هوليبك وشبح الخلافة
في روايته المثيرة للجدل «الاستسلام»
مها محفوض محمد
لم يكن صدور روايته «الاستسلام» أو «الخضوع» في يوم وقوع الجريمة في صحيفة شارلي ايبدو الفرنسية مصادفة بل جاء ذلك ضمن موجة عدائية منظمة ضد المسلمين في فرنسا أثارت غضباً كبيراً في أوساط المسلمين الفرنسيين.
إنه الكاتب ميشيل هوليبك الذي يعد من أشهر الكتاب الفرنسيين المعاصرين المعروف بمواقفه المعادية للإسلام وبعد عدة روايات له مثيرة للجدل أيضاً جاءت روايته الأخيرة «الاستسلام» لتثير سجالاً كبيراً في الأوساط الثقافية بل السياسية أيضاً لأنها تأتي ضمن إطار الخيال السياسي، حيث يتخيل فيها وصول رئيس مسلم يحكم فرنسا في العام 2022.
وحول هذا الموضوع أفردت صحيفة لوموند الفرنسية ملفاً خاصاً جاء فيه:
كان جان بول سارتر يسخر من نقاد الأدب الذين يصمّون آذانهم عما يقوله الأدباء في كتبهم ويتصرفون كما لو كان كل كاتب يخترع «طريقة جديدة للكلام وكأنه لا يقول شيئاً» والطريقة التي استقبل فيها النقد مؤخراً باكورة أعمال العام 2015 رواية ميشيل هوليبك «الاستسلام» التي صدرت في 8 كانون الثاني كرست من جديد مقولة سارتر حول هذا العمى الإرادي الذي ما زال قائماً لدى النقاد وفي طليعتهم المختصون بأدب هوليبك حيث عمدوا لبرهان أن معشوقهم هوليبك يكتب لكي لا يقول شيئاً.
غير أن هوليبك في الواقع يقول شيئاً مهماً عندما اختار أن يتحدث عن الإسلام وأن يصنف فرنسا كبلد حكم عليه أن يصبح تحت سيطرة النفوذ الإسلامي وهذا يعني أنه يقول الكثير وبعكس ما ظن البعض فقد جاء خطابه بعيداً عن المديح لهذه العقيدة ولا يندرج في إطار التقليد القديم الذي يرى في هذه الديانة الخلاص الوحيد للغرب الغارق في تفرده والفاقد للأمل. والدليل على ذلك في الرواية عندما تعتنق شخصياتها الإسلام فذلك يحدث بدوافع تكمن وراءها المكاسب المختلفة من مناصب وأموال وامتلاك العقارات وإمكانية العيش مع ثلاث أو أربع نساء مخلصات جسداً وروحاً.
هذه هي المغريات التي يقدمها هوليبك في روايته الجديدة لكل من أراد أن يخضع أو يستسلم وفي ذلك يقدم رؤية جديدة أكثر حداثة في مناوأة الإسلام وأي شخص على احتكاك بهذه الأوساط يتعرف بسهولة لدى قراءته الرواية على مفردات وحجج ذات طابع يندرج في الأدب السياسي الواسع الانتشار، فبطلة الرواية تدعى «بات يأور» هي كاتبة بريطانية ولدت في القاهرة تؤلف كتاباً حول أقلية دينية إسلامية عاشت في القرون الوسطى يسميها (دهيميس) ثم تجد الكاتبة أن ما تقوله ينتشر في الغرب بوساطة دوائر المحافظين الجدد لأنها تشبه شعوب القارة العجوز بـ دهيميس وتطلق على القارة اسماً جديداً «أورابيا» بعد أن تخلت عن جذورها المسيحية وتخلت عن سكانها اليهود لكي ترضي أسيادها الجدد.
هذه هي الصورة الأورابية التي ينتهجها هوليبك بطريقة مرعبة وإطار روائي نجد فيه صدى الفكر القومي المتعصب ووساوسه أيضاً مع تطوير معلن لفكر الانحطاط وسياسة الأوهام ويعطي لفرنسا الدور الريادي في إعطاء النموذج الأمثل لباقي الأمم التي نسيت تاريخها وتخلت عن هويتها.
إن تخلي فرنسا عن دورها لدى هوليبك كما لدى «بات يأور» هو امتداد طبيعي لما عرف بالسياسة العربية التي خطها ديغول لفرنسا والقائمة على التعاون والتعامل ما جعل باريس برأي هوليبك تحت الاحتلال الإسلامي يغذيها المال النفطي لتصبح العاصمة الجديدة للإمبراطورية التي تجمع ضفتي المتوسط وتصبح جامعاتها وفي مقدمتها السوريون شعلة للجهاديين وتعليم الجهاد كما تصفها «بات يأور» في الرواية وبالطبع سيصبح هذا التحول ديمقراطياً سلمياً وسيحدث ذلك كله في الاستحقاق الرئاسي عام 2022 ويتخيل هوليبك أن الكتلتين وسط اليسار ووسط اليمين المسيطرتين على فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ستفقدان مصداقيتهما لدى الشعب الفرنسي وتظهر قوة لا نعرف كيف تحت اسم حزب «الإخوة المسلمة» وينتهي الصراع بين مارين لوبين زعيمة اليمين المتطرف ومحمد بن عباس الإسلامي المعتدل صاحب الشخصية المحببة له مظهر الحانوتي التونسي الجذاب يحاول أثناء حملته الانتخابية ألا يكون معادياً للسامية وألا يظهر تأييده للقضية الفلسطينية وتقف القوى الأخرى معه كي لا تسمح لليمين المتطرف بالصعود إلى السلطة فيفوز بن عباس في الانتخابات ويتبنى خطاباً إسلامياً معتدلاً ويسير كل شيء على ما يرام فلا نعود نشاهد في الطريق نساء ترتدي التنورة بل يندر ظهورها في الشارع وتخرج النساء من سوق العمل ما يعطي الفرص للرجال وتنتهي البطالة ويحل محل الضمان الاجتماعي التضامن العائلي وتتوقف الدولة عن مساعدة المصانع وتدعم أصحاب الحرف الصغيرة وتصبح الشريعة هي القانون السائد ما يساعد على عودة المجتمع الكهني ويتحول محور البناء الأوروبي باتجاه الجنوب فالرئيس محمد بن عباس سيكون أول رئيس لأوروبا الموسعة التي ستضم حوض البحر الأبيض المتوسط وسيكون لها ثقلها في العالم وينتهي زمن العلمانية ليحل محلها الإسلام لتعطى البلاد فرصة ذهبية.
وتتابع لوموندا لقول: وهكذا نرى لدى قراءة الرواية أننا أمام هجائية ساخرة لسياسة وهمية قصيرة الأمد ولبصيرة محدودة جداً حيث تتوالى في الرواية بعض المشاهد والمواقف الهزلية المضحكة إذ يعود الحنين إلى حياة الانفلات الاجتماعي وفي نهايتها يقرر الراوي نفسه اعتناق الإسلام وهو الأستاذ الجامعي المتخصص في اعلام الرواية الكاثوليكية وقراره هذا يأتي لأهداف انتهازية أولها عودته إلى التدريس في جامعة السوربون التي أصبحت جامعة قرآنية.
وفي النهاية يستنتج أن الخضوع يقود إلى قمة السعادة الإنسانية وفي الإسلام تكمن في التسليم إلى الله والإسلام هو التسليم أي الخضوع وهنا يشير هوليبك إلى الفارق مع البوذية التي ترى العالم نسيجاً من الآلام والأوهام ومع المسيحية التي ترى العالم بحراً من الدموع أما الإسلام فهو يقبله كما هو فهو خلق الله.
ويتساءل النقاد ماذا يريد هوليبك من كل ذلك فهو يذكرنا بالعالم القديم بين القرنين الأول والرابع الميلادي حيث ساد شعور بأن العالم مهدد بديانة مشرقية متعصبة تحمل قيماً مناقضة لقيم العالم القديم وكان المثقفون يخشون أن تحل هذه الديانة مكان الديانات القائمة وحدث أن جاءت الديانة المسيحية من الشرق وأنهت كل المعتقدات القديمة ويرى بعض النقاد أن ذلك ممكن مع قيام إسلام متنور يؤمن بحرية الفكر وهنا يظهر التناقض مع هوليبك الذي يرى في الإسلام المتنور تناقضاً مع الفكر الإنساني.
على أي حال ما قيل قد قيل وعلينا فهمه واستنتاج المهم ومعرفة نتائجه خاصة هذه الأيام حيث تعلو الأصوات المعادية للإسلام ليعم صداها القارة الأوروبية بكاملها ومن كتب ذلك ليس شخصاً عادياً بل هو كاتب معروف ينشر كتبه لدى أهم الدور الباريسية وقد رفعه النقد الفرنسي إلى أعلى المراتب خلال السنوات الماضية كما حاز جائزة الأدب من مؤسسة لوموند أي إن هوليبك ليس كاتباً عابراً فهو لا يكتب كي لا يقول شيئاً بل يقوله علناً وبالتفصيل بحيث يدفع الناس في فرنسا على الخيار بين معسكرين معسكر له دوافعه المعادية للإسلام ومعسكر يضم الإسلاميين القتلة.