14 فبراير 2015 بقلم
هاشم صالح قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:
موضعة الإشكالية على الصعيد السيكولوجي
تاريخ البشرية مليء بالظلم والاضطهاد، ولكنه مليء بالحق والعدل أيضا. وبالتالي يمكن أن نتشاءم ويمكن أن نتفاءل في الوقت ذاته، كل واحد حر في اتخاذ الموقف الذي يريد طبقا لمزاجه ومعلوماته وتجربته الحياتية وتوجهاته. كان فرويد يقول ما معناه: ستظل روح المظلوم تستصرخ وتستنجد حتى يُنتصف لها ويعترف الظالم بما ارتكبت يداه في حقها. هذه العبارة مهمة جدا، لأن مؤسس التحليل النفسي يعرف كيف يموضع الإشكالية على الصعيد السيكولوجي العميق. ومعلوم أن العامل النفسي له دور كبير، بل وحاسم فيما يخص الإنصاف والمصالحة، وبه ينبغي أن نبتدئ؛ فالمظلوم المضطهد لا يطالب بتعويضات مادية بالدرجة الأولى، وإنما بتعويضات نفسية. أهم شيء في هذه المسألة هو اعتراف المعتدي بما فعل من عدوان وإجرام على المعتدى عليه. يكفي أن يعترف صراحة لكي تشعر الضحية بارتياح نفسي لا مثيل له، يكفي أن يعتذر المعتدي لكي تنحل المشكلة من تلقاء ذاتها. أما ما دام مصرا على غيه وضلاله وإجرامه، وما داميرفض الاعتراف بما اقترفت يداه من إثم، فإن روح المظلوم لا يمكن أن تهدأ أو تستريح، سوف تظل تئن وتتوجع وتستصرخ.
هناك أمثلة عديدة في التاريخ على ذلك، هل تعتقدون أن الأرمن يطالبون الأتراك بالاعتراف بالمجزرة التي ارتكبت في حقهم عام 1915 حبا في الإزعاج والمشاغبة المجانية؟ لا أبدا، إنهم يعرفون أن هذا الاعتراف لن يعيد لهم مئات الألوف أو ربما الملايين الذين قتلوا أو هجروا وذبحوا. إنهم يعرفون أنه لن يبعثهم من مرقدهم الأبدي، ويعرفون أيضا أن أردوغان والأتراك الحاليين ليسوا مسؤولين عن مجزرة كبرى حصلت قبل ولادتهم بعشرات السنين، ولكن روح الأحفاد سوف تشعر بالسكينة إذا ما حصل هذا الاعتراف يوما ما، والأرجح أنه سيحصل؛ فالمثقفون الأتراك المستنيرون ابتدأوا يستشعرون خطورة الحدث، وقد تجاوزت توقيعاتهم على الإنترنيت عشرات الألوف لأجل الاعتراف بالمجزرة الكبرى وتصالح تركيا مع ماضيها، مع ذاتها. سوف أعود إلى الوراء أكثر، هل تعتقدون أن البروتستانتيين الفرنسيين كانت ستهدأ ثائرتهم وتسكن أوجاعهم وجراحاتهم التاريخية، لولا أن الأغلبية الكاثوليكية اعترفت بما اقترفت يداها، واعتذرت كل الاعتذار عن مذبحة سانت بارتيليمي وبقية المجازر
[1]؟ أبدا لا، وبالتالي فالاعتراف بالجريمة هو أول خطوة نحو المصارحة والمصالحة، بدونه لا يمكن أن تحصل مصالحة تاريخية بين المعتدي والمعتدى عليه. بعد هذا الاعتراف يمكن أن يحصل الصفح والغفران، ولكن ليس قبل ذلك.
موضعة الإشكالية على المستوى الشخصي:
المصالحة وجراحات الطفولة
أحيانا تكون المشاكل التي حصلت في الطفولة الأولى مرعبة ومؤذية إلى أقصى حد ممكن. أحيانا يحصل عدوان جسدي أو سيكولوجي داخل العائلة الصغيرة بالذات، وعندئذ يصبح الغفران شيئا صعبا للغاية؛ فأنت تقبل أن يعتدي عليك شخص خارجي أو أجنبي، أما أن يكون المعتدي عليك والدك مثلا أو زوجته أو شخصا آخر قريبا، فإن المسألة تصبح معقدة جدا. وذلك لأن المعتدي هو منك وفيك كما يقال. أعجبتني هنا رسالة لسيدة فرنسية توجه فيها لوما مريرا إلى والدها الذي أساء معاملتها جدا إبان فترة الطفولة، وأساء معاملة أمها أيضا. تقول هذه الكلمات الرائعة: "لن أنسى أبدا ما فعلته من أذى تجاهي، هذا شيء مستحيل بالنسبة لي، ولكني سأغفر لك. أعتقد أن أمي ستكون سعيدة لو عاشت وعرفت ذلك، هذا الغفران الذي أمنحه لك، إذا كنت أفعله فمن أجلي، من أجل سلامي الداخلي مع ذاتي، من أجل حريتي الشخصية. لا تحاول إعادة العلاقة معنا، لا تتعب نفسك، فغفراني لك لا يعني المصالحة معك، وإنما المصالحة مع نفسي
[2]".
الكثيرون عاشوا جراحات الطفولة، والكثيرون لم يعيشوها، لأن الله وهبهم طفولة سعيدة، فليحمدوا الله على هذه النعمة. ولكن كيف يمكن أن تتجاوز جراحات الطفولة المغروسة في أعماقك؟ هناك عدة طرق: إما النسيان، وإما الغفران، وإما الاثنان معا. ولكن النسيان مستحيل قبل تصفية الحسابات مع الشخص الذي اعتدى على طفولتك ودمر وجودك، وقل الأمر ذاته عن الغفران. وهذا ما نفهمه من كلام الكاتبة الفرنسية، بالطبع لو أن والدها اعترف بجريمته تجاهها وتجاه أمها لأصبحت المصالحة سهلة جدا تقريبا، ولكن بما أنه ركب رأسه ورفض الاعتراف بجريمته، وغاب عن الأنظار، فإنها أصبحت مضطرة لمعالجة المسألة وحدها؛ فهي لكي تستطيع أن تستمر في الحياة بحاجة إلى تصفية الحسابات مع ماضيها، سوف يظل ماضيها يقلقها ويثقل عليها، ما لم تقم بهذه العملية العسيرة جدا على النفس.
موضعة الإشكالية على المستوى العام
ما أقوله عن العائلة الصغيرة ينطبق على العائلة الكبيرة: أي المجتمع ككل أو العلاقات بين الدول والشعوب. كيف يمكن للبروتستانتيين الفرنسيين أن يغفروا للكاثوليكيين الذين اضطهدوهم، بل وحاولوا استئصالهم في فترة من الفترات؟ كيف يمكن لليهود أن يغفروا للنازيين الذين حاولوا استئصالهم أيضا؟ كيف يمكن للفلسطينيين أن يغفروا لليهود الصهاينة الذين أخذوا أرضهم وحاولوا استئصالهم منها؟ لحسن الحظ فإن المؤرخين الجدد في إسرائيل وأصحاب الضمير الحي من اليهود ابتدأوا يعترفون بحقيقة ما حصل في فلسطين
[3]. وهكذا خرجوا على الرواية الرسمية الملفقة والمنكرة لحقيقة ما جرى. وهذا يفتح بارقة أمل للمستقبل. فالمصالحة الفلسطينية ــ الاسرائيلية، أو اليهودية ــ العربية لن تتم يوما ما قبل حصول هذا الاعتراف التاريخي الكبير. ولكن ينبغي علينا أن نعترف أيضا بالوضع الذليل المهان لليهود في البلدان العربية على مدار التاريخ ما عدا فترةالعصر الذهبي العباسية والأندلسية الزاهرة وفترة المغرب إبان عهد الملك العظيم محمد الخامس، حيث حماهم من التهجير والاستئصال إبان حكومة فيشي العميلة.
كيف يمكن للسود أن يغفروا للبيض في جنوب افريقيا؟ الخ.. تلزم شخصية تاريخية عظيمة، مثل نيلسون مانديلا، شخصية تستطيع أن ترتفع فوق جراحاتها.. ومعلوم أن ظهور الشخصيات الكبرى نادر في التاريخ. ولكن ينبغي أن نشيد أيضا بالتجربة المغربية في هذا الشأن، فما فعله الملك الطيب والحكيم محمد السادس عام 2004 بتأسيسه "لهيئة الإنصاف والمصالحة" شيء يستحق الإعجاب والتنويه. وياليت أن الدول العربية الأخرى تقلد المغرب أو تحذو حذوه وتستفيد من تجربته لكي تضمد جراحاتها وتستعيد وحدتها الوطنية. ولكن المشكلة هي أن ظروف المغرب لا تنطبق بالضرورة على بلدان المشرق التي تعاني من جراحات تاريخية وشروخ طائفية عميقة جدا. وهنا ينبغي أن نفرق بين الجرائم الصغرى والجرائم الكبرى في التاريخ؛ فالأولى يمكن معالجتها أو غفرانها نسبيا أو كليا خلال شريحة زمنية قصيرة نسبيا. وأما الثانية، فلا يمكن غفرانها في المدى المنظور، يلزم مرور وقت طويل لكي تلتئم الجراح ويصبح الغفران أمرا ممكنا، تلزم أحيانا عشرات السنين. الكارثة السورية الحاصلة حاليا هل تعتقدون أن تجاوز آثارها النفسية ممكن قبل خمسين سنة قادمة؟
مانديلا وثورات الربيع العربي
أعجبتني جدا الرسالة التي وجهها مانديلا لثوار الربيع العربي الذين أسقطوا الأنظمة في كل من تونس ومصر، وفيها يقول ما معناه: الكراهية لا تعالج بالكراهية، وإنما باستخدام لغة عقلانية واعية ذات مدى بعيد وحرص على المصلحة العامة ككل. ينبغي على الثوار الجدد أن يستخدموا لغة الصفح والتسامح مع رجالات النظام السابق بدلا من الحقد والانتقام، ينبغي أن يجلسوا معهم على طاولة واحدة لمناقشة الإشكال، ومنحهم فرصة لإصلاح أنفسهم والاعتراف بذنوبهم وتحسين سلوكهم.
وهذا ما فعله مانديلا في جنوب أفريقيا كما نعلم. ومعلوم أن جنوب افريقيا خرجت من دائرة العنف والصراعات الأهلية التي كانت تعاني منها في السابق لعقود بفضل سياسة التسامح والغفران التي انتهجها نيلسون مانديلا، ونال بذلك إعجاب العالم أجمع واحترام شعب جنوب افريقيا إلى الأبد.
في الواقع أنه عندما خرج مانديلا من السجن كانت أمامه احتماليتان: إما الانتقام من البيض الذين سجنوه وعذبوا شعبه الأسود الذي يشكل ثمانين في المائة من السكان، وإما انتهاج الخط المعاكس: أي خط النسيان والصفح وعفا الله عما مضى. والخط الثاني كان هو الأصعب، لأن جماهير السود كانت راغبة في الانتقام لكي تشفى الصدور؛ فقد عانوا من الاحتقار والاضطهاد على مدار السنوات ما عانوه، وكان حكم الابارتايد أو التمييز العنصري وحشيا ولا إنسانيا بشكل مطلق تقريبا، وبالتالي فغريزة الانتقام كانت قوية جدا، بل وحتى كانت مشروعة إلى حد كبير. كانوا يريدون الانتقام من رجالات النظام العنصري البغيض السابق ومن كل من كانت لهم علاقة معه. ولكن مانديلا بنظرته البعيدة المدى سار عكس التيار وأقنع شعبه الأسود بانتهاج الخط الآخر. لتحقيق ذلك، أسس "لجنة الحقيقة والمصالحة" عام 1995، حيث جلس المعتدي والمعتدى عليه على طاولة واحدة، وكانت تلك شبه معجزة، وهي على أية حال شيء لا يقدر عليه إلا زعيم تاريخي كنيلسون مانديلا. وعلى هذا النحو تصارحا وتسامحا واعترف المعتدي؛ أي الرجل الأبيض، بالجرائم التي اقترفها تجاه المعتدى عليه؛ أي الرجل الأسود. واكتشف الناس بعدئذ أن ذلك هو الخيار الأفضل، لأنه لولاه لا نجرفت جنوب افريقيا في حرب أهلية داخلية لا تبقي ولاتذر. ولكننا نلاحظ أن العكس من ذلك حصل بعد ثورات الربيع العربي؛ فالرغبة في الانتقام من رجالات النظام السابق كانت هي الأقوى. والإخوان المسلمون الذين حكموا تونس ومصر تباعا ابتدأوا بأخونة الدولة والمجتمع وعزل كل من يخالفهم الرأي.
وللأسف، فلم يوجد بينهم نيلسون مانديلا عربي أو إسلامي لكي يسلك سياسة الصفح والغفران ولم الشمل. وكان أن انقلب الشعب المصري على الأخونة والرئيس الإخواني وحصل ما حصل وتحرر من نير الحكم الأصولي. ولكن بما أن الأخونة في تونس كانت أقل وطأة، فإن الشعب لم يثر بعد على الغنوشي وجماعته، ولكن هذا الشيء غير مستبعد لاحقا.
لقد أعطانا نيلسون مانديلا درسا في الأخلاق السياسية أو السياسة الأخلاقية، عندما وجه رسالة إلى أحد رؤساء الربيع العربي من الإخوان قائلا هذا الكلام البليغ: "عندما وصلت إلى الحكم بعد ثلاثين سنة سجن تقريبا كان أول ما تذكرته هو قول نبيكم الكريم لأعدائه عندما انتصر عليهم نهائيا وفتح مكة ظافرا: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". فعملت بهذا المبدأ ونجحت وأنت كإسلامي أولى مني بالعمل به"
[4]!
كلام ولا أروع، وهكذا طبق مانديلا مبادئ الإسلام أكثر من المسلمين أنفسهم. لقد كان وفيا لرسالة النبي الأعظم، نبي الصفح والغفران ومكارم الأخلاق، على عكس أتباعه الذين ينتسبون إليه ويدعون الانتماء إليه، وهو منهم براء. إنهم يدعون الإسلام بمناسبة ودون مناسبة، بل ويحتكرون الإسلام ككل، ولكن فاتهم جوهر الإسلام وانحرفوا عن السلوك الأخلاقي والإنساني للنبي المصطفى. لقد رفض النبي الأكرم مقابلة الإساءة بالإساءة حتى بعد أن انتصر نهائيا وتمكن منهم، نسي كم عذبوه واضطهدوه وحاولوا قتله قبل أن يهاجر إلى المدينة، بل وحتى بعد الهجرة، حيث خاضوا ضده المعارك والحروب، ولكنه نسي كل ذلك وتعالى على جراحاته، لأنه كان أكبر منهم جميعا لأنه كان محمد الأمين، وخاتم النبيين ولأن الله سبحانه وتعالى ما أرسله إلا رحمة للعالمين. عندما نقارن بين السلوك المثالي الأسمى للنبي المؤسس، وسلوك أتباعه الحاليين الذين يدعون الانتساب إليه زورا وبهتانا نجد البون شاسعا. نعم، نجد أن هناك مشكلة حقيقية، فهو لم يمارس العنف إلا مكرها، وعندما أصبحت الدعوة التي هي أعز عليه من روحه في خطر ماحق، عندئذ رد على العنف بالعنف، أو على السيف بالسيف، حتى انتصر الإسلام وهزم أعداؤه الألداء والأشداء. أما قبل ذلك، فقد ظل سنوات وسنوات يدعو إلى الدين الجديد بشكل سلمي، بل ويتحمل السخرية والأذى والمضايقات من كل صنف ونوع. كل المرحلة المكية تشهد على ذلك، وبالتالي فجوهر الرسالة المحمدية ليس العنف، وإنما الرحمة والصفح والغفران. أما الأتباع الحاليون الذين يدعون الانتساب إليه وبخاصة جماعات الإخوان المسلمين، فقد خانوا جوهر رسالته وجوهر القرآن أيضا. لقد عكسوا معناهما تماما، فأصبح العنف والسيف هو الحل المطلق. وعندئذ تطابق في وعي العالم كله أن الإسلام يساوي العنف، أن الاسلام هو دين العنف، ولم نعد نستطيع الخروج من هذه المعادلة الجهنمية، لم نعد نستطيع إقناع العالم بأن جوهر الإسلام هو عكس ذلك تماما. وبالتالي، فالإخوان المسلمون مسؤولون عن أكبر تشويه لرسالة محمد وأكبر خيانة للقرآن الكريم، الذي يبتدئ دائما بهذه الآية الكريمة: "بسم الله الرحمن الرحيم". فكيف تحولت الرحمة إلى نقمة؟ كيف تحول السلم إلى عنف؟ هذا السؤال نطرحه على الإخوان المسلمين الذين اتخذوا كشعار لهم سيفين متصالبين، وبينهما كلمة "أعدوا" القرآنية. كل آيات التسامح نسوها أو نسخوها ولم يحتفظوا من القرآن إلا بآيات القتال التي كانت مرتبطة بظروف وقتها: أي بظروف قسرية أجبرت النبي إجبارا على الرد على العنف بالقوة. ولهذا السبب لا نبالغ إذا قلنا إن نيلسون مانديلا يعرف جوهر الإسلام أكثر من المتأسلمين المعاصرين.
والآن ماذا يمكن أن نقول عن المصالحة في المشرق بعد انتهاء الثورات؟
لا ريب في أن الحالة السورية هي الأخطر على الإطلاق، ولكن تماثلها من حيث الخطورة الحالة العراقية أيضا، بل واللبنانية. ثم تجيء بعدئذ الحالة البحرينية إلى حد ما، وكذلك الحالة الكويتية والسعودية أيضا، حيث توجد أقلية شيعية كبيرة في المنطقة الشرقية. وفي الكويت يمثل الشيعة ثلث السكان حسبما سمعت أو قرأت. والسبب في خطورة الوضع في المشرق قياسا إلى مصر وبلدان المغرب العربي هو أن الصراع المذهبي الكبير؛ أي الصراع السني – الشيعي يتمركز في هذه البلدان أساسا، وهي البلدان التي شهدت الفتنة الكبرى والصراع التاريخي بين الهاشميين والأمويين. كل الحروب الأهلية التي قسمت المسلمين الأوائل كموقعة الجمل وصفين وكربلاء الخ حصلت في تلك المنطقة. من هنا حدة العصبيات المذهبية بين سكانها وراديكاليتها، وهي راديكالية غير موجودة في مصر مثلا، أو في دول المغرب الكبير عموما، حيث يحتفل الإسلام السني بعاشوراء! وتشعر عندئذ بأن الإسلام السني ممزوج بالشيعي إلى حد ما ربما بتأثير من الفاطميين أو سواهم. يبدو لي أن الصراع العربي/ الأمازيغي في المغرب الأقصى أقل حدة وخطورة من الصراع السني/ الشيعي عندنا. على الرغم من أني غير مختص تماما في شؤون المغرب الجميل، إلا أني لم ألاحظ وجود أحياء للأمازيغ في الرباط وأحياء للعرب مثلا. وقل الأمر ذاته عن بقية مدن المغرب، الأحياء مختلطة بشكل طبيعي، هذا إذا أمكن التمييز بين عربي وأمازيغي.
أما في المشرق، فتجد الأحياء منفصلة عن بعضها البعض؛ فهذا حي العلويين، وهذا حي السنة في جبلة أو اللاذقية أو بانياس مثلا، وفي دمشق تجد حي المسيحيين منفصلا تقريبا عن سواه، وفي حلب تجد حيا للأرمن وحيا للسريان الخ.. وإذن الانقسامات في المشرق أخطر منها في المغرب، وربما كان السبب هو أن الانقسامات الدينية أخطر من الانقسامات العرقية أو اللغوية. نقول ذلك، وبخاصة أن الأمازيغ والعرب في المغرب يشتركون عموما باللهجة الدارجة المفهومة من قبل الجميع، يضاف إلى ذلك أنهم جميعا مسلمون سنة مالكيون، وهذا عامل مهم جدا من عوامل وحدة المغرب. يضاف إلى ذلك أيضا أن السحنة واحدة أو متشابهة جدا، وأن عرب المغرب هم أصلا أمازيغ مستعربون في أغلبيتهم، وبالتالي فحدة الصراع أضعف بكثير مما هو عليه الحال في المشرق بين السني والشيعي، أو بين المسلم والمسيحي، أو حتى بين العربي والكردي.. وأخيرا يضاف إلى كل ذلك أن الدستور الجديد اعترف لأول مرة بالأمازيغ كمكون أساسي من مكونات الشعب المغربي والأمة المغربية. من هذه الناحية نلاحظ، أن سياسة المغرب تجاه المسألة الأمازيغية أفضل بكثير من سياسة الجزائر، حيث يشعر البربر الأمازيغ بالتهميش وإنكار الحقوق. والدليل على ذلك أنه توجد قنوات تلفزيونية وإذاعات أمازيغية في المغرب، ولا يبدو أنها موجودة في الجزائر. يضاف إلى كل ذلك أن النظام الملكي في المغرب يتمتع بشرعية تاريخية ضخمة، وهي شرعية تحظى بإجماع المغاربة عموما، ولا خلاف حولها رغم الانتقادات الحادة للامتيازات. إنها القاسم المشترك الأعظم بينهم، كما أنها الرمز الأعلى الذي يتحلقون حوله. أتذكر أن محمد أركون كان يردد أمامي هذه العبارة: "ياليت أنه كان عندنا في الجزائر نظام ملكي"! فالملكية هي الرمز الأعلى الذي يلتف الجميع حوله، إنها الضامن للوحدة الوطنية. هذا لا يعني بالطبع، أنه لا توجد مشاكل في المغرب، ولكن يمكن حلها عن طريق الإصلاحات المتدرجة. أما في البلدان الأخرى، فلا حل إلا بالثورات والانفجارات.
كيسنجر وتقسيم سورية
هل يعني ذلك أن المصالحة مستحيلة في سوريا؟ هل يعني أن الانتقام سيكون اللغة الوحيدة الممكنة بعد كل الشهداء الذين سقطوا وبعد كل هذا الخراب والدمار الذي أصاب المدن بفعل القصف الجوي أساسا؟ ربما، على أية حال هذا ما يتخوف منه الجميع. فبعد كل ما حصل من فظائع ومجازر وتشتيت للناس بالملايين من سيتصالح مع من؟ ولهذا السبب، فإن قادة الغرب الكبار أصبحوا يقولون همسا أو تصريحا بأن الحل الوحيد لسوريا (وأيضا العراق) هو التقسيم، ومن بين هؤلاء القادة هنري كيسنغر، وقد قيل الكثير مؤخرا عن مشروعه لتقسيم سوريا. فما هي حقيقة الأمر يا ترى؟
في مداخلته الأخيرة أمام معهد فورد
[5] للدراسات، تحدث كيسنغر عن الوضع السوري مطولا. وقد عبر عن رغبته في تقسيم سوريا وبلقنتها لكي تظهر عدة دول محل الدولة السورية الحالية التي يترأسها بشار الأسد.
يقول كيسنغر: هناك ثلاثة احتمالات ممكنة: إما انتصار الأسد، وإما انتصار السنة، وإما لاهذاولاذاك وانبثاق سوريا جديدة من جحيم الصراع، وهذا الحل الثالث هو الذي يفضله هنري كيسنغر. إنه يحلم بظهور صيغة جديدة لسوريا؛ أي صيغة لا مركزية تحكم فيها كل فئة مناطقها وتتعايش مع الفئات الأخرى دون حروب ولا مجازر. لا أحد يتحكم بأحد وكل واحد يحكم نفسه. وهكذا تقسم سوريا إلى مناطق مستقلة ذاتيا قليلا أو كثيرا، وهي الصيغة الوحيدة التي تتيح للجميع أن يعيشوا بسلام بدون أن يفتئت أحد على أحد، وبدون أن تقمع أية فئة بقية الفئات كما كان يحصل سابقا، ولا يزال يحصل حتى الآن.
ويرى كيسنغر أن سوريا ليست دولة تاريخية بالمعنى الحرفي للكلمة؛ أي ليست دولة قديمة من حيث التأسيس، ولا متجانسة من حيث التركيب. فقد تأسست عام 1920؛ أي قبل أقل من مائة سنة، وهذا ليس عمرا كبيرا في مقياس الدول. وقد شكلوها على هذا النحو المصطنع لكي يسهل على دولة الانتداب الفرنسي حكمها أوالتحكم فيها. والشيء نفسه ينطبق على العراق؛ فقد تلقى صيغة غريبة الشكل بغية تسهيل حكمه على الإنكليز. وفي كل الأحوال، فقد شكلت كلتا الدولتين بهذه الصيغة الاصطناعية لكي يستحيل على أي منهما الهيمنة على المنطقة.
وضمن منظور الفلسفة السياسية العامة لهنري كيسنغر، فإن على الولايات المتحدة أن تعيد صياغة العالم، أو صياغة النظام العالمي الجديد. وهذا يتطلب منها أولا تفكيك دول اصطناعية كثيرة غربية أو شرقية، وليس فقط عربية أو شرق أوسطية. وبعدئذ يمكن تشكيل دول جديدة محلها. وهذه الدول الأصغر من حيث الحجم ستكون أكثر رسوخا واستقرارا، لأنها ستكون متجانسة دينيا أو عرقيا. فلا تعود هناك حاجة لفتن داخلية كقمع الأكراد مثلا من قبل الدولة المركزية في بغداد، أو قمع السنة، أو الشيعة،الخ...كلهذه المشاكل ستنتهي من تلقاء ذاتها بعد أن نقسم العراق إلى ثلاث دول:عربية سنية، وعربية شيعية، وكردية سنية، وقل الأمر ذاته عن سوريا. ففي رأي كيسنغر، فإن الصراع الجاري هناك هو بين طوائف بالدرجة الأولى، وبالتالي فلنفصل هذه الطوائف عن بعضها البعض، ولنعط الحكم في كل منطقة لأهلها الحقيقيين. وعندئذ تنتهي المشاكل من تلقاء ذاتها. ثم يضيف كيسنغر: ربما كانت أحداث الثورة في البداية عبارة عن انتفاضة شعب من أجل الحرية، ربما كان هناك بعض الديمقراطيين، ولكنها تحولت فيما بعد إلى حرب طائفية مؤكدة. وبالتالي، فلا حل لها إلا بفصل الناس عن بعضهم البعض، ومنع أي شخص من أن يتدخل في شؤون منطقة أخرى غير منطقته.
هذه هي الفلسفة العامة التي ينطلق منها هنري كيسنغر. ويبدو أن كبار ساسة الغرب يتبنون موقفه، ولكنهم لا يتجرأون على قوله صراحة، وإنما تلميحا فقط. من الواضح أن هذا الموقف يتماشى مع المبدأ الاستعماري القديم: فرق تسد. كما يؤمن لإسرائيل العزيزة على قلب كيسنغر تفوقا على كل دول المنطقة. ولكن المشكلة هي أن كلامه ليس خاطئا كليا، وإنما يحتوي على نواة من الصحة. فلا أحد ينكر،اللهم إلا إذا كان ديماغوجيا غوغائيا،أن هناك مشكلة طائفية في المشرق العربي، لا أحد ينكر أن هناك مشكلة شيعية ــ سنية في العراق،أو في البحرين والكويت، بل وحتى السعودية واليمن.لا أحد ينكر أن هناك مشكلة علوية ــ سنية في سوريا، وهناك أيضا مشكلة قبطية ــ إسلامية في مصر،الخ..
كيف يمكن حل هذا الاستعصاء التاريخي المزمن؟
هناك حلان: الأول مباشر وسريع لتهدئة الوضع أو إيقاف المجازر، والثاني طويل المدى. فيما يخص الحل الأول، ينبغي على القوى غير الطائفية أن توحد قواها لمواجهة القوى الطائفية داخل كل الفئات إذا ما أردنا تحاشي التقسيم، وإذا لم نستطع تحاشيه بسبب تدخل عوامل خارجية قاهرة، فعلى الأقل لنحاول تحجيم الخسائر عن طريق إنشاء دولة فيدرالية لا مركزية لكي تحل محل سوريا الحالية. في كل الأحوال، سوف يسقط نظام الاستبداد البوليسي المغلق الذي هيمن طيلة عقود، هذا أمر مفروغ منه. الشعب السوري قال كلمته ودفع ثمن حريته ولا يزال يدفعه يوميا، وهو ثمن باهظ بكل المقاييس، وقد فاق كل التوقعات، ولكن سوريا التي نعرفها لن تعود كما كانت بعد كل ما حصل. سوف تنبعث من تحت الأنقاض كطائر الفينيق، ولكن بصيغة أخرى. سوف تموت سوريا لكي تعيش سوريا، وعندئذ تعطى المناطق النائية أو البعيدة عن العاصمة "دمشق" الكثير من الصلاحيات لكي تحكم نفسها بنفسها، ولا تنتظر الأوامر الصادرة من المركز؛"فأهل مكة أدرى بشعابها" كما يقول المثل. الشؤون الخارجية والدفاع والقضايا الكبرى تبقى من اختصاص الحكومة الفيدرالية في دمشق، وأما ما تبقى فمن اختصاص الحكومات المحلية. لماذا نستغرب هذا الحل؟ لماذا نستنكره؟ معظم دول العالم أصبحت تنحو باتجاه اللامركزية بما فيها فرنسا الأكثر مركزية ويعقوبية بين الدول. وهناك دول عديدة فيدرالية أو اتحادية، وهي من أرقى الدول في العالم. فلماذا لا تكون "سوريا الجديدة" إحداها؟ نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر، سويسرا والولايات المتحدة وكندا وألمانيا الخ. هذا الحل الفيدرالي اللامركزي يجنبنا التقسيم على أساس طائفي أو عرقي.
أما إذا لم نستطع تحاشي التقسيم بسبب تغلب القوى الطائفية في كل الجهات على القوى الوطنية ثم بسبب تآمر الخارج، فعندئذ ستنشأ دولة الأكراد في الحسكة والشرق السوري أوالشمال الشرقي، ودولة العلويين في الساحل السوري، ودولة الدروز في السويداء وجبل العرب، ودولة سنية كبرى تشمل بقية المناطق أو المحافظات. ولكن هذا التقسيم لن يصمد إلى الأبد، فعاجلا أو آجلا سوف تعود كل هذه الأقاليم إلى التوحد مع بعضها البعض بعد أن تهدأ النفوس وتستنير العقول، وهنا نصل إلى مشارف الحل الثاني المرغوب فعلا، ونقصد به انتصار التنوير السوري على القوى الطائفية السورية. ولكن هذه احتمالية بعيدة المدى نسبيا وقد لا تتحقق قبل ثلاثين أو أربعين سنة قادمة. وهذا الحل لا يخص سوريا فقط، وإنما العالم العربي كله. ولو نجح، فلن تتوحد سوريا مع ذاتها فقط، وإنما مع كل دول الجوار العربية من لبنان إلى الأردن إلى العراق إلى فلسطين.. كل بلاد الشام يمكن أن تصبح دولة فيدرالية كبيرة، لماذا أقول ذلك؟ لأن التنوير الفكري والسياسي سوف يحجم العصبيات العشائرية والطائفية والعنصرية إلى أقصى حد ممكن. ولن يعود الناس خائفين من بعضهم بعضا كما هو عليه الحال الآن.سوف يتشكل عندئذ عقد اجتماعي جديد يضمن لكل السوريين والعرب التساوي في المواطنة وكافة الحقوق والواجبات على حد سواء.