المنهج الأنثروبولوجي والدراسات الميدانيةمبروك بوطقوقة مقــدّمـة قد يكون من المفيد أن نبدأ بالسؤال التالي : هل يعدّ علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) علماً؟ والإجابة عن هذا السؤال تبدو إيجابية في ظاهرها، وسلبية في ضمنيتها. فثمّة ممثّلون للعلوم (الحقيقية) يرون أنّ هناك ثغرة (عائقاً) تحول دون عضوية علم الإنسان في زمرة العلوم، وتتمثّل في تخلّفه عن ذلك العالم المهيب المسمّى بـ(العلوم الإنسانية ).
إنّ الواجب الذي يقع على عاتق العلوم جميعها، يتمثّل في دراسة الثوابت والمتغيّرات التي تبثّ الحياة في مجالاتها ؛ فعلم الأحياء، يدرس أشكال الحياة ومكوّناتها في العالم. وعلم الاجتماع، يركّز على دراسة اللامتغيرات، وثمّة تنافس في هذا المجال بينه وبين علم الأعراق.
وعندما نبدأ بالفكرة القائلة بأنّ علم الإنسان، لـه مهمّة محدّدة عليه إنجازها، وأنّ هذه المهمّة حيوية، وأنّها قابلة للتبرير عملياً، وأنّه ليس في مستطاع أي مجال من العلوم الأخرى الاضطلاع بها، حتى وإن كان ذلك مؤقّتاً. وأنّ هذا القطاع أو ذاك من علم الأحياء، يعلن اكتشافه لطريقة تمكّنه من فعل كذا وكذا – يوماً ما – فإنّ ذلك يغيّر بشكل جذري الأسلوب الذي نرى به المشكلة .
ومن هذا المنطلق يتمّ تمييز النزعة العلمية لعلم الإنسان، فيما يتّصل بالعلاقة بين الغاية التي يضعها علم الإنسان ذاته، وبين الوسائل التي يكتسبها في طريقه لأداء مهامه. ولكي نقترب من جوهر المشكلة، لا بدّ من مقارنة النزعة العلمية المفترضة عند (علم الإنسان) بحقيقة علمية معلومة، وذلك بغية تحديد أوجه التوافق والاختلاف، أو بالأحرى أوجه النقص التي تمنع علم الإنسان من أن يتوافق مع نموذج (علمي ). وهذا ما سنحاول مناقشته في هذا المقال .
أولاً- الأنثروبولوجيا بين النظرية والتطبيق إذا كان علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) ليس علماً، ولا يشبه أبداً أي علم من العلوم الطبيعية (التطبيقية )، فإنّ النقاش في طبيعة هذا العلم سرعان ما ينتهي لأنّه لن يكون مجدياّ، وبالتالي لا يحقّ للأنثربولوجيا أن تدّعي بالمنهجية العلمية.
لكنّ الميدان هو مخبر عالم الأنثربولوجيا الثقافية – كما يقول / هرسكوفيتز /، حيث يذهب الأنثربولوجي لكي يقوم بعمله إلى موطن الشعب الذي اختاره موضوعاً للدراسة، فيستمع إلى أحاديثهم ويزور بيوتهم، ويحضر طقوسهم ويلاحظ سلوكهم العادي .. ويسألهم عن تقاليدهم، ويتآلف مع طريقة حياتهم حتى تصبح لديه فكرة شاملة عن ثقافتهم، أو يحلّل جانباً خاصاً من جوانبها. فعالم الأنثروبولوجيا، في عمله هذا، أثنوغرافي وجامع للمعلومات، يحلّلها ويربطها بمعلومات أخرى، عندما يرجع من الميدان .( هرسكوفيتز ،1974، ص 85) وفي ذلك جانب علمي تطبيقي.
فالأنثروبولوجيا في جانبها الميداني / التطبيقي إذن، تشكّل فرعاً من فروع الأثنولوجيا، حيث يدرس التطبيق العملي للمعلومات والأساليب الفنيّة الأنثروبولوجيا، على الشعوب التي تعيش حياة بدائية بسيطة، والتي يحتكّ بها الإنسان المتحضّر، سواء عن طريق الدراسة، أو عن طريق الاستعمار أو الاحتلال الخارجي . (كلوكهون، 1964، ص 360)
ولذلك، يلاحظ أنّ الدراسات الأنثروبولوجية الميدانية، نشطت بشكل واسع وازدهرت، في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث لجأت الدول المستعمِرة، ولا سيّما (أمريكا وبريطانيا وفرنسا) إلى تشجيع هذه الدراسات على الشعوب التي تستعمرها، بغية التوصّل إلى معارف دقيقة عن الأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة عند هذه الشعوب، والتي تنعكس في أحوالها الشخصيّة والمعيشية، بما في ذلك من طقوس دينية وعادات وتقاليد، وأساليب تعاملية بين أفراد المجتمع .
وهذا كلّه يسهّل على الدول المستعمِرة إدارة الحكم في مجتمعات الشعوب المستعمَرة، واستغلال مواردها الاقتصادية ونهب خيراتها، بذريعة تنميتها وتطويرها.
وهكذا، برزت الأنثروبولوجيا الميدانية / التطبيقية، علماً يساعد في تحقيق أمرين أساسيين، في المجتمعات المدروسة :
1- حلّ المشكلات الناتجة عن الإدارة والحكم المحلّي، في المجتمعات البدائية والمحلية .
2- معالجة مشكلات التغيير الحضاري السريع في هذه المجتمعات، والمساعدة في التكيّف المناسب. (ناصر، 1985، ص 82 )
ولكي يحقّق عالم الأنثروبولوجيا النجاح لأهدافه وبحوثه ودراساته، فقد جرى التقليد أن يقوم بأبحاثه الميدانية لدى الشعوب (البدائية) التي تعيش خارج التيار التاريخي للثقافة الأورو- أمريكية، أو الثقافات الأخرى المتحضّرة التي تعرف الكتابة، وذلك بغية المقارنة وإيجاد أوجه التشابه والاختلاف في السياقات التاريخية التطوّرية للثقافات الإنسانية المختلفة.
ثانياً- الباحث الأنثربولوجي والميدان يدرس عالم الأنثربولوجيا، الشعوب التي يعمل في ربوعها، لأنّه يستطيع أن يحصل منها على المعلومات التي تلقي الضوء على المشكلات الرئيسة، في طبيعة الثقافة وعملها، وفي سلوك الإنسان الاجتماعي. وبهذا النوع من التقاط المعلومات، نتمكن من دراسة بعض المشكلات العامة، مثل : أثر المناخ أو العرق أو الاستعدادات السيكولوجية الفطرية، أو غيرها من العوامل المؤثرّة في ثقافة الإنسان، وتنوعّ أشكالها وسياق تاريخها. (هرسكوفيتز، 1974، ص86)
وهذا يعني، ألاّ يغفل الباحث الأنثروبولوجي أحداث التاريخ التي تعتبر بالنسبة لـه مصدراً مهمّاً للتجارب التي يمكنه الإفادة منها في محاولته الكشف عن الحتمي اللاشعوري للظواهر. ونظراً لعدم إمكان التنبؤ في التاريخ، فإنّه يصبح من الضروري الاحتفاظ بسجلّ دقيق ومضبوط للأحداث التاريخية، وإلى حدّ بعيد. وإذا كان /ستروس / يشير في كتابه ” الأنثروبولوجيا البنائية ” إلى عبارة / ماركس / الشهيرة : ” إن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكنّهم لا يدركون هذه الحقيقة “، فإنّ هذه العبارة التي تبرز التاريخ، تبرز أيضاً الأنثروبولوجيا. (أبو زيد، 2001، ص 84 )
وقد أدّت الحاجة إلى تقصّي المعلومات في السنوات الأخيرة –أينما وجدت، إلى زيادة استخدام مناهج علم الأنثروبولوجيا الميدانية، في دراسة الشعوب، ليس البدائية فحسب، بل والشعوب المتعلّمة أيضا ً، وفي أماكن متعدّدة من العالم .
ولذلك، ينتهج الباحث الأنثروبولوجي منهجاً محدّداً في بحثه، ويستخدم مجموعة من الوسائل والأدوات للحصول على بياناته .. ويتبع مجموعة من الخطوات قبل القيام بالبحث وفي أثنائه، كما يواجه بعض الصعوبات والمشكلات، عليه أن يتعامل معها ببدائل مناسبة. فقدكان اهتمام الباحث الأنثروبولوجي الأوّل، منصبّاً على ملاحظة القوانين الرئيسة العامة التي تحكم المجتمعات الإنسانية، أو الكشف عنها، وواجهته مجموعة من الصعوبات، لكنّه لم ييأس من إنجاز بحثه كاملاً، ولا سيّما أنّ نموذج الثقافة الإنسانية ليس بسيطاً وليس سهلاً. (جابر، 1991، ص 17 )
إنّ من الميزات الأساسية للمنهج العلمي / الميداني، ذلك الارتباط الوثيق بين النموذج النظري والنموذج المنهجي، والمنطوي بالتالي على استخدام التقنيات الكميّة في الدراسات الأنثروبولوجية، والذي يشبه – إلى حدّ بعيد- ذلك الارتباط بين النظرية والمنهج في العلوم الجديدة، التي ما زالت موضع نقاشات حادة .
ولكنّ الأسس الهامة في الدراسات الأنثروبولوجية بميادينها المختلفة، تتمثّل في إقامة الباحث في مكان دراسته، يعايش الجماعة كما هي في الواقع، ويحصل على كلّ ما يريده من علاقات وقيم وعادات وأنماط حياة، تحدّد طبيعة هذا المجتمع وهويته الثقافية. ولذلك، فإنّ ثمّة مبادىء أساسية – كما يرى مالينوفسكي- لا بدّ أن يستند إليها الأنثروبولوجي في بحثه الميداني، وهي :
1- أن يكون الباحث الميداني ملمّاً إلماماً تامّاً بالمعلومات الأنثروبولوجية، وأن يكون لديه هدف علمي واضح لموضوع بحثه .
2- أن يعيش الباحث (الأنثروبولوجي) الميداني، في المجتمع الذي يدرسه، ويقطع اتصاله بالعالم الخارجي بصورة تامّة، ويحصر اهتمامه بالجماعة التي يدرسها .
3- أن يطبّق عدداً من الأساليب، في جمع المعلومات وتبويبها وتفسيرها.. أي أنّ عليه أن يستخدم طرائق عدّة مختلفة من طرائق البحث الميداني، لأنّ بعض الطرائق التي يمكن أن تصلح لدراسة ظاهرة أنثروبولوجية محدّدة، قد لا يصلح تطبيقها في دراسة ظاهرة أخرى. (ناصر، 1985، ص 83)
ولكن بما أنّ الأنثربولوجي عامل واحد فحسب، في الحالة الميدانية، فإنّ الطريقة المثلى ليست دائماً، هي الطريقة التي يحسن استخدامها، إذ يجب إن يأخذ الجماعة التي يدرسها في الحسبان، لأنّ تصوراتها وأحكامها المسبقة ومخاوفها، هي التي قد تهيمن على الميدان. وهذا الموقف العام الذي لا يلقى الاهتمام الكافي من الباحث الأنثروبولوجي، هو من صميم العنصر الإنساني الذي تجب دراسته بعناية فائقة .
وإذا كان الاعتقاد السائد لسنوات عديدة في مجال البحث الأنثروبولوجي الميداني، هو أنّ الأشخاص الراشدين هم وحدهم القادرون على إعطاء الباحث صور حقيقية عن الثقافة .. ، فإنّ هذا الاعتقاد لا يصحّ اليوم، لأنّ الثقافة هي ما تصنعه الثقافة، وتنوّع السلوك المقبول لدى الجماعة، يسمح بأن يتّخذ الرجال سلوكاً مغايراً لسلوك النساء. وأن يتّخذ سلوك الأحداث سلوكاً مغايراً لسلوك الراشدين .. ولذلك، فإنّ أفضل طريقة يتبعها العالم الأنثروبولوجي في البحث عن الثقافة، هي أن يتحدّث إلى الرجال والنساء، والأحداث والراشدين، وملاحظة أكبر عدد من الأفراد، وفي أكثر ما يمكن من الأوضاع. (هرسكوفيتز، 1974، ص 99)
وبما أنّ علم الأنثروبولوجيا، يتضمّن في بعض فروع دراسته، المنهج المقارن، كما في (الأثنولوجيا )، فإنّ التجريب هو شكل فرعي للمقارنة ، طالما أنّه يدلّ على نوع من الطرائق التي تهدف إلى التوصّل إلى مقارنات. وتسعى التجربة إلى إنشاء اتصال منتظم بين احتمالات عدّة، تكون مقارنة بعضها قبل التجربة، وبعضها الآخر بعد التجربة .. وباختصار، تتمّ مقارنة المواقف التي تحاول الطريقة تنفيذها بإتقان، إلاّ فيما يتّصل بمشكلة محدّدة على نطاق ضيّق .
وإذا كان علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) الوصفي، قد حقّق تقدّما كبيراً في بضعة عقود من نشأته، فإنّ ذلك لم يعد كافياً لدراسة ثقافة ما بمظاهرها وأبعادها وتأثيراتها النفسية والسلوكية، في الناس الذين يعيشون في ظلّ هذه الثقافة، ما لم تقترن هذه الدراسات الوصفية بالشواهد الواقعية، الحيّة .. وهذه من المهمّات الأساسية للباحث الأنثروبولوجي، لكي يقدّم نتائج علميّة ودقيقة عن المجتمع الذي يدرسه .
وبناء على ذلك، يعدّ التمسّك الشديد بالمنهجية، شرطاً أساسياً للأنثروبولوجي الذي يريد النجاح في أبحاثه الميدانية. وهناك ضرورة أساسية في البحث الأنثروبولوجي (الأثنوغرافي )، وهي التحلّي بالتجرّد العلمي الذي يتطلّب طرحاّ قاطعاّ لكلّ أحكام القيمة. إذ يجب على الباحث في الثقافة الإنسانية أن يلاحظ تقاليد الشعب الذي يدرسها ويصفها، شأنه في ذلك شأن العالِم الكيميائي الذي يكرّس نفسه، لفهم العناصر التي يحلّلها وفهم سلوك كلّ منها في علاقته مع العناصر الأخرى. (هرسكوفيتز، 1974، ص 87)
وباختصار، يجب على الأنثروبولوجي، بوصفه عالماً، أن يتحلّى بالتجرّد تجاه معطياته. وهذا ما يتّصف به الباحث العلمي عن الحقيقة .. ويجب في هذا المجال البحث أن يتأكّد الباحث : أنّ البحث عن الحقيقة يجب أن يسبق أي شيء آخر، وبالتالي فإنّ الإسهام في الدراسات الأنثروبولوجية، يجب أن يوجّه لحلّ المشكلات الأساسية في المجتمعات المدروسة .
وهذا كلّه يتطلّب من الباحث الأنثروبولوجي، أن يعدّ نفسه لطرائق الدراسة الميدانية، التي تؤهّله للخوض في هذا العلم الذي لم يعد بالإمكان تجاهله، في الدراسات الاجتماعية / الثقافية. وإن كانت الدراسات النظرية حول طرائق البحث الأنثروبولوجي الميداني، ما زالت قليلة قياساً بالاهتمام بالمشكلات التقنية للمنهج.
ثالثاً- طرائق البحث الأنثربولوجي الميداني وأدواته
إنّ أهمّ إسهامات الأنثروبولوجيا بوجه عام، والأنثروبولوجيا الثقافية بوجه خاص، يتمثّل في منهجها البحثي .. وبما أنّ أحد الشروط الأساسية في منهج البحث العلمي، هو أن يعرض العالِم بوضوح، الوسائل التي حصل بوساطتها على مجموعة من المعلومات، فإنّ من المهمّ أن يتلافى أسباب نقص هذه الوسائل في الدراسات الأنثروبولوجية.
فالصعوبة التي يواجهها الباحث الأنثربولوجي، تنشأ في وصف الطرائق التي يتّبعها في الدراسة الميدانية، عن الاختلاف بين المواد التي يدرسها، وبين العالم الذي يعمل في مختبر. فلم تكن لدى الباحث في الثقافة الإنسانية –سابقاً- سوى القليل من الأدوات التي يصفها، ولذلك فإنّ نجاحه يتوقّف – وإلى حدّ بعيد – على درجة تحسّسه بالحالات الإنسانية التي يجابهها، أكثر ممّا يتوقّف على مهارته في استعمال أنابيب الاختبار أو الموازين، أو الحاضنات. (هرسكوفيتز، 1974، ص 88)
ولكنّ العلاقات التي كوّنتها الأنثروبولوجيا مع العلوم الأخرى، الإنسانية والتطبيقية، أدخلت عنصراً حيوياً على النظريات والتقنيات الميدانية، التي أصبحت تؤدّي دوراً في الدراسات الأنثروبولوجية، ولا سيّما من حيث فرض المشكلات ووضع التساؤلات، التي أثمرت بفاعلية في المكتشفات الأنثروبولوجية.
وعندما ينظر المرء إلى تاريخ الأنثروبولوجيا، ولا سيّما سير حياة بعض رواده المرموقين، يجد أنّ المؤرّخين ومصنّفي هذا الفرع من العلوم، يذكرون بصفة عامة الفترات الزمنية المتعلّقة بمجال العمل، ومكانه … ولكن حدثت في فترة الستينات من القرن العشرين، أن أثيرت فجأة مسألة ” الأنثروبولوجيين في الحقل الميداني ” ودخلت حيّز النقاش والجدل.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت أشكال العلاقات والمشاركات المختلفة، بين الأنثروبولوجيين والناس الذين هم موضع الدراسة، تشكّل نقطة هامة لدى مراجع العلم الأنثروبولوجي، وتتعلّق بما يثيره عالم الأنثروبولوجيا من تساؤلات،باعتبارها وسائل وأدوات لا بد منها لتفسير تلك الألغاز الأنثروبولوجية .
فالدراسة الميدانية (الحقلية) تتطلّب ما هو أكثر من وجود الباحث ومراقبته السلبية لما هم عليه الناس. وذلك، لأنّ الباحث يحتاج – غالباً- في ملاحظته، إلى التحرّي عن أكثر ما يظهر في أوّل الملاحظة، والإطار المرجعي (النظري) يمدّه بمجموعة من التساؤلات والموضوعات، وعندما يشاهد واقعة ما، يحاول أن يكتشف العلاقة بينها وبين الإطار المرجعي كلّه. (غانم ورفيقاه، 1989، ص 228)
واستناداً إلى المنطلقات السابقة، فقد أقرّ علماء الأنثروبولوجيا بعض الطرائق الميدانية التي يمكن اعتبارها أيضاً أدوات عمل فاعلة في العمل الميداني، ومنها : طريقة الملاحظة المباشرة، وطريقة الاستمارة، وطريقة المشاركة وطريقة الحالة الفرضية.
وإذا كان كلّ مفهوم نظري لـه بدائل إجرائية Proceduresing Alternative، تستخدم للملاحظة والإجراء العلمي، فإنّ الفكرة ذاتها نجدها مطبّقة في الدراسة الأنثروبولوجية، حيث يستخدم الباحث أكثر من مقياس، وأكثر من طريقة للملاحظة، في دراسة النظم الثقافية / الاجتماعية. Pretti, 1970, p 89 ))
وهكذا، تختلف وسائل كلّ طريقة وفائدتها عن الأخرى، باختلاف الوضع الذي يجد الباحث نفسه فيه، وباختلاف نمط الثقافة التي يدرسها، أو اختلاف المشكلة الخاصة التي يدرسها.
1- طريقة الملاحظة (المشاهدة) المباشرة Direct Observation:
هي أحد الأساليب التي يستخدمها الباحث المقيم، في دراسة الشعوب البدائية. ويقوم هذا الأسلوب على مراقبة أو معاينة أفراد الشعب الذي تجري عليه الدراسة، في أثناء تأدية أعمالهم اليوميّة المعتادة. وكذلك حضور المناسبات العامة التي يقيمها أبناء هذا الشعب، كالحفلات والاجتماعات (الدينية أو الشعبية) وحلقات الرقص، ومراسم دفن الموتى، وغيرها .. ورصد الحركات والتصرّفات، وتسجيل ما يجدر تسجيله من حوارات وأغان وتراتيل، وما إلى ذلك من التعبيرات التي يبديها الأفراد في هذه المناسبات. (كلوكهون، 1964، ص 28 )
وهذا يقتضي من الباحث الأنثروبولوجي أن يقيم فترة لا تقلّ عن (7-8) أشهر، في المجتمع المدروس، وتفهّم ما يدور فيه. فالباحث المحترف لا بدّ وأن يغرق نفسه في حياة الناس، وذلك لأنّ البحث لا يتمّ إلاّ بالإقامة الطويلة لشهور عديدة في المجتمع المحلّي. كما يجب أن يحسن الباحث لغة التخاطب بلغة الأهالي، حتى وإن كان السلوك الذي يشاهده غير لفظي. والإقامة في مجتمع البحث، تعني ملاحظة دقائق الحياة اليوميّة كما تجري بين الناس .. وهكذا يرى الباحث عناصر الحياة اليومية تتكرّر مرّات ومرّات أمامه، وتصبح من الأمور العادية بالنسبة له. (غانم ورفيقاه، 1989، ص 227)
وتحتاج هذه الطريقة، إلى أن يكون الباحث ملمّاً بأهداف بحثه وبطبيعة المجموعة المدروسة. وأن يتمتّع بقدر كبير من الاهتمام والوعي، بأبعاد الظاهرة التي يقوم بدراستها، وكيفيّة رصد هذه الأبعاد بدقّة وموضوعية، حيث يتوقّف على ذلك صدق المعلومات، وفائدتها العلميّة .
2- طريقة المشاركة Participation :
وهي الطريقة التي يتبعها الباحث الأنثروبولوجي، أي أن يقوم بأعمال تقوم بها الجماعة المدروسة، وذلك تقرّباً منها وكسباًً لودّها، والدخول بالتالي إلى أدقّ التفاصيل في ممارسات أفراد هذه الجماعة، الخاصة والعامة. كأن يمارس الباحث بعض الطقوس الدينية أو الاجتماعية، أو يقوم ببعض الأعمال التي تعدّ من النشاط اليومي للجماعة، ولا سيّما الأعمال اليدوية، الفردية والجماعية .( كلوكهون، 1964، ص 28)
والمعلومات التي تأتي من الملاحظة بالمشاركة، مهمّة بالنسبة للوسائل الأخرى، حيث أنّ المعلومات الأوّلية الناتجة عن الملاحظة بالمشاركة، تمدّ الباحث باستبصارات لازمة لتصميم الاستمارات والاختبارات السيكولوجية، وغيرها من الوسائل البحثيّة الأخرى المتخصّصة. كما أنّ الملاحظة بالمشاركة مهمّة لاختيار المعلومات الحقلية اللازمة لتقييم الشواهد التي جمعت بالوسائل الأخرى. فالجدول الزمني للبحث الحقلي، يتضمّن التداخل بين الملاحظة بالمشاركة، والأساليب الأخرى لجمع المادة. (غانم ورفيقاه، 1989، ص228)
ومن خلال هذه المعايشة الحيّة للمجتمع المدروس، والمشاركة الفاعلة في مناشطه، يكتسب الباحث مهارة في أداء هذه الأعمال، وقدرة على كتابة تجربته الشخصيّة فيها وممارسته لها. وهذا ما يؤدّي في النهاية إلى تصوير واقع الشعب المدروس، بتفصيلات تتّسم بالشمولية والدقّة.
3-طريقة الاستمارة (الاستبانةQuestionnaire ) :
هي من أقدم الطرائق البحثية، وما زالت مستخدمة على نطاق واسع في كثير من الدراسات المسحية / الميدانية. وقد أخذت هذا الاسم من عنوان نشرة أصدرتها لجنة من المعهد الأنثروبولوجي الملكي، التابع لرابطة( تقدّم العلم البريطانية) عام 1875، ثمّ جرت عليها خمس تنقيحات، إلى أن ظهرت الطبعة السادسة منها عام 1951 .
قامت فكرة إعداد استمارة شاملة تغطي جوانب الثقافة المادية، وغير المادية، على ادّعاء الباحثين بأنّ ثقافات الشعوب البدائية جميعها، مهدّدة بالزوال، ولذلك، يجب الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات، طالما هذه الشعوب موجودة. وتؤدّي هذه الطريقة إذا استعملها ملاحظ غير مؤهّل للبحث الأنثروبولوجي، إلى جمع الكثير من الوقائع، ولكنّها تعطي القليل من المعلومات، سواء عن كيفيّة ارتباط هذه الوقائع كلّ منها في الكلّ الذي يؤلّف الثقافة، أو العنصر الإنساني في الحياة اليومية لدى شعب من الشعوب .
ولكنها – في المقابل – تساعد الأنثروبولوجي المختص، في التحقّق من النقاط التي يكون قد أهملها. وهذا ما دعا ناشري الطبعة السادسة إلى وصفها بأنّها ” مذكرة يدوية للأنثروبولوجي المختص الذي يقوم ببحث ميداني”. (هرسكوفيتز،1974، ص 102 )
وهذه الطريقة شبيهة بطرائق البحث في العلوم الاجتماعية. ففي الدراسات الأنثروبولوجية على المجتمعات المتقدّمة، يوزّع الباحث الاستمارة (الاستبانة) على الأفراد المدروسين، ويترك كلاًّ منهم يجيب عن الأسئلة بطريقته. غير أنّ أسلوب التنفيذ والتطبيق يختلف في دراسة الشعوب البسيطة (البدائية) التي لا تعرف الكتابة، حيث يقوم الباحث بطرح السؤال ويدوّن الجواب الذي يسمعه، وكذا الحال في الحوارات والمناقشات .
4- طريقة الحالة الفرضيّة Hypothesis Case :
تقوم هذه الطريقة على بناء افتراضات حول عناصر لظاهرة اجتماعية/ ثقافية، يسعى البحث إلى إثباتها والتحقّق منها، حيث لا تظهر جماعة ما هذه العناصر إلاّ في حوادث أو حالات معيّنة.
وبناء على ذلك، تسعى هذه الطريقة إلى ” فصل حالات في حياة الناس تبعاً لأشخاص وعلاقات وحوادث فرضية تتّفق مع النماذج السائدة في ثقافة الجماعة، والتي يستخدمها الباحث لإدارة المناقشات وتوجيهها، مع أفراد الجماعة الموضوعة تحت الدراسة .” ولذلك، فعندما تكون الحوادث مصطبغة بمعنى غيبي سحري مشؤوم، مثل الولادة، أو عندما تتضمّن المسائل الاقتصادية وقائع، لا يريد الفرد أن يكشف عنها إذا كانت تعنيه أو تعني شخصاً آخر، يمكن أن تجري المناقشة بحرية إذا لم يكن الشخص المعني موجوداً .
إنّه لمن المدهش أن يتحوّل الحديث – في أغلب الأحيان – عن حالات وأشخاص فرضيين، إلى مناقشة حالات وأشخاص حقيقيين، ولا سيّما في حالة وصف الحوادث التي مرّت في تجربة المُخبِر نفسه، وتتبيّن قيم الثقافة وأهدافها، في آرائهم حول تقييم المعضلات الفرَضيّة، التي يطرحها أحد أفراد الجماعة . (هرسكوفيتز، 1974 ،ص 104 )
إنّ النظام في ميدان الأنثروبولوجيا عامة، وفي الميدان الثقافي منها خاصة، يحتفظ بقيمته في الدراسة طالما يقوم بوظيفته، في حياة أولئك الذين يستخدمونه بصورة مُرضيَة .. وهذا يقود إلى النقاط التالية : (هرسكوفيتز، 1974، ص282)
1- يعدّ التصنيف خطوة أولى هامة في دراسة المعلومات، ولكن لا ينبغي أن يؤخذ غاية بحدّ ذاته.
2- يجب أن يؤخذ في الحسبان عامل التنوّع عند تصنيف المعلومات، بحيث تتمتّع التصنيفات بمرونة لا تتمتّع بها التصنيفات المبنيّة على مفهوم (النموذج) .
3- إنّ تشكيل (اختراع) مجموعة زمر لظاهرة معقّدة، مبنية على معيار وحيد، يعدّ مبالغة في تبسيط المعلومات، تؤدّي إلى تشويه قيمة الأصناف التي تنشأ عنه .
4- إنّ بناء التصنيف على أحكام قيمة، إنّما هو استخدام معيار لا يصمد أمام اختبار التحليل العلمي، الذي يأخذ الوقائع جميعها في الحسبان .
5- وأخيراً، تعتبر هذه النقاط، الحدود التي يمكن الحصول – من خلالها- على تصنيف مقبول للظواهر الثقافية.
والخلاصة، إنّ الأنثروبولوجيا، علم منهجي والبحث الميداني من أهمّ مقومات نجاحه. وهذا يتطلّب من الباحث معرفة الطريقة التي عليه أن يستخدمها، واضعاً نصب عينيه أنّ المشكلة التي يدرسها، هي في الأساس مشكلة إنسانية. كما أنّ الواجب البحثي يقتضي أن يتمتّع الباحث، بدرجة عالية من الحساسية تجاه قيم الناس الذين يتعامل معهم، ومعرفة القوانين التي تحكم سلوكاتهم وأساليب التعامل معهم، وهذا ما يتيح لـه بناء علاقة وديّة معهم، وتسهّل بالتالي الحصول على ما يريده من معلومات .
مصادر الفصل ومراجعه
– أبو زيد، حامد (2001) الطريق إلى المعرفة، كتاب العربي 46، مجلّـة العربي، الكويت.
– غانم، عبد الله عبد الغني ورفيقاه (1989) المدخل إلى علم الإنسان ، المكتب الجامعي الحديث، الاسكندرية .
– كلوكهون، كلايد (1964) الإنسان في المرآة، ترجمة : سليم شاكر، بغداد .
– ناصر، ابراهيم (1985) الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الإنسان الثقافي، عمّان .
– هرسكوفيتز، ميلفيل. ج (1974) أسس الأنثروبولوجيا الثقاقية، ترجمة : رباح النفاخ، وزارة الثقافة، دمشق .
– Pretti , Pelto (1970) Anthropology Research , London .