20 يناير 2015 بقلم
عبد السلام بنعبد العالي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:في مواجهته للباطنية، شعر أبو حامد الغزالي بقصور المحاججة المنطقية وعجزها عن إقناع الخصم. وقد تبيّن أن الاقتصار على الوقوف عند الصلاحية المنطقية للخطاب لا ينفع كبير نفع في هذا المجال، لذا عمد إلى تناول الخطاب من وجهة نظر مفعوله، أو كما يقول هو، الآفات التي تتولد عنه. وهكذا، فعندما يستعرض في المنقذ أصناف الطالبين، ويقوم بتحليل مختلف الطرق التي انتهجت في المعرفة، فإنه لا يعرض لهذه الطرق من حيث هي مناهج معرفة، وإنما يسأل الخطاب، كما يقول، من وجهة "الآفات التي تتولد عنه". ذلك أن هذه الطرق، في نظر حجة الإسلام، حتى وإن كانت تؤدي إلى معارف صادقة في ذاتها، فإن الآفات التي تتولد عنها قد تكون مخالفة فتقود إلى الضلال؛ إذ لا يكفي أن يكون الخطاب متماسكا من حيث منطقه كي يكون صادقا، بل يمكن للخطاب الصادق أن يولّد الضلال. وهذا لا يصدق على الفلسفة وحدها، وإنما حتى على المعارف الرياضية التي قد تجر البعض "إلى أن يكفر بالتقليد المحض"، أو المنطق الذي ربما ينظر فيه "من يستحسنه ويراه واضحا، فيظن أن ما ينقل عن أصحابه من الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين". وهكذا فالضلال ليس بالضرورة أفكاراً خاطئة، كما أن "الشبهة إذا انتشرت" فإنها تعمل عمل الحقيقة.
وضع الغزالي إذاً يده على ما ندعوه اليوم "الاقتصاد السياسي للمعرفة"، كما أدرك أن الخطاب لايتحدد فحسب بتماسكه المنطقي، وسلامة بنائه، وإنما بما يتولد عنه من مفعولات، بل إننا نستطيع أن نقول إن حجة الإسلام تبيّن العلاقة بين الخطاب ومفعول معيّن للسلطة، وأدرك أن المعرفة وحدها عاجزة عن هداية الضّالين، وأن لا مفر من اقتران سلطة المعرفة بسلطان دنيوي .صحيح أنه لم يذهب إلى حدّ القول إن "في" الخطاب سلطة، لكنه سلم بأن الخطاب يستمد قوته ومفعوله من السلطة التي من ورائه، وبالتالي أن "لـ" لخطاب سلطة. فحياة الحقيقة وانتشار الأفكار وانتصارها لا يتوقفان على صدقها المنطقي، وإنما على السلطة التي تروج لها. العلم كما يقول الإحياء "لا يذمّ لعينه"، والكلام يتخذ معناه من المنبر الذي يصدر عنه، "فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسُن فيه اعتقادهم قبِلوه وإن كان باطلا، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردّوه وإن كان حقا، فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق". هذا ما يؤكده كتاب فضائح الباطنية: "فالشيء إذا نسب إلى مشهور بالفضل، يغلب على الطبع التشوق إلى التشبُّه به، فكم من طوائف رأيتهم اعتقدوا محض الكفر تقليدا لأفلاطون وأرسطوطاليس وجماعة من الحكماء، قد اشتهروا بالفضل وداعيهم إلى ذلك التقليد وحب التشبّه بالحكماء".
إن المعارف، حتى وإن كانت يقينية في ذاتها، إلا أنها تتحدد أساسا بمن يروج لها، بل إن الألفاظ ذاتها تنطوي على مفعول يتجاوزها كألفاظ. ولعل هذا هو ما يفسر إلحاح حجة الإسلام على ترجمة لغة المنطق ونقلها إلى لغة القسطاس المستقيم نظراً للإيحاء الذي لتلك الألفاظ ووقعها على الآذان والعقول، فقيمة اللفظ أيضا ليست في ذاته وفي ما يحمله من معنى، وإنما في مفعوله وما يتولد عنه.
لقد خاض حجة الإسلام في مواجهة الفلاسفة والتعليمية خوض مجادل، ودخل في الاعتراض عليهم "دخول مطالب منكر لا دخول مدع مثبت". فلما أدرك أن الشبهة، إذا اشتهرت، تعمل عمل الحقيقة، تأكد أن الوقوف عند الإنكار ليس كافيا وحده، فتفنيد الآراء مسألة لا تنفع فيها المناظرة الكلامية، وخطر الفلسفة والتعليم لا يكمن في الأفكار التي يروج لها، وإنما في الآفات التي تتولد عن تلك الأفكار.
لا مانع إذن، أن يعمد الغزالي إلى قوة الأسلوب وغموضه في بعض الأحيان، وإلى براعة الجدل فلا "ينهض ذابا عن مذهب مخصوص"، لأن المقصود، في هذه الحرب العقدية، ليس الدفاع عن أفكار بعينها، ومناصرة فرقة بذاتها، وإنما ربح المعركة. لذا فهو يدعو لأن تُجعَل الفرق" إلبا واحدا على أعدائه"، "فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفاصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم فعند الشدائد تذهب الأحقاد".
من السهولة بمكان أن نجد من معاصرينا من يذهب هذا المذهب في التعامل مع "نظام الخطاب"، لكن قيمة رأي الغزالي آتية من كونه أساسا وليد مخاض عاشه المجتمع الإسلامي ذاته، فدفع مفكريه إلى أن يبحثوا عن قوة الخطاب وحدوده، فأخضعوا معيار المنطق نفسه لمعيارآخر يحتويه، حيث لا يتوقف عند الخطاب واللوغوس و"المنطق" لضبط القواعد التي ينبغي أن يخضع لها، وإنما يبحث عن شروط إمكان القول، عن "الاقتصاد السياسي للمعرفة"، وعما يتولد عن الخطاب من مفعولات.
وعلى الرغم من كل ذلك، ورغم ما توصل إليه حجة الإسلام، فإنه يعترف بعجزه، لا عن إقناع الخصم، لأن المسألة كما قلنا ليست مسألة إقناع، وإنما مسألة "تحويل رأي الخصم". إنه يعترف بعدم مفعولية الخطاب، فيقر بنوع من الإحباط، بل من اليأس من التأثير على "المائل عن الحق" وردّه إلى طريق الصواب. وهكذا، ففي نص يورده في كتابين أساسيين من كتبه يحاول أن يبرر هذا الشعور باليأس عاقدا حوارا بينه وبين داعية باطني: يسأل الداعية: "هل يمكنك أن تعرف جميع الحقائق والمعارف الإلهية جميع الخلق فترفع الاختلافات الواقعة بينهم"؟ فيجيب الغزالي: "هيهات لا أقدر عليه، وكأن إمامك المعصوم قد رفع الاختلافات بين الخلائق وأزال الإشكالات عن القلوب. ...بل اختلاف الخلق حكم ضروري أزلي ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك"، ثم يسأل الداعية "كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟" فيرد الغزالي: "إن أصغوا إليّ رفعت الاختلافات بينهم، ولكن لا حيلة في إصغائهم، فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إلي؟ وكيف يجمعون على الإصغاء وقد حكم عليهم في الأزل بأنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك؟"
لا يهمنا هنا أن نسأل الغزالي "لماذا لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك"؟ لأنه لن يفيدنا كثيرا هذه المرة. وعلى أية حال فهو لا يضع الإختلاف مبدأ لديناميكية الحوار. إلا أن ما يهمنا بالضبط هو أن نتبين أن هؤلاء الذين لا يصغون، لا يقرون بضرورة الاختلاف كما يفعل الغزالي؛ فهم يرفضون كل تعدد للآراء واختلاف للمواقف، وكل تردّد بين شك ويقين. الأمر الذي يدفعهم إلى أن يُدخلوا كل الأمور في دائرتهم فيجبرونها على الخضوع لمنطقهم، مع ما يقتضيه ذلك من آلية إكراهية. ونحن نعلم، كما سيقول نيتشه فيما بعد، أنّ كل آلية توحيدية، وكل نفي للاختلاف، لا يكون كذلك إلا بما هو تنظيم وإكراه وإقحام، وإلا بما هو مقاومة فوضى الكثرة، وسَنّ منطق الهيمنة والإخضاع والقهر. هذه الآلية هي التي تكمن وراء إلغاء الآخر، والانعكاف على الذات، وإغلاق الأبواب، بل إغلاق الآذان نفسها.