تقديم :
أحمد عاطف أفندي هو أحد كبار موظفي الإمبراطورية العثمانية؛ فقد شغل منصب “رئيس الكتاب”Reis ül-Küttab ؛ وكان هذا اللقب يطلق على مدير الديوان الهمايوني في الدولة العثمانية، قبل أن يتم التخلي عنه في عهد “التنظيمات” الإصلاحي ليعوض، ابتداء من عام 1836، بتسمية “ناظر الخارجية”.Hariciye Naziri عاصر “رئيس الكتاب” أحمد عاطف أفندي أحداث الثورة الفرنسية بتفاصيلها الفريدة والمثيرة، فكتب، في ربيع 1798، مذكرة لا يعسر على المرء أن يتبين فيها وجه “السياسي” المتحجب – كالعادة – وراء عبارات التوجس الديني من “تلبيس إبليس” على البشر؛ ففي فاتحة هذه المذكرة التي نترجمها للقارئ، يهاجم أحمد عاطف أفندي وثيقة “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” التاريخية التي أصدرتها الجمعية التأسيسية عام 1789، ويعتبرها بجرة قلم منافية لجميع الشرائع والأديان، ويشبه الثورة الفرنسية بمرض “السفلس” أو الزهري المعدي، ويصف فلاسفة “الأنوار”، أمثال روسو وفولتير وغيرهما، بأنهم “زنادقة ملاعين” و“ملاحدة شياطين”، محملا إياهم مسؤولية أحداث “الفتنة” و“الفجور” التي عصفت بموازين المجتمع الفرنسي التقليدي. كما أنه لا يتردد في وصف شعب الثوار الذين اقتحموا سجن “الباستيل” بأنهم مجرد “قطيع من البقر”!
والحال أنه يفهم من بعض اليوميات التي كتبها أحمد عاطف أفندي قبل ذلك بسنوات، وتحديدا في شتاء 1792، أن ما حصل في فرنسا يوشك أن يكون هدية سماوية لأن من شأنه أن يشغل أعداء الإمبراطورية الإسلامية بأنفسهم ويلهيهم، وبخاصة روسيا والنمسا(1). فما الذي حصل اليوم؟ الجواب هو أن جيش نابليون بونابرت على الأبواب. فالأمر جدّ في جدّ، والخطب عظيم. وبالفعل، فقد حرّر “رئيس الكتاب” العثماني نصّ مذكرته بناء على أمر سامي من “الباب العالي” Topkapı Sarayı، حيث كان الغرض هو تقديم الاستشارة السياسية في مسألة جدوى الانضمام إلى الحلف الأوربي المناهض لبونابرت بعد أن انكشفت وتعرت أطماع هذا الأخير التوسعية، وسارت بذكرها الركبان، ومنها رغبته في الاستيلاء على أجزاء هامة من أراضي الإمبراطورية الإسلامية، حليف فرنسا منذ عهد الملك فرانسوا الأول والسلطان سليمان القانوني. ومعلوم أن جيوش “بونابردي باشا” – كما سيسمّيه المصريون – ستنزل ببلدة “أبو قير”، غربي الإسكندرية، في فاتح يوليوز من عام 1798، أي بعد أشهر قليلة من تحرير مذكرة أحمد عاطف أفندي، واضعة حدا لما ينيف على القرنين من “التحالف الفرنسي-العثماني” الذي طالما أطلق عليه خصومه الأوربيون اسم “التحالف الأثيم”Alliance Impie .
أما النص المقتبس من المذكرة الذي ننقله هنا، فقد أورده باللغة الإنجليزية المستشرق البريطاني-الأمريكي الأستاذ برنارد لويسBernard Lewis في كتابه “ميلاد تركيا الحديثة” The Emergency of Modern Turkey المنشور عام 1961. وقد صدرت الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب عام 1988 بباريس، كما هو معلوم، تحت عنوان “الإسلام والعلمانية : ميلاد تركيا الحديثة”Islam et Laïcité : la Naissance de la Turquie Moderne . ونحن قد استعنا في نقل النص إلى العربية بكلتا الترجمتين.
نص الترجمة :
“إن أحد الأمور التي يعلمها كل عارف جيد الاطلاع على أحوال فرنسا هو أن نيران الفتنة والفجور التي اندلعت قبل بضع سنوات في هذا البلد، فنشرت الفوضى والقلاقل في كل مكان، إنما تخلقت وترعرعت منذ مدة طويلة في نفوس ثلة من الزنادقة الملاعين، وأنها كانت بمثابة الشيطان الراقد الذي حرص هؤلاء على إيقاظه حين سنحت لهم الفرصة. وعلى هذا النحو، قام الملحدان الشهيران فولتير وروسو، وغيرهما من دعاة المذهب المادي، بطبع ونشر كتب عديدة تكيل – والعياذ بالله– سيلا من الشتائم والافتراءات الكاذبة في حق الانبياء الأطهار والملوك العظام، وتطالب بإلغاء جميع الاديان، مع التغني بوعود المساواة وبمزايا النظام الجمهوري، وكل ذلك بألفاظ وعبارات عامية، ساخرة ويسيرة الفهم على الدهماء. ووجد الناس ضالتهم في ما حوته هذه الكتب من أشياء لم يعهدوا مثلها من قبل، فمال معظمهم، حتى من الشباب والنساء، إلى أولئك الزنادقة الملاعين، واحتفوا بمقالاتهم، فانتشرت الزندقة والفجور مثل مرض الزهريSyphilis في شرايين أدمغتهم وأفسدت دينهم. وعندما اشتد أوار الثورة لم يأبه أحدهم لجرائم من قبيل إغلاق الكنائس، وقتل الرهبان وطردهم، وإسقاط الدين والملة، ذلك أن قلوب الدهماء قد مالت كلها نحو المساواة والحرية معتقدين أن في وسعهم بهاتين أن ينالوا السعادة في دار الدنيا، تماما كما أوهمتهم بذلك التعاليم الكاذبة التي ما انفكت تروج لها الشرذمة الضالة المضلة من الزنادقة الملاعين الذين زرعوا الفتنة والشر بسائق من أنانيتهم المريضة ومن أجل قضاء مصالحهم الخاصة. ويعلم الكل أن أمن وتماسك أية دولة من الدول إنما يقوم على وثاقة عرى الشريعة والدين والعقيدة؛ وأن الأسباب السياسية وحدها لا تكفي لضمان استقرار البلد وطاعة الرعية؛ وأن واجب مخافة الله واجتناب غضبه في قلوب العباد يعتبر من التعاليم الإلهية التي لا يحيد عنها إلا هالك؛ وأن لكل دولة ولكل أمة من الدول والأمم، السالفة أو الحاضرة، دينا تتبعه سواء أكان هذا الدين صحيحا أم غير صحيح. ومع ذلك، فإن رؤوس الفتنة وقادة الشر الذين ظهروا في فرنسا قد عملوا – على نحو لم يسبق له مثيل من قبل، وحتى يسهل عليهم تحقيق أغراضهم الشيطانية، متجاهلين عواقب أفعالهم الوخيمة – على نزع مخافة الله وخشية عقابه من قلوب عامة الشعب، وأباحوا جميع أنواع الآثام وقضوا على الحشمة والحياء، فحولوا شعب فرنسا الى مجرد قطيع من البقر. ولم يرضوا بهذا الأمر وحده، بل طفقوا يبحثون عن أمثالهم في الدول الأخرى، حتى تنشغل هذه الدول بالمحافظة على أنظمتها فلا تفكر عندها في مهاجمتهم، فقاموا بنقل ميثاق العصيان الذي سموه”حقوق الانسان“الى سائر اللغات، ونشروه في كل مكان، وعملوا على تحريض عامة الشعب من كل الأمم والأديان على عصيان ملوكهم”.(2)
الهوامش:
1- cf. Bernard Lewis, The Muslim Discovery of Europe, (New York : W. W. Norton & Company, 2001), p. 52 ; see also Faruk Bilici, « La Révolution française dans l’historiographie turque (1789-1927) », in Annales Historiques de la Révolution Française, 286, 1991, p. 539-49, p. 540.
2- Bernard Lewis, The Emergence of Modern Turkey, (Oxford-Londres-New York : Oxford University Press, 1961), P. 66; cf. french translation : Id., Islam et Laïcité : la Naissance de la Turquie Moderne, traduit de l’anglais par Philippe Delamare, (Paris : Fayard, 1988), p. 64-5.