القراءة الأعمّ للنازية والنُظُم التوتاليتارية في حينه قالت بأنها تشكّل عودة أوروبا إلى القرون الوسطى أو إلى البربرية. بمعنى، أن النازية ومثيلاتها من نُظم استبدادية شمولية هي نكوص الحداثة سقوطا نحو عهود وحشية تستبدّ فيها القوة وتبطش. إلا أن مدرسة فرانكفورت، خاصة أدورنو وهوركهايمر وما أعقبها من نيو ماركسية نقدية وصولا إلى زيغموند باومان رأوا في النازية ومثيلاتها من النُظُم جزءا بنيويا من الحداثة لا عودة عنها. وافترض هذا المذهب أن الحداثة التي شيّأت الإنسان وجعلته آلة وأداة لتحقيق مشاريعها ونزعت إلى عقلانية متطرفة “جافة” أنتجت حالة من الاغتراب والاستلاب لدى الإنسان، صادرت الأخلاقيات والقِيم الضابطة الكابحة على مذبح المشاريع المخططة والعلمية المنهجية إلى حدود أن الحداثة ـ في شكلها التوتاليتاري ـ أرادت إزالة كل عقبة تعترضها في طريقها أو التنازل عن كل المحاذير في الطريق إلى تحقيق ذاتها. ومن هذا التيار الفكري مَن يرى بيروقراطية الدولة الحديثة كآلية وجملة أنساق متكاملة مسؤولة عن وصول الحداثة إلى منتهاها بإعلاء شأن الدولة وأهدافها كأنها لا تشمل بشرا بل جملة من الميسرات أو المعيقات أمام خطط التنمية أو التقشف أو التعمير. ويُشير هؤلاء إلى حقيقة أن النظام النازي كلّف الوحدة الاقتصادية في الجيش بمهمة إدارة معسكرات الاعتقال وعمليات الإبادة وأن هذه العمليات أديرت وفق مبدأ اقتصادي صارم محسوب على الإبرة كما نقول!
أسوق هذا وأنا أحاول مجددا التعمّق في الظاهرة الداعشية على صورها المتعددة. فهي تذكرنا بعهود مضت، عهد الإنسان الديني أو عهود ما قبل الدولة الحديثة والعقد الاجتماعي (هوبس)، عهود ما قبل السياسة. مع هذا، سيكون من الصعب، رغم ظاهرها الماضوي القائل بوجود ذروة في الماضي ينبغي إلعودة إليها لتذليل الصعاب وتحقيق المأمول، ألا نرى علائقها بالراهن والجاري في مستوى الفكرة السياسية والتحولات الكونية. سيكون من الأصح لو سِرنا على منهج مدرسة فرانكفورت ورأينا الظاهرة في سياقها الكوني وكجزء من عولمة تفكك وتبنى، تهدم وتُنشئ ما أنتجته البشرية خلال ثلاثة قرون من الحداثة وما بعد الحداثة أو زمن الحداثة السائلة ـ كما يسميها باومن ـ وصنفناها ضمن محصلات العولمة كسيرورة تؤثّر بقوة في كل شيء لا سيما الاقتصاد والفكر السياسي والأفكار عموما والبُنى السياسية والمجتمعات والعلاقات والنُظم والأنساق التي أنتجتها مرحلة ما بعد الحداثة. سيكون من المُفيد أن نرى في الظاهرة الداعشية جزءا من المتغيرات العميقة التي ترافق العولمة وتكسر الإيقاعات في كل حقل ومساحة بشرية لا سيما في حقل الدولة باعتبارها درّة تاج الاجتماع ومحصّلة العقد الاجتماعي. وهي زاوية نظر قد تُسهم في تطوير القراءة نحو تصويبها. مثل هذا الجهد مطلوب الآن بإلحاح في ظلّ الردّ المضاد على الداعشية بهيئة تحالف دولي جديد يريد حماية الدولة في الشرق الأوسط كجزء من الدفاع عن مفهوم الدولة كونيا. ونشير هنا إلى أن قراءتنا المجددة للداعشية لا تُغيّر شيئا من مناهضتنا لها كأيديولوجية شمولية جازمة وكفكرة تنقضّ على الدولة ـ وليس العربية فقط ـ من إخفاقاتها وقمعها وقصورها ومن الوهن الذي أصابها جراء تحولات تاريخية ذاتية ووافدة لا سيما اقتصادية تتجسّد في سيرورة العولمة ومفاعيلها.
من المتفق عليه في العلوم السياسية الراهنة أن سيرورة العولمة دكّت الحدود من خلال تراكمات تشريعية على مستوى العالم لتسهيل التبادل التجاري والمالي والعمالة وخطوط الإنتاج والبضائع وتسريع نقلها وتحريك الرأسمال من عاصمة إلى أخرى. وبات الاقتصاد الوطني مرتبطا من عنقه بالاقتصاد الكوني. وصار الاقتصاد الكوني أشبه بنظام متكامل له مراكزه وسياساته، يتجاوز حدود الدول أو يُخضعها في حال التعارض والمواجهة. صار الاقتصاد أقوى من الأوطان، والشركة كتنظيم أخطبوطي أقوى من الدولة اقتصاديا ونفوذا وامتدادا وتنظيما. طغى الاقتصادي بمفهومه الماركسي على السياسي بمفهومه الاجتماعي. ومن هنا استخدام الشركات الكونية للدولة ومؤسساتها كبنية تحتية لتوسيع أعمالها وتكديس أرباحها، ولا يقلّ نفوذها وسؤددها. فالهدف هو أن تيسّر الدولة لها الوصول إلى المجتمعات باعتبارها مستهلكة أو مُنتجة (سوقا) وأن تُطلق يديها حرة فيما تصنعه من أرباح ومن جرائم على الطريق السريعة إلى الربح!
جاء انحسار تدخّل الدولة في الاقتصاد بضغط الرأسمال الكوني الذي ضاعف ثروته ليس على حساب المجتمعات ـ الناس ـ بل على حساب الدول التي باتت أفقر وأقلّ قدرة على تطبيق السياسات وتنفيذ القرارات أو التحكّم بمجريات اقتصاداتها. وهناك هبرماس مثلا الذي يعتبر ما حصل في هذا المستوى تقويضا لمفهوم الدولة الإقليمية وانتقاصا من سياديتها وزعزعة للفكرة الديمقراطية كما تطورت في العصر الحديث. ويدّعي أن العولمة أضعفت الدولة تماما حدّ الضرورة في إعادة النظر وردّ الاعتبار للدولة والديمقراطية معا. وهو يفترض أن العولمة عطّلت إلى حدّ كبير النظام الديمقراطي المفصّل على مقاس الدولة الوطنية الإقليمية التي من المفروض أن يحسم مواطنوها أمر نظامها وسياستها وتوجهاتها. إلا أن العولمة تدخل على الخط لاعبا مركزيا مباشرا وغير مباشر، معلنا أو مستترا، في كل انتخابات مهما صغرت الدولة التي تجري فيها.
مثل هذه التحولات في البُنية التحتية الاقتصادية المادية أنتجت على الطريقة الماركسية تحولات في الأفكار الناظمة للمجتمعات وعلى رأسها مفهوم الدولة والسيادة الوطنية والديمقراطية ونظام العلاقات بين الدول والمجتمعات. فالديمقراطية كنظام وطني تبدو في منعطف خطر بسبب ما أصابه جراء العولمة وطغيان الاقتصادي. وإذا اعتقدنا ونظّرنا لحقبة من الزمن لمسألة حاجة الديمقراطية إلى التمويل وضخّ الأموال في مبانيها وممارساتها كي تبقى وتعيش وتستوي، فإننا اليوم بشأن سيرورة عكسية يتم بقوتها اختصار الديمقراطية أو تقليص مساحتها بحجة الضرورة الاقتصادية ـ قوى السوق وقانون الربح والخسارة. ويتفق علماء الاجتماعي الآن على وجود ظاهرة كونية متمثّلة في أن الحكومات تشرّع وتقرر لكنها تعجز عن التطبيق لأسباب اقتصادية وغياب ميزانيات. بمعنى أن الدول لا تخصص الموارد الكافية لصيانة الديمقراطية وتطويرها بينما هي تقدم تقدمات مالية هائلة ومواردها كافة على طبق من فضة للشركات والرأسمال المتحرّك.
من المتفق عليه، أيضا، أن التأثيرات على الدول والمجتمعات تتم بتفاوت بين دول قوية وأخرى ضعيفة، بين دول ناضجة قادرة وبين دول فاشلة قاصرة ومنها معظم الدول العربية، بين مجتمعات متطورة حققت مستوى كبيرا من الرفاهية والنمو وبين مجتمعات حققت بصعوبة الأمن الغذائي لسكانها. انطلاقا من فرضية التفاوت التي نقبلها نُشير إلى الحالة العربية ـ المتفاوتة في مكوناتها ـ باعتبارها حالة متأخرة للاستقلال وبناء المجتمعات والدول. وقد “استقرّ” بها الوضع بعد الحرب العالمية الثانية لتدخل في صراع مع إسرائيل الدولة العبرية إلى الآن تقريبا. لقد شكّلت الحالة العربية منخفضا جويا استقدم كل تأثيرات مراكز القوة الصاعدة في الحلبة الكونية لا سيما الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي والأزمات الاقتصادية والعولمة والاستعمار الجديد. حالة، هي مزيج من الدول الضعيفة اقتصاديا المؤلفة من مجتمعات غير متجانسة هشة النسيج والمقومات، موجودة في صراع مع إسرائيل وعلى الجبهة الداخلية وعلى المستوى الكوني. هذا، في حين أن بناءها الداخلي هش وأن مقوماتها مهزوزة لا سيما فيما يتصل بالأمن الغذائي والحريات الأساسية والبُنية الاقتصادية الريفية أو الريعية. حالة جعلتها مؤهّلة تماما لتأثيرات ما أشرنا إليه من متغيرات على مستوى كوني. فالضعف الاقتصادي للدولة المقرون في العقود الأخيرة بتراجع مركزية الدولة في حياة المجتمع وحصرها في أنظمة أمنية مخابراتية وفي ضعفها أمام العولمة وهول مهدّتها وماكناتها، أعاد المواطن إلى القبيلة التي لم تختف ولم تتلاش أو إلى الطائفة أو إلى الجامع والمؤسسة الدينية باعتبارها شبكة أمان للفرد في استلابه وفي انكسار مواطنته على عتبة مقرّات الأمن والمخابرات. المدينة العربية حاضرة الحداثة وحاضنتها ناءت تحت ضغط الهجرة من الريف وخنقتها أحزمة الفقر بدل أن تشعّ هي نحو الأطراف وتحدّثها!
اختزل البعض الحداثة بما تعنيه من سياسة ودولة وعقد اجتماعي على أنها قتل الله. بمعنى، أن الحداثة أنتجت الدولة شكلا لانتظام المجتمعات وتنظيم العلاقات ـ السياسات ـ فيما بينها. وحققت بذلك انتقالا إلى لغة الحقوق السالبة التي ينبغي على المجتمع ألا يتدخّل كي تُضمن وتلك الإيجابية التي ينبغي أن تتدخل الدولة لضمانها. لغة تطوّرت نحو إقرار الدساتير التي تنظّم العلاقة بين الدولة والمواطن الفرد وتؤسس لحالة الاجتماع والسياسة. ولأن الدولة الحديثة في صيغتها الأوروبية الأصلية قضت بوضوح بفصل الدين عن الدولة والحيز العام عن ذاك الخاص وضمنت الحرية من العبادات مثلما ضمنت حرية العبادات، فقد اعتُبرت كمن وضعت الله على الرف وأقصته تماما من اللعبة. بهذا المعنى فقد قتلته تماما وخلّصت نظامها منه ومن أثره وسطوته. وبهذا فقد حلّت محلّه ككلية القدرة. فهي المسؤولة عن توفير رزق الناس ومصادر عيشهم ومأواهم وملبسهم وهي التي ترزقهم وليس الله أو أحد رسله. وهي في وجه آخر، قادرة على حسم مصائر الناس كونها تحتكر العنف والقضاء والإجراءات العقابية وتُدير السجون وتُقيم أجهزة الضبط والمراقبة والتحكّم وتسيطر على لقمة العيش. بهذه المعاني حلّت الدولة الحديثة محلّ الله خاصة عندما تطورت إلى دولة رفاه اجتماعي. فقد تحوّلت في هذه المرحلة إلى جنّة ملموسة محسوسة وحققت وعدها بينما الله لم يحقّقه ولا نصوصه المقدّسة ولا رُسله التي اكتفت بالوعيد والتهديد.
لكن يبدو لي من أن العولمة المندفعة فتحت ملفّ الدولة من جديد باتجاهين. الأول ـ أنها حثّتها على الاندماج في كيانات أكبر ـ الاتحاد الأوروبي نموذجا. الثاني ـ أنها شكّلت بُنية فوقية وشبكة أمان حثّت قوى تؤلّف الدولة على الانسحاب من عقدها ـ أنظر نزعة الانفصال في بلجيكا وإيطاليا وإسبانيا ومؤخرا في المملكة البريطانية المتحدة. (هنا أيضا يشكّل الاتحاد الأوروبي سقفا ومظلّة وشبكة أمان) وفي الاتجاهين دعوة صريحة لتجاوز شكل الدولة السيادية المألوف نحو تفكيك ودمج، هدم وبناء. والحاصل أن الأمور لم تظلّ في مستوى الدعوة والحثّ بل إن مهدّات العولمة عملت دون انتظار أو إذن في جسد الدولة على شكل إزالة أنظمة الحماية الوطنية وفرض الطاعة للبنك الدولي فيما عمدت طوابيرها الخامسة إلى الهدم من الداخل على شكل تشريعات وعمليات ديمقراطية أفضت بالتالي إلى انسحاب الدولة نحو مقرّاتها وتقلّص سيادتها ونفوذها إلى حدّ التحوّل إلى جهاز جباية. لقد سيطرت الشركات الأخطبوط على المجتمعات وحلّت فيها محلّ الدولة. كل هذه العمليات أفضت في نهاية المطاف إلى ضعف الدولة في مستويات عدة أهمها السيادة والقدرة على التحكّم بالاقتصاد والسوق والموارد المادية والطبيعية (الدول تتسابق على التنازل عن كنوز وموارد طبيعية فيها لصالح شركات عابرة للقارات بحجّة تحقيق النمو ـ حركة مناهضة تماما لما شهدناه طيلة النصف الأول من القرن العشرين (وبعده) حينما عمدت الدول إلى التأميم لتحقيق النمو). وهو ضعف تسارع ليتسارع معه انقضاض العولمة ـ الشركات والرأسمال والمؤسسات المالية ـ على تركة الدولة. كأن النظام المعولم أراد أن يرثها بقدر ما يستطيع. وهو الحاصل.
إلى هنا قصّة العولمة هذا المخلوق الاجتماعي الذي بلغ ذروته. سيرورة تدفع الدول إلى التأقلم والانكماش في مواردها وسيادتها وديمقراطيتها فتسلم وتعيش وإن في حالة من الوهن والضعف. ضعف، أحدثته قوى الضغط الوافدة من خارجها استقدم عليها ضغطا من داخلها، حيث كان هذا الداخل مرجلا يغلي. ضغط نكص عنها عودة إلى ما هو أدنى منها من عصبيات وولاءات في المرحلة الأولى وابتعد عنها في المرحلة الثانية إلى حدّ العودة إلى إحياء فكرة الله والسعي إلى استعادتها نظاما بديلا للدولة المُحرجة والمرتبكة. كأن هذه القوى أحسّت بإخفاق مشروع الدولة عربيا على الأقلّ فأشعلت من هذا الإخفاق فكرة الخلافة كتجسيد لفكرة الله المقدّسة وهي أشمل وأعمّ لتحلّ مكان الدولة. القوى الدينية الإسلامية هي رأس الحربة في هذا السعي للعودة إلى ما قبل الدولة ـ إلى فكرة الله المُفترض بوصفها فكرة تتجاوز الدولة نحو كيان جديد ـ دار الإسلام أو الخلافة. ومن هنا فإن هذه القوى كما تختزلها داعش تنقض على الدولة مما قبلها في حركة معكوسة لانقضاض العولمة على الدولة مما بعدها. وبهذا المعنى تجد داعش نفسها في صراع ليس مع الدولة فحسب بل مع منافستها ـ العولمة ـ على تركة الدولة ومواردها. بمعنى، أن “الله” كفكرة مثالية يحاول استعادة مكانته مستفيدا من ضعف الدولة الحديثة الحاصل بفعل العولمة. وهذا بالتحديد ما يستنفر العولمة ونظامها ضد داعش ليس بوصفها إسلاما بقدر ما هو منافس شديد البأس على تركة الدولة ومواردها. بهذا المعنى، يشكّل التحالف ضد داعش تحالفا لحماية الدولة بالصيغة المريحة للعولمة من فكرة الله التي إذا ما اشتدّت واستحوذت فإنها تُنذر بذهاب “إنجازاتها” سُدى!
من هنا يُمكننا أن نقرأ داعش كجزء من تحولات فكرة الدولة وكثمرة “طبيعية” للضربات التي لحقت بهذه الفكرة جراء العولمة وماكنتها الهائلة الطاقة. ولأن داعش هي اختزال لفكرة الله النازعة إلى ما قبل الدولة فإنها تشكّل في جوهرها حركة استئناف على العولمة ومفاعيلها ـ كالقاعدة من قبل. ومثل القاعدة وداعش قوى أخرى في الشق الغربي من الدولة. فالحركات الانفصالية على خلفيات مختلفة تشكّل وجها من وجوه السعي إلى الاستئثار بحصص الأسد من فكرة الدولة وتركتها. ويظلّ هناك فارق بين سعي بالاستفتاء الشعبي وآخر بالخناجر والاتجار بالنساء والجواري. بمعنى أن الدولة القومية الغربية على تحولاتها أفلحت في الجتْمعة وفي إكساب المواطنين آليات ومهارات حد الانفصال سلميا أو بعنف محدود بينما الدولة الشرقية والعربية تحديدا أخفقت حتى في هذا. وبين هذا وذاك تستعرُ الحرب بين الشركة المعولمة وبين فكرة الله على الأرض فيما “الدول” والشعوب تناور بين هذه وتلك مرة كشريك ومرة أخرى كضحية.