مقالٌ مترجمٌ عن مجلة New Scientist لمحرّرها جراهام لاوتن Graham Lawton – منشورةٌ في عدد أيار / مايو 2014
[rtl]
[/rtl]
[rtl]في صباحٍ دافئٍ غير فصليٍ بلندن، قمتُ بشيءٍ لم أفعله لأكثر من ثلاثين عامًا؛ حيث نهضتُ متوجهًا إلى الكنيسة، فرنّمتُ واستمعتُ إلى القراءات، وتنعّمتُ بلحظاتٍ هادئةٍ من التّأمل، ورميتُ بعض القطع النّقدية في صندوق التّبرعات الخيرية. وفي الأخير كان يوجد الشّاي والكعك وشعرتُ بإحساسٍ دافئٍ في روحي. على ما أظن؛ كان هنالك المئات مثل هذه التّجمعات في أنحاء المدينة، لكن فقط مع استثناءٍ وحيدٍ جديرٍ بالذّكر: لا وجود حقًا لإلهٍ هنالك.[/rtl]
[rtl]مرحبًا بكم إلى ” تجمع الأحد “، حيث يُعقد تجمعٌ صلواتيٌ لغير المؤمنين مرةً كل أسبوعين في صالة كونواي، مقرّ أقدم منظمةٍ للتّفكير الحر في العالم. كان يوجد على الأقل 200 شخصٍ بالصّالة في اليوم الذي ذهبت فيه، وأحيانًا يُقدر عدد الحضور بـ 600 شخصٍ.[/rtl]
[rtl]
يهدف تجمّع الأحد، الذي أسّسه كلٌّ من الكوميديان ساندرسون جونز وبيبا إيفانز عام 2013، إلى توفير بعضٍ من الميزات المعنوية الجيدة في الأديان، لكن بالاستغناء عن الإيمان بالأمور الخارقة للطّبيعة. الإلحاد أيضًا خارجَ جدول الأعمال؛ فهذا التّجمع ببساطةٍ احتفالٌ بالحياة. يصفه المؤسس جونز بقوله: مهمتنا مساعدة النّاس لعيش هذه الحياة الواحدة قدر المستطاع.[/rtl]
[rtl]هدف التّجمّع الموسّع إقامة تجمّعٍ صلواتيٍ في كلّ بلدةٍ ومدينةٍ وقريةٍ تريد ذلك. ويوجد بالفعل الكثيرون: فمن بدايةٍ متواضعةٍ تتمثّل في كنيسةٍ علمانيةٍ بلندن، أصبح يوجد الآن 28 تجمّعًا فعّالًا في المملكة المتحدة، إيرلندا، الولايات المتحدة، وأستراليا. يعمل جونز الآن بكامل وقته ليوفّر متطلبات المزيد من هذه التّجمعات، ويتوقع أنْ يتم إنجاز 100 تجمعٍ بنهاية هذه السّنة.[/rtl]
[rtl]الأشخاص الذين انضممت إليهم بذلك الأحد المشمس ليسوا إلّا جزءً صغيرًا من الهُوية الدّينية الأكثرِ نُموًا في العالم “اللادينيون”. ويشملون غير المؤمنين من جميع الأنواع، بدايةً من الملحدين المقتنعين مثلي، إلى أناسٍ لا يهتمون بالدّين ببساطةٍ، وهم الآن يُعدون أكثر من بعض الدّيانات الرّئيسة في العالم.[/rtl]
[rtl]في لندن، وباعترافهم، هم ليسوا شيئًا مميزًا؛ فالمملكة المتحدة واحدةٌ من أدنى البلدان تدينًا بالعالم، بقول حوالي نصف سكانها إنّهم لا ينتمون لأيِّ دينٍ. لكن بالنّسبة لأماكن أخرى فإنّ بزوغهم سريعٌ وجديرٌ بالملاحظة. منذ عقدٍ؛ اعتبر أكثر من ثلاثة أرباع سكان العالم أنفسهم متدينين، ولكن اليوم هم أقل من ستين بالمئة، وفي حوالي ربع البلدان يُعتبر “اللّادينيون” الآن أكثريةً. شُوهدت بعض أكثر الانحدارات في نسبة ذلك ببلدانٍ كان فيها الدّين يعتبر مثله مثل أثاث المنزل لا غنًى عنه؛ كإيرلندا على سبيل المثال، ففي عام 2005 قال 69 بالمئة من النّاس هناك إنّهم متدينون، أمّا الآن، فقط 47 بالمئة هم كذلك (لاحظ المخطط البياني أدناه).[/rtl]
[rtl]شكل[/rtl]
[rtl]يقول آرا نورينزايان: نحن بصدد رؤية نزعةٍ علمانيةٍ على مستوى العالم، وهو عَالِمٌ نفسيٌ بجامعة كولومبيا البريطانية في فانكوفر بكندا، ويستأنف حديثه قائلًا: توجد حاليًا أماكنٌ حيث تصنعُ العَلْمَنَة غزواتٍ كبرى في أوروبا الغربية والشّمالية، كندا، أستراليا، نيوزيلندا، اليابان، والصّين، حتى في الولايات المتحدة – وهو بلدٌ مسيحيٌ بعمقٍ- عدد النّاس الذين يُبدون رأيهم القائل ” لا انتماء ديني ” قد ارتفع من 5% في عام 1972 إلى 20% اليوم، وبين الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن الثّلاثين عامًا فإنّ تلك النّسبة تكون أقربُ إلى الثّلث.[/rtl]
[rtl]ذلك لا يعني أنّهم جميعًا قد رفضوا الدّيانات علنًا بوضوحٍ؛ فقط ثلاثة عشر بالمئة من النّاس حول العالم يقولون إنّهم ملحدون ملتزمون. ومع ذلك؛ فهذا يعني أنّه يوجد حوالي مليار ملحدٍ عالميًا. يمكن فقط للمسيحية أو الإسلام الإدعاء أنّ أعدادهم أكثر من هذا. وبجانبٍ هؤلاء الملحدين يوجد مليارٌ ونصفٌ آخرَ ممن لا يرون أنفسهم متدينين لسببٍ من الأسباب.[/rtl]
[rtl]منذ قرنٍ؛ كانت هذه النّزعات تبدو حتميةً، حيث توقع مُؤَسِسَا علم الاجتماع إميل دوركيم وماكس ويبر أنّ التّفكير العلمي سيقود إلى التآكل التّدريجي والرّحيل النّهائي للدّين. ورأيا قيام المنظمات الإنسانية، والعقلانية، والفكرية الحرّة في أوروبا الغربية كبدايةٍ للثّورة العلمانية.[/rtl]
[rtl]وُلد ليؤمن[/rtl]
[rtl]لم أفهم بالضبط ما الذي حصل؛ فعلى الرّغم من أنّ أجزاءً من أوروبا الغربية، أستراليا، كندا، نيوزيلندا اتبعت العلمنة بعد الحرب العالمية الثّانية فإنّ باقي العالم بقي مؤمنًا وبعزمٍ. وحتى الإلحاد الرّسمي في الجبهة الشّيوعية لم يَكُن ذا رسوخٍ عميقٍ. بل على العكس من المتوقع؛ فقد بدأ الدّين ينبعث من جديدٍ في نهاية القرن العشرين؛ وبدأت الجماعات الأصولية بإحراز مكانةٍ في العالم؛ وصار الإسلام قُوةً سياسيةٍ لا يستهان بها؛ وبقيت الولايات المتحدة مؤمنةً بعنادٍ؛ وبدأت أوروبا اللّادينية بالانعزال بشكلٍ متزايدٍ، والآن وبعد أنْ عادت العلمنة إلى الواجهة، يقول فيل زوكيرمان، وهو عَالِمٌ اِجتماعيٌ في جامعة بيتزر في كليرمونت في كاليفورنيا: ظهر في العشرين عامٍ الأخيرة تقهقرٌ شديدٌ للتّدين في كل المجتمعات، إنّنا نرى الدّين في تراجعٍ، صحيحٌ هنالك تزايدٌ في الحركات الأصولية، لكننا بشكلٍ عامٍ نرى تزايدًا في معدلات اللّادينية في مجتمعاتٍ لم نرَ فيها اللّادينية قبلًا أبدًا، كالبرازيل وايرلندا وحتى أفريقيا.[/rtl]
[rtl]إذاً، هل تحقّق توقّع القرن التّاسع عشر القائل بعالمٍ لادينيٍ؟ هل من الممكن أنْ يجيء يومٌ يَعْتَبِر فيه أغلبية النّاس أنفسهم غير مؤمنين؟ وإنْ حدث هذا؛ فهل سيكون العالم مكانًا أفضل؟ للإجابة على هذه الأسئلة فعلينا أنْ نُدرك أولًا لِمَ يؤمن النّاس بإلهٍ ما.[/rtl]
[rtl]الجواب واضحٌ بالنّسبة للكثيرين: يؤمن النّاس بالإله لأنّه موجودٌ. بِغَضِ النّظر عن صحة أو خطأ هذا الإدعاء، إلّا أنّه يوضح شيئًا مثيرًا جدًا حول طبيعة الإيمان الدّيني. بالنّسبة للأغلبية العُظمى من النّاس فإنّ الإيمان بإلهٍ أمرٌ غير مكلفٍ أو مَفْروغٌ منه. فكأنّك تتنفس أو تتعلم لغتك الأصلية، فالإيمان بإلهٍ هو واحدٌ من هذه الأمور، يُكتسب فطريًا. ما السّبب في ذلك؟[/rtl]
[rtl]في السّنوات الأخيرة قام علماءُ النّفس المعرفي بصياغة تقريرٍ شاملٍ حولَ قابلية الدّماغ البشري للتّأثر بالأفكار الدّينية. سُمّيَ بنظرية المُنتج الثّانوي للإدراك Cognitive by-product Theory، تتضمن أنّ سماتٍ معينةً من نفسية الإنسان تطورت لأسبابٍ غير دينيةٍ، لكنها خلقت أيضًا أرضًا خِصبةً للإيمان بإلهٍ. وكنتيجةٍ لهذا فإنّ النّاس عندما يواجهون قصصًا وادعاءاتٍ دينيةً فإنّهم يجدونها جذابةً ومعقولةً بشكلٍ بديهيٍ.[/rtl]
[rtl]على سبيل المثال، كان أسلافنا على رأس قائمة الطّعام للمفترسات، لهذا فإنّهم طوروا قُوةَ رصدٍ شديدة الحساسية للعوامل المسببة، هذه تسميةٌ مزخرفةٌ لافتراضٍ أنّ الأحداث الطّبيعية مُسَبَبةٌ من قِبل كائناتٍ أو قِوًى واعيةٍ. ونرى لهذا أسبابًا أو معنًى تطوريًا؛ فقد تعني أيُّ خربشةٍ في الشّجيرات أنّ هنالك مفترسًا يطوف خِلسةً، لذا من الأفضل التزام جانب الحذر، لكن ذلك يجبرنا لافتراض وجود قِوًى أو كائناتٍ حيث لا وجود لها. وذلك أحد أهم ادعاءات الأديان، أنّه هنالك عوامل غير مرئيةٍ مسؤولةٍ عن القيام بالأشياء وصنعها في العالم.[/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]الرّاحة الوجودية[/rtl]
[rtl]قام البشر بتطوير طرقٍ مراوغةٍ أخرى ساهمت في انتشار المعتقدات الدّينية مثل المفاهيم الشّخصية الخِيِّرة للإله، الغاية العليا والحياة الأخرى مثالٌ عليها هو مساعدةٌ للنّاس للتّحكم في خوفهم الأبدي وتعليمهم أنّ الشّك جزءٌ من كونك إنسانًا.[/rtl]
[rtl]لدينا أيضًا ميلٌ نحو تقليد أولئك الذين يكونون في مراكز عليا – كما نقلد المشاهير الحاليين – وميلٌ لنَتَوَافق مع المعايير الاجتماعية المشتركة، وكلاهما يساهم في انتشار المعتقدات الدّينية. فنحن مذهولون بشيءٍ يسميه العلماء CREDs عروض تعزيز المصداقية Credibility Enhancing Displays مثل الأغراض الدّينية كالصّوم وجلد النّفس أو الاستشهاد.[/rtl]
[rtl]وأخيرًا؛ فالنّاس الذين يظنون أنّهم تحت المراقبة سيكبحون جِماح أنفسهم ويتعاونون أكثر، فالمجتمعات التي تحظى بمراقبةٍ خارقةٍ للطّبيعية ستكون أنجح في هذا المجال من المجتمعات الأخرى، ما يساهم في نشر الأفكار الدّينية. لنضيف إلى هذا طريقة عمل أدمغتنا التي تجعلنا نتلقى الأفكار الدّينية بشكلٍ طبيعيٍ وتَتَقبلها حتى حين نقاومها. ما إنْ يقتنع البشر بفكرة الإله سينتشر هذا كالنّار في الهشيم.[/rtl]
[rtl]وكذلك نظرية المنتج الثّانوي للإدراك Cognitive By-Product Theory تُوفر لنا سببًا لانجذاب النّاس بسرعةٍ إلى الأفكار الدّينية. لكن ومع القول إنّ تَقَبُل الإله سهلٌ جدًا، إذاً، لماذا هناك ملحدون؟[/rtl]
[rtl]إلى فترةٍ قصيرةٍ، كان الظّن سائدًا أنّه على النّاس شرح كل الأسباب التي تدفعهم إلى الإلحاد؛ فحللوا متطلبات الدّين ورفضوها على أرض اللّامعقولية. ما يفسّر لنا لماذا كان الإلحاد مسعًى لأقليةٍ من النّاس، لماذا تجد أنّ أكثر الملحدين مثقفين؟ ولماذا الدّين سائدٌ ومستحملٌ؟ بعد التّغلب على كل هذه التّحيزات التّطورية وفهمها، لا يجب أنْ يستمر الأمر على هذا المنوال.[/rtl]
[rtl]“الإلحاد التّحليلي” طريقٌ مهمٌ إلى اللّادينية، ربما يفسر التّزايد المستمر للعلمانية شيئًا ما. ونجده بكل تأكيدٍ يزدهر في أماكن حيث يكون الأفراد مُطلعين على التّفكير العلمي، وعلى نُظم التّفكير التّحليلي الأخرى. لكنه ليس النّكهة الوحيدة لللّادينية.[/rtl]
[rtl]ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ومن بين الـ 20 % الذين يقولون إنّهم لا يملكون انتماءً دينيًا مُحددًا، نجد أنّه فقط واحدٌ من كل عشرةٍ منهم يقولون إنّهم ملحدون والأغلبية العظمى التي تزيد عن 71% منهم يصفون هُويتهم الدّينية بـ “لاشيءَ محددٍ”، يقول نورينزيان: هناك طرقٌ ودوافعٌ عديدةٌ لكي تكون ملحدًا؛ فعدم الاعتقاد لا يتطلب مجهودًا مَعْرِفيًا دائمًا. فإنْ كان النّاس لا يرفضون الإدعاءات الدّينية بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ، فلماذا يَهْجُرون الإله؟ بالنّسبة لنورينزيان فالجواب يكمن في بعض التّحيزات النّفسية التي تجعل الدّين سهلُ التّقبلِ، فأحد أهم الأسباب لهجر الإيمان بإلهٍ هو أنّ النّاس أصبحوا لا يحتاجون إلى تلك الرّاحة التي تأتي مع التّصديق بوجود إلهٍ بشكلٍ متزايدٍ. حيث إنّ الدّين يزدهر على حساب القلق الوجودي؛ حيثما يشعر النّاس بانعدام الآمان وانعدام الرّاحة والغموض، يأتي الدّين مُسْعِفًا لهم. لكن مع ازدهار واستقرار المجتمعات، تقلّ أهمية ذلك الغِطاء الأمني شيئًا فشيئًا. وعلى أساس هذا فمن غير المفاجئ أنّ الدّول اللّادينية من أكثر الدّول استقرارًا وأمانًا مثل دول الدانمرك والسّويد والنّرويج التي تمّ تصنيفها من أكثر الدّول ازدهارًا واستقرارًا وأمانًا مع عنايةٍ صحيةٍ تشمل الجميع بالإضافة إلى ضمانٍ اجتماعيٍ سخيٍ.[/rtl]
[rtl]كذلك فإنّ الدّول المتدينة تُعد أكثر الدّول فُقرًا من كل النّواحي وفقًا للمؤشر العالمي للدّين والإلحاد Global Index of Religion And Atheism. ذلك الرّابط – بين مستوى الدّول الاقتصادي واتجاهاتها الدّينية – مدعومٌ بدراساتٍ مختبريةٍ تُظهر أنّ إدراك الأفراد بالتّهديدات الوجودية، كالألم والعشوائية والموت، من شأنها أنْ تزيد اعتقادهم بالله. فبعد زلزال مدينة كرايستشرش الذي حصل في نيوزيلندا التي تُصنف كأحد البلدان ذات اللّادينية المرتفعة سنة 2011 زادت الالتزامات الدّينية هناك، هذا النّوع من الإلحاد يسميه نورينزيان بالإلحاد البراغماتي أو اللّاإكتراثية Apatheism حيث يقول: الموضوع ليس عن التّشكك والرّفض، بل إنّه وببساطةٍ عدم الاهتمام؛ فهم لا يفكرون بالدّين، ويضيف: فبمقارنتها معَ أممٍ ثريةٍ أخرى تنفرد الولايات المتحدة بنسبِ القلق الوجودي العالية وشُحِّ الرّعاية الصّحية وانعدام الأمن الوظيفي المنتشر وغيرها، ما يساهم في خلق أرضٍ خِصبةٍ لكي يزدهر الدّين فوقها.[/rtl]
[rtl]أحد أهمِ مصادر اللّادينية الأخرى هو الإلحاد المفتقد لعرض تعزيز المصداقية inCREDulous Atheism الذي يشير إلى عرض تعزيز المصداقية آنف الذِّكر، مع ملاحظة أنّ inCREDulous هنا لا تعني incredulous أيْ ميالٌ للشّك باللّغة الإنجليزية، لكنه مصطلحٌ يقصد به رفضٌ للـ CREDs.[/rtl]
[rtl]فالعرض الدّرامي للتّدين يقول عنه نورينزيان: هذه العروض لديها تأثيرٌ قويٌ على كيفية انتقال الأديان؛ فأينما تجد أفرادًا مستعدين للموت لأجل دينهم؛ على سبيل المثال، ستجد أنّ هذه المعتقدات الدّينية معديةٌ وبشكلٍ غير طبيعيٍ، لكن حيث لا تَرى مثل هذه العروض وحتى لو كان المحيط كله أفرادٌ متدينون ستجد أنّ هنالك بوادرَ لرفض الدّين. [/rtl]
[rtl]نورينزيان ما زال يعمل على معرفة العلاقات بين هذه الطرق المختلفة التي تؤدي إلى الإلحاد، وربما يكون أحد أسبابها في كونها تَدْعم بعضها تلقائيًا، لكنه يقول إنّ حدسه يخبره أنّ الإلحاد البراغماتي هو الأهم ويَذْكر: هذا سيكون مفاجئًا للكثير من النّاس الذين يعتقدون بالوصول إلى الإلحاد عن طريق التّفكير التّحليلي، لكن حسب ما أرى من أدلةٍ قويةٍ أنّ المجتمعات تصل إلى المساواة فيما بينها، وبالتّالي ستأتي العلمانية بعد ذلك .[/rtl]
[rtl]بالنّسبة لبعض أنصار الدّين فهذا يعني أنّ اللّادينيين ليسوا ملحدين مُطلقًا، وهذا الإدعاء يدعمه فحصٌ قام به مركزٌ “ثيوز Theos” البريطاني المسيحي حيث وجدوا أنّه على الرّغم من تراجع الأديان بين البالغين إلّا أنّ المعتقدات الرّوحية لم تكن في حالةِ تراجعٍ؛ حيث إنّ 60% من الذين تمّ سؤالهم قالوا إنّهم يعتقدون بوجود قوةٍ عليا أو روحٍ عظمى، وحوالي 13% منهم اتفق مع المقولة: البشر مجرد كائناتٍ ماديةٍ دون عناصر روحانيةٍ .[/rtl]
[rtl]بعض العلماء – ونخصّ بالذّكر باسكال بوير من جامعة واشنطن في سانت لويس – قد ادعوا أنّ الإلحاد شيءٌ مستحيلٌ على المستوى النّفساني بسبب طريقة تفكير البشر. حيث أشاروا إلى دراسةٍ تقول إنّه حتى مع كون المرء ملحدًا فما زال بداخله بعض المعتقدات الدّينية مثل وجود الرّوح الخالدة على سبيل المثال.[/rtl]
[rtl]بالنّسبة لنورينزيان هذا مجرد كلامٍ فارغٍ حيث يقول: عناوين الأفراد لا تهمني في شيءٍ كما تهمني سيكولوجياتهم وتصرفاتهم. فهل يقول النّاس إنّهم لا يعتقدون بوجود إلهٍ؟ هل يذهبون إلى كنيسةٍ أو معبدٍ أو مسجدٍ؟ هل يُصَلون؟ هل وجدوا شيئًا ذا معنًى في الدّين؟ هذه هي المعطيات التي يجب أنْ تثير اهتمامنا، وفقًا لهذا فمعظم غير المتدينين هم لادينيون ما يعني أنّ الإلحاد ينتشر بشكلٍ واسعٍ ودائمٍ، أفضل ممّا لو كان الطّريق الوحيد إليه هو رفض كل الأفكار الدّينية.[/rtl]
[rtl]اللادينيون في تزايدٍ[/rtl]
[rtl]هل ستستمر تلك النّزعة؟ لا تبدو كذلك في ظاهرها. إنّ كان الإلحاد ينتشر حيث الأمان والرّخاء متوفران فإنّ تَغَيُر الظّروف المناخية وسوء الأحوال البيئية سيبطّئ بشكلٍ كبيرٍ عملية الانتشار. يقول نورينزاين: إنْ حصلت كارثةٌ طبيعيةٌ كبيرةٌ فأتوقّعُ ازدياد الإيمان الدّيني حتى في تلك المجتمعات العلمانية. يمكنك أخذ الهزّة الأرضية التي ضربت مدينة كرايستشرش في نيوزلندا بعين الاعتبار مثلًا.[/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]ليس من الواضح إنْ كانت عملية العلمنة الأوروبية ستتكرّر في أماكن أخرى. يقول ستيفن بوليفانت، وهو لاهوتي في جامعة القديسة ماري في المملكة المتحدة ومحررٌ في دليل اوكسفورد للإلحاد: إنّ المسار الذي تسلكه الدّول معروفٌ تاريخيًا وله بعضُ الاستثناءات، ويستطرد حديثه قائلًا: على الرّغم من ذلك، هنالك إجماعٌ حول إذا ما استمر الرّخاء الاقتصادي والأمان والدّيمقراطية بالازدهار فإنّ العلمانية ستكون آتيةً على الأرجح في نهاية المطاف.[/rtl]
[rtl]يقول مايكل نوجينت؛ وهو رئيس جمعية “مُلْحِدِي ايرلندا Atheist Ireland”: إنّ ايرلندا تحولت إلى اللّادينية بالتّزامن مع انفتاحها الاقتصادي. كما أنّها بشكلٍ مثيرٍ لا تظهر أيُّ علاماتٍ لعودةِ الإيمانِ الدّيني على عكس المرّات السّابقة التي أصيبت حينها بها بكوارثٍ اقتصاديةٍ، مُوحيًا أنّه إذا ما اللّادينية انتشرت فإنّه من الصّعب توقفها. التّجربة الأيرلندية توحي أنه حتى أقلّ الأماكن شَبَهًا بها قد تبدأ بتغيّر اعتباراتها الدّينية القديمة. يقول بوليفانت في هذا الأمر: ايرلندا كانت دومًا استثناءً أوروبيًا وإنْ حصل الأمر هناك فقد يحصل في أيِّ بلدٍ أخر، كبولندا أو حتى الفلبين”.[/rtl]
[rtl]وهنالك الحقيقة التي تقول إنّ الولايات المتحدة تبتعد عن الله شيئًا فشيئًا على ما يبدو؛ فأكثر المجموعات الدّينية نُموًا هناك في العشرينَ عامًا الأخيرة هم “غير المؤمنين”، وخاصة بين الشّباب. أحد التّفسيرات لهذا الأمر هو تفسير الأحداث التّاريخية كالحرب الباردة؛ فلعقودٍ عَدَّ الأمريكيون أنفسهم في مواجهة الشّيوعيين الملحدين، كما اُعتبر الإلحاد معادٍ للوطنية، أمَّا الجيل الذي نشأ بعد سقوط جدار برلين عام 1989 يعتبر الجيل الأكثر ابتعاداً عن الاعتبارات الدّينية.[/rtl]
[rtl]بشكلٍ مثيرٍ للاهتمام؛ نَحَتْ روسيا منحًى معاكسًا بعد الحرب الباردة، ففي العام 1991 عَدَّ 61% من الرّوس أنفسهم غير مؤمنين، وفي غضون عام 2008 انخفضت النّسبة لـ 18% فقط. لكن يبدو أنّ الرّوس عاودوا الانضمام مجددًا إلى النّزعة العلمانية؛ فبحسب الإحصائيات المتخصصة بالدّين والإلحاد فإنّ 55% ممن شارك بالاستفتاء عام 2012 اعتبروا أنفسهم مؤمنين بدينٍ معينٍ.[/rtl]
[rtl]يعتقد بوليفانت أنّ النّزعة اللّادينية ستستمر لسببٍ آخرَ، وهو الطّريقة التي ينتقل بها الدّين عبر الأجيال قائلًا: الاحتمال الأقوى حول إذا ما كان الشّخص سيصبح مؤمنًا هو كون والداه مؤمنين.” فالطّفل الذي والداه مؤمنين لديه فرصةُ حوالي 50 % أنْ يصبح مثلهما؛ أمّا طفلٌ والداه غير مؤمنين لديه فرصة 3 % أنّ يصبح مؤمنًا. يكمل بوليفانت: إمكانية بقاء الإنسان على ما هو عليه تكون أعلى بكثيرٍ عند غير المؤمنين، فمن الغريب جدًا أنْ ترى شخصًا يتبع دينًا ما بعدما نشأ لادِينيًا، لكنه أمرٌ عاديٌ جدًا أنْ ترى شخصًا نشأ بوسطٍ مؤمنٍ لينتهي بكونه لادِينياً، ففي المملكة المتحدة نجد أنْ واحدًا من بينِ كلِ عشرةِ أشخاص تركوا الكنيسة الكاثوليكية سيتبع كنيسةً أخرى.[/rtl]
[rtl]يشير بوليفانت أنَّ القناعة بشأن الأديان تَثْبُتُ في منتصف العشرينيات من العمر؛ لذا فثلاثون بالمئة أو أكثر من الشّباب في الولايات المتحدة الذين يعتبرون أنفسهم لا يحملون هٌويةً دينيةً ما، من غير المرجح أنّهم سيغيّرون معتقداتهم عندما يكبرون، وفي الأغلب فإنّهم سينقلون عدم إيمانهم لأولادهم.[/rtl]
[rtl]يقول بوليفانت: حقيقةً وجود مثل هذه المجموعة، التي تمتاز بكونها كبيرةً حقًا لم يسبق لها مثيلٌ في السّابق؛ هو مؤشرٌ قويٌ في الواقع على عملية العلمنة الجارية.[/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]إذاً، هل يستطيع العَالم التّخلي عن الإله ؟ ” أظن أنّ هذا ممكنٌ، لأنّنا نرى الأمر يحدث بالفعل” يقول نورينزاين. كيف سيبدو عالمٌ دون إلهٍ ؟ قد يَعْتَبر أحدهم أنّ الدّين هو الدّافع الأخلاقي الذي يحافظ على المجتمع وإنّك إنْ تخلصت من الدّين فإنّ كل شيءٍ سينهار. يقول زوكرمان: هذا الموقف مُتَبعٌ في الولايات المتحدة، وحتى بعض العلمانيين تجدهم مؤيدين له. لكن الواقع يقول غير ذلك وبالدّليل، ففي عام 2009 قام زوكيرمان بإطلاق تحليلٍ عالميٍ يقارن مستويات الإيمان الدّيني في عدة دولٍ مع مقاييس الصّحة المجتمعاتية فيما يتعلق بالغنى، والمساواة، وحقوق المرأة، والمستوى التّعليمي، والآمال الحياتية، ووفيات الأطفال، والحِمْل لدى المراهقين، ومعدلات الأمراض المنتقلة جنسيًا ومعدلات الجريمة، ويذكر: نجد تحسّن أداء البلد أو الولاية في هذه المعايير المجتمعية جميعها متناسبٌ طرديًا مع مدى علمانيتها. والأمر ذاته ينطبق على الولايات الخمسين المتحدة كلها.[/rtl]
[rtl]بالتّأكيد لا يعني أنّ العلمانية بالضّرورة تخلق مجتمعًا سليمًا؛ فلربما ارتفاع نِسَبِ الإلحاد هو نتيجةٌ أكثر مما هو سببٌ. يقول [/rtl]
[rtl]زوكيرمان: لكن النّتيجة تسمح لنا بكشف الزّيف في الإدعاء القائل: إنّ الدّين ضروريٌ لمجتمعٍ سليمٍ.[/rtl]
[rtl]ويذهب أبعد من ذلك مُحاجِجًا أنّ العلمانية يمكن أنْ تقود لتحسيناتٍ اجتماعيةٍ ويقول: أعتقد الآن أنّه هنالك بعضٌ من جوانب العالم العلماني لها دورٌ في سلامة المجتمعات وصِحتها. فأولًا، إنْ كنت تعرف أنّه لا عَالَم سِوى هذا وما من حياةٍ أخرى فإنّ هذا سوف يدفعك لجعله عَالمٌ بأفضل صورةٍ ممكنةٍ. ثانيًا، التّركيز على العلم والتّعليم والحل العقلاني للمشاكل الذي يرافق التّوجه اللّاديني، فعلى سبيلِ المثال هل سنصلي لتتوقّف الجرائم في مدينتنا، أم أنّنا سنبحث في جذور المشكلة وأسبابها؟[/rtl]
[rtl]من الصّعب نقاش الإلحاد في المجتمعات دون التّطرقِ إلى شبح الاتحاد السّوفييتي أو نظامُ الخَمِير الحُمْر في كمبوديا أو العديدِ من الأنظمة الأخرى التي قمعت أو حَرَّمَتْ الدّين، هل هناك مخاطرةٌ أنْ يكون مُعظم العَالم اللّاديني أشبه بستالين جراد بدلًا من ستوكهولم؟ بالنّسبة لزوكيرمان فهنالك سببٌ وجيهٌ لعدم التّفكير بهذه الطريقة، ” أُميز بين الإلحاد القسري الذي يُفْرض بالقوة من قبل نظامٍ دكتاتوريٍ، والإلحاد الطّوعيِ الذي يَبْزُغ في المجتمعاتِ الحُرة. وفي الحالة الثّانية نرى نتائج ايجابيةٍ متعلِقةٍ بسلامةِ المجتمع.”[/rtl]
[rtl]ربما هنالك أمرٌ يستحق القلق أكثر وهو الأمر المتعلق بما سيحدث لصحتنا الجسدية والعقلية. فالعشرون عامًا الماضية احتوت على كمٍّ كبيرٍ من الأبحاث التي تتطرق لفوائد الإيمان الدّيني، وأغلب الدّراسات حاولت إيجاد رابطٍ ما بين التّدين والصّحة والسّعادة. وهذا ما يظهر عادةً عند النّاس المتدينين ذوي أسلوب الحياة الأكثر صحةً الذين يملكون نشاطًا اجتماعيًا قويًا.[/rtl]
[rtl]لهذا يقوم بعض الباحثين بالقفز مباشرةً إلى الفكرة القائلة: إنْ كان الدّين يجلب الصّحة والسّعادة فلا بد أنْ الإلحاد ذو نتائج معاكسةٍ. لكن الرّابط بين الدّين والصّحة ليس قويًا كما تمّ الإدعاء. حيث إنّ تحليلًا تلويًا Meta-Analysis اِكتشف وجود ابتهالاتٍ دينيةٍ في منهاج البحث واستنتاجاتٍ خاطئةٍ أيضًا. بل إنّ البحث الذي تمّ إجراؤه على الصّحة الجسدية والنّفسية لدى الملحدين لم يرصد أيَّ فروقٍ بينهم والمتدينين، وبما يتعلق بالمستوى الاجتماعي فبالطبع زيادة نسبة الإلحاد متعلقٌ بسلامةٍ مجتمعيةٍ أفضلَ.[/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]لكنك إنْ كنت تظن أنَّ عَالمًا من الإلحاد سيكون جنّةً من العقلانية والمنطق فعليك أنْ تُفكر مجددًا، يقول نورينزاين: عندما يَفقِد النّاس إيمانهم بإلهٍ فذلك لا يعني أنّهم فقدوا إحساسهم الفطري القوي المتعلق بوجودِ قِوًى خارقةً، حتى في مجتمعاتٍ أغلبيتها من الملحدين فإنّك لَتَجِدْ الكثير من المعتقدات غير العادية كالإيمان بالأبراج والكارما والحياة خارج الأرض. قضايا لا تملك أيَّ دليلٍ علميٍ لكنها جليةٌ بديهيًا بالنّسبة للنّاس.[/rtl]
[rtl]ليس هذا أمراً سيّئاً بالضّرورة، إذ يكمل نورينزاين قائلًا: من المهم أنْ نُقدِر كون هنالك دوافعَ نفسيةً قويةً خلف الدّين؛ ولا يمكننا القول فقط إنّه خرافةٌ وعلينا التّخلص منه. بل علينا إيجاد حلولٍ بديلةٍ لمشاكل الحياة العميقة والقديمة التي يحاول الدّين حلّها. وإنْ تمكنت المجتمعات من تحقيق ذلك فأعتقد أنّ الإلحاد بديلٌ جديرٌ بالتّطبيق.[/rtl]
[rtl]تجمعات الملحدين كـ ” تجمع السّبت ” – المَذْكور آنفًا – يمكنها تقديم الفائدة لتحقيق حاجة غير المؤمنين المحبين لحسِّ المجتمع ووجهة نظرٍ أخلاقيةٍ عامةٍ. ويتشاركون أيضًا بالقِيم اللّادينية ليُوصلوا رسالةً أنّ المجتمعات اللّادينية يمكن أنْ تكون مجتمعاتً سليمةً. وإنْ تطّلب الأمر القبول بمستوًى معينٍ من اللّاعقلانية حركة العصر الجديد New-Age Movement فليكنْ الأمر كذلك، كل هذا يضاف ليكون رؤيةً لمستقبلٍ إلحاديٍ مختلفٍ عن العقلانية الجامدة التي تخيلاها ويبر ودورخيم وملحدون معاصرون كريتشارد دوكينز وآخرون.[/rtl]
[rtl]يحمل هذا المجتمع المستقبلي بعضاً من السّعادة والرّوحانية، ويكون مدفوعًا بعدم الاكتراث للأديان بدلًا من العدائيةِ تُجاهها، لكنّه سيكون مجتمعًا جيدًا على الرّغم من ذلك. في الواقع، سيكون مجتمعًا لا يختلف كثيرًا عن مجتمع بريطانيا الحديثة. وبينما أمشي عائدًا إلى سيارتي في صباح يوم أحدٍ مشمسٍ لا يمكنني التّوقف عن التّفكير كيف أنّه لن يكون يومًا سيئًا جدًا.[/rtl]