على كل حال)، فكيف بالأحرى يمكن أن "نؤمن" بما تقدمه هذه الوسائط ذاتها من خطابات حول الدين؟ والأنكى من ذلك حين تبث معلومات عن الأديان، ولاسيما عن الإسلام ومن طرف المسلمين أنفسهم، حيث تساهم هذه الوسائط في تقوية "المسبقات غير المشروعة"، وتزيد من منسوب الجهل بالوقائع العميقة والأبعاد المتعالية للأديان. وهذا ما يثبت أن الوهم بامتلاك المعرفة وتقديمها، باعتبارها كذلك هو أكبر وأفضل حليف للجهل. فالكرنفال الفضائي للقنوات الدينية العربية يبين مدى الحروب الداخلية للمذاهب، والتيارات، والتأويلات التي تقدم باسم الإسلام. أما المعالجات الإعلامية الغربية/ فإنها تبقى، في الغالب الأعم، سجينة الكليشهات والأحكام النمطية المسيطرة والمستندة إلى متخيل جماعي تاريخي صراعي مع الإسلام، يتم توظيفه في كل مرة، سياسيًا وإعلاميًا، كلما برز في المشهد العام سلوك أو دعوة عنيفة باسم الإسلام.
كيف يمكن الخروج من التراجيدي والانخراط فيما هو تواصلي الذي هو عنصر مؤسس لكل إيمان ديني؟ الجواب البديهي والمعتاد، والذي يبدو ساذجًا في بعض الأحيان، هو القول بالحوار. والحال أنه إذا كان الحوار "مُستعملا ومحترما" خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فإنه أصبح اليوم مشكوكا في أمره. هل يَحلُّ الحوار مشاكل العلاقات بين الأفراد، والثقافات والأديان؟ هل يمكن التسليم ببلاغة الحوار بدون أن ينعت المرء بكونه اهتدى إلى الأفلاطونية بشكل متأخر، كما يقول جياني فاتيمو؟ وهل يمكن الخوض في الحوار، حقا، ونحن نؤمن بأننا نمتلك "الحقيقة" ونتطلع، مع الزمن، إلى انتصارها؟
سؤال حاسم، فيما يبدو؛ فالإسلام الأوروبي يشكل، على سبيل المثال، "مختبرًا" عينيًا للمأزق الذي يوضع فيه من يمثله والـتأرجح ما بين الاندماج، أو التشدد والأصولية. يبدو أن السياسي ملزم بتدبير شؤون الدين حتى في الدول التي فصلته عن السياسة، وأحيانا بالرغم منه. فمهما كانت أشكال التدخل يبدو أن الحضور المتنامي للمسلمين في أوروبا (ما بين 15 و20 مليون مسلم) يملي على الدول إدخال المتغير الإسلامي في إعادة إنتاج المجتمعات الأوروبية.
وأما في الحالة العربية، فإن الاستعمالات السياسية للدين تظهر "النزعات التجريبية" للحركات الإسلامية الجديدة، سواء في مصر أو في تونس، أو مع طيف الإسلاميين في ساحات المعارك، أو مع داعش في العراق وسوريا، أو في حالة حكومات تدعي استلهام المرجعية الإسلامية؛ كل هذه "المختبرات" تكشف عن الشغف القوي للسلطة الذي يحرك هذه التيارات، والتفقير المتزايد الذي يتعرض له المقدس. إنها لا تشوه صورة الإسلام بإقحامه في مستنقعات السياسة فحسب، بل تهدد كل المحاولات العقلانية لتكييف الإسلام مع زمن العالم. فما يجري مع الدولة الإسلامية في عهد خلافة أبي بكر البغدادي، اليوم، بالدعوة إلى تطبيق إسلام متشدد مُتخيل، ليس غريبًا عن تاريخ الإسلام، منذ بداياته إلى الآن. لقد كتب الخوارج، وما يزالون يكتبون، تاريخ هذه الديانة بالدم والقتل، بتسميات وهيآت مختلفة. وعمل الوهابيون، حتى وإن تقدموا في بداية أمرهم بمشروع إصلاحي للإسلام، على فرض حركتهم على من يخالفهم القراءة والفهم، بقسوة وعنف لا أحد ينكره، وتطبيق الحدود بقطع الأيادي والرؤوس ممارسات جارية في الساحات العمومية قبل إعلان البغدادي عن دولته؛ فابن لادن، والزرقاوي، والظواهري والبغدادي نتاج هذه الحركة.
يمثل الإسلام، في نظر الحركات الإسلامية، نمط حياة وأسلوبا لتنظيم المجتمع، ومنظومة تتضمن كل الأجوبة الممكنة عن الأسئلة التي يطرحها الأفراد والجماعات. يتنامى هذا الشعور "الشمولي" كلما تعرضت الأنظمة الاستبدادية للهزائم، أو واجهت مآزق؛ كما أن فشل الإيديولوجيات الاشتراكية والقومية، ولا سيما في تعبيراتها البعثية، ساهم، بشكل كبير، في تقوية صعود الإسلاميين. فضلا عن أن تدمير العراق والتنكيل بكيانه من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، مستنيرة ب "عقل بريطاني لئيم"، وفشلهم الذريع في هذه المغامرة القاتلة سمح لإيران بالتموقع أحسن في المنطقة العربية، في نفس الوقت الذي وفر لفرع القاعدة في بلاد الرافدين إمكانيات التمدد والتغلغل في الحياة الاجتماعية والسياسية للعراق. ساعدهم، أيضا، في ذلك سياسة نوري المالكي الذي أدار البلاد بعقلية دوغمائية ومُستلبة بانتمائها الطائفي؛ حيث شكل ولاءه المذهبي للأغلبية الشيعية في العراق، واحتقار وتهميش ومعاقبة المناطق السنية، والقمع الوحشي الذي تعرضت له الأحياء السنية في بغداد، وتفقير السكان وبطالة الشباب، والاعتقالات التعسفية التي تعرضوا لها، كلها عوامل- وعوامل أخرى سينكشف أمرها مع الزمن- سمحت لأبي بكر البغدادي باستقطاب هؤلاء الشباب، كما كوادر حزب البعث الذين فقدوا، من جراء هذه السياسات، كل شعور بالوجود.
لا يتعلق الأمر، هنا، بتبرير تنامي هذه الظاهرة التكفيرية، العدمية، وإنما بمحاولة فهم العوامل التي مكنتها من القوة والتمدد، ومن أن تصير قوة سياسية وعسكرية، وأن تتحول بانفجار الوضع السوري، إلى "دولة" لم تعد تعترف بولائها للقاعدة.
ولعل الإسلام الذي يسائلنا، كما يسائل العالم، هو ما ينعت بـ"الإسلام السياسي". وعلى الرغم من تداعيات أحداث 11 شتنبر 2001، وخوضها لحروب مباشرة أو بالوكالة طيلة 13 عاما ضد حركات القاعدة، ما تزال أمريكا تؤمن بأنه لا وجود لإسلام "معتدل"، بل عملت بهذه السياسة، في الواقع، على تقوية هذه الحركات وانتشارها. والأنكى من ذلك، أن الولايات المتحدة الأمريكية انخرطت، بدعم مادي وإيديولوجي وإعلامي لبعض الأنظمة العربية، في عملية تدميرية لإضعاف الدول العربية باسم شعار فضفاض يدّعي "دمقرطة" المنطقة، حيث دمرت العراق، وسوريا، وأضعفت مصر، وبلدان عربية أخرى، قصد العودة بها إلى مراحل ما قبل الدولة. كل ذلك لصالح إسرائيل- وهي الدولة المارقة والإرهابية كما عبرت عن طبيعتها مرة أخرى في حربها الأخيرة على غزة-، ولصالح التنامي الكبير للتكفيريين الذين يستفيدون من عناية إسرائيلية خاصة، "وتعايش سلمي"، بل من تواطؤ عسكري معهم، كما يحصل في الجولان والمناطق المجاورة لمدينة القنيطرة السورية.
وسواء اعتبرناه عقيدة أو أخلاقيات، طوبى أو سياسة، يبدو الإسلام وكأنه مُحتجَز من طرف كل الأطياف الإسلاموية، كما من طرف الحروب المذهبية الجديدة بين الشيعة والسنة. ومع ذلك، فما بين "الإسلام السياسي" الذي تقول به بعض الأحزاب للوصول "السلمي" إلى السلطة، أو إسلام التكفيريين الذين اختاروا طريق العنف المسلح، أو إسلام الورع والقيم الاجتماعية والأخلاقية الرافض لكل تورط سياسي؛ ما بين هذه التعبيرات المختلفة للإسلام يبدو أن اختزال الظاهرة الإسلامية في تعبيراتها السياسية اختزال متعسف، وخاطئ، ويكرس السهولة في إصدار الأحكام التبسيطية والنمطية. ذلك أن الأحداث الحالية تسجن الملاحظين في نظرة سطحية إلى الظاهرة من خلال إدراكها، فقط، من الزاوية السياسية. ومن المؤكد أن تيارات "الإسلام السياسي" تكرس هذا البعد السياسي، وتساهم في تحريف أسس الإسلام المتافيزيقية والروحية، وفي إنتاج مختلف أشكال الخلط في العقول والأفهام لدى الناس. ولا شك أن رهان تسمية الظاهرة الإسلامية، اليوم، يكشف عن موقف متأرجح بين خطاب متموج للهوية، وبلاغة قلقة حول الاختلاف، إذ يعتبر بعض الإسلاميين أن الظاهرة السياسية والعسكرية الجديدة تمثل "نهضة" أو "إحياء" للإسلام؛ بينما يرى فيها آخرون أصولية ارتكاسية، ونزعة رجعية، وعدمية عنيفة؛ بينما يحسب آخرون أن ما نشهده، اليوم، هو عودة منفلتة للمكبوت يعبر عن تفاصيله بلغة دينية.
أمام نزاع الصور، وصراع التأويلات، وأفعال العنف الآتية من جهات مختلفة الأهواء والأهداف، كيف يمكن التعبير عن الرجاء أو الشوق إلى إيجاد "عيش مشترك" ممكن في هذا العالم الذي من المفترض أن يتقاسمه الجميع، والعمل على إرساء نوع من "التعالي الانفعالي" لتحييد الانحرافات، وتجنب الانتهاكات التي تمارس باسم الدين، باسم كل الأديان؟
وفي كل الأحوال، وفي ضوء المآسي التي نشهد على وقائعها تحت عناوين إقحام الدين في شؤون السياسة، وبأشكال فضائحية أحياناً، لا مناص من التأكيد على أن الدين يستعيد أبعاده الروحية والوجدانية، والاجتماعية، وقيمه المتعالية كلما تمكنت المجتمعات من إنضاج تعاقد اجتماعي مبني على الحرية، حرية التعبير والتفكير والمعتقد، ومبني على قاعدة المواطنة التي تنبذ كل أشكال التمييز سواء باسم اللغة، أو العرق أو الدين. فالدولة الديمقراطية أثبتت قدرتها على احتضان الاختلافات، وعلى التدبير المتوازن للمسألة الدينية، وعلى حصر مقتضيات النقاش في أطرها المناسبة، حتى لا تنزلق إلى قضايا تؤجج الانفعالات وتستنفر التمثلات والأحكام الاخترالية. فالظاهرة الدينية من نوع "البؤر الصراعية" التي تحتاج إلى تدبير يُعلي من شأن المشترك للحفاظ على السلم المدني، بدل تركه في أيدي السياسيين يتلاعبون به حسب المواقع، والمصالح، ولعبة توازن القوى.