«وأمّا اليتيم فلا تقهر»: العرب يتامى العصر
منصف الوهايبي
September 27, 2014
نتساءل، ونحن نرى الأخطار المحْدِقة بالعالم العربي كلّه وهو «الشرق» الأقرب إلى أوروبا، عن مصير هذا العالم ومستقبله، ولِمَ أخلف موعده مع الحداثة؟ ونكاد نسلّم بما قاله جون لاكوتير وغسّان تويني وجيرار فوري، بأنّ للتراجيديا التي يعيشها العرب ويعيشون فيها، جذورًا تاريخيّة. فقد كان ميلاد العالم العربي المعاصر، في نهايات القرن التاسع عشر أي ما يُسمّى بعصر النهضة. ومن عجيب المصادفات أو المفارقات؛ أن تظهر هذه النهضة، في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه الإيديولوجيا الصهيونيّة تلك التي سبقت هرتزل بكثير، خلافا لما هو مطّرد في كتب التاريخ. وهاتان الحركتان رأتا النور ما بين سنوات 1860 و1870؛ فلِمَ حقّقت إحداهما الأساسي من أهدافها (احتلال
فلسطين وبناء الدولة العبريّة)، على حين قضت الأخرى عمرها بين الإحباطات والخصاص واليأس؟
التاريخ كما يقول لاكوتير حافل بالمواعيد الخاطئة، وأوروبا نفسها أخلفت هذا النوع من المواعيد، ابتداءً بأوروبا الرومانيّة التي لم تفهم جيّدا العالم الجرماني. أمّا نحن فلا نزال على ما يبدو»ضحايا» العلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب ـ على سذاجة هذا التصنيف أو التفريع الثنائي الفجّ ـ المحكومة بكثير من الأساطير. وإنّ للأساطير جلدًا سميكًا ثخينًا لا يشفّ ولا يلين، مهما جاهد هذا أو ذاك من أهل الجنوب أو الشمال؛ في أن ينزع إلى صميم هذه العلاقة، ويخلص إلى دخائلها، ولا يقف عند حدودها البادية الخادعة. أساطير رسّخها أهل الفكر والفنّ، قبل أن يتلقّفها أهل السياسة والإعلام؛ وهم أوسع حيلة وأدرى بأساليب الإغراء وطرائق التأثير. أساطير متهافتة خلب كثيرا منّا بريقها، ونحن تلاميذ؛ ثمّ طلاّب في الجامعة نترسّم آثار كتّاب أوروبا، في رحلاتهم إلى الشرق؛ ثمّ نعود لنتقفّى آثار كتّاب العرب في رحلاتهم إلى
الغرب. غير أنّ أكثر ما يتبقّى، بعد أن يطوي النسيان كلّ شيء، دعاوَى وأوهام وسمعيّات مقرّرة. فهذا «شرقيّ» يجمع في نفسه بين الروح والطبيعة، وينزع إلى الحقّ الكامل والجمال الكامل والخير الكامل؛ ولا يتردّد في الاعتراف بشوابك القرابة بينه وبين الطبيعة، وبأنّ هذه الدنيا، بخيرها وشرّها، هي خير دنيا ممكنة. ودونما حاجة إلى الاعتقاد في كمال الآلهة، ننسى أنّ النقص في الأشياء، هو قادح الرجاء في ما يأتي، وفي صيانة الحياة وتطوّرها. فالنقص مقصود؛ حتى لا يُشبَع الفسادُ الأبديّ فسادَ الحلم. وتنضاف أوهام وخيالات أخرى، فهذا «الغربيّ» إنّما نشأت حضارته في المدن؛ وكأنّ حضارات الشرق القديم نشأت في الفيافي والقفار، أو بين أحضان الغابات الفيحاء، كما يزعم طاغور في حديثه عن حضارة الهند. ولذا ترى هذا «الغربي» على ما يزعمون؛ يجاهد الطبيعة ويسعى إلى إخضاعها وتسخيرها، وكأنّ كلّ ما هو كمال إنسانيّ، وكلّ ما هو نقص أو فساد، محسوب على الطبيعة، أو كأنّ الله المتجلّي في»ابنه المسيح» ـ وهذه ليست أكثر من أبوّة استعاريّة أو استعارة أبويّة ـ يقود الإنسان ضدّ الطبيعة. وما إلى ذلك من أوهام وأساطير لفـّقها الظنّ ووشّاها الخيال؛ حتى أنّنا ننسى أنّ القرآن يسبغ على المسيح قداسة قلّ نظيرها؛ وهو الذي جعله ينطق في المهد، ويعرج عند الصلب إلى الملكوت. أساطير كثيرة هذه التي تفصل بين عالم الشرق وعالم
الغرب، وقد ازدادت ضراوة بعد فاجعة البرجيْن 11 ايلول/سبتمبر؛ وهي عمليّة إرهابيّة بشعة، مهما يكن الموقف الأمريكي الرسمي من قضايانا العادلة، وليست كما يتوهّم المرضى دينيّا من بني قومنا، الذين يرون فيها صورة من بيت أبي تمّام في فتح عمّوريّة أيّام المعتصم:
رمَى بك الله بُرجيْها فهدّمها / ولوْ رمى بكَ غيرُ الله لمْ يُصِبِ
وقد خلقت من بعضنا ومن بعضهم، متعصّبين متهوّسين «أفلحوا» في إعادتنا إلى خطاب بائس كنّا نخاله ولّى واندثر. أعني خطاب «الخير والشرّ»، وما يندرج تحته ويُطوى في ثناياه، من مفاهيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان والحرّية ـ وهي ليست منه ـ ولكنّها تتحوّل بعصا سحريّة، إلى ذريعة للقتل والنهب والتدمير؛ وعالمنا في مأزق ضنك وموقف فاصل. وما بين هؤلاء وأولئك، يضيع «الخير» و»الشرّ»، وتمّحي الحدود والفواصل بينهما؛ وكأنّ الخير شرّ أبيض، والشرّ خير أسود، وكأنّ الإنسان ذئب الإنسان. هذا يأكل لحم أخيه بالشوكة والسكّين، وذاك ينهش لحم هذا بالأسنان والأظافر.
يقول لاكوتير إنّنا، وإن كنّا على حقّ، في انتقاد إخفاق العرب، فينبغي أن نُقرّ بأنّنا نحن الغربيِّينَ نتحمّل مسؤوليّات كبرى في هذا الموعد الضائع،»فنحنُ لم نأت إلى هذا الموعد مع العالم العربي؛ ونحن نحمل غصن الزيتون». وها هو موعد آخر يقترب، ولا غصن زيتون يلوح في الأفق؛ بالرغم ممّا تعيشه بعض بلداننا؛ في ظلّ تحوّلات «الربيع العربي»، من صور»ديمقراطيّة» فاقع لونها، و»حرّية» غير معهودة حتى في أمريكا نفسها.. حريّة في تأسيس الأحزاب وإصدار الصحف… ولكنّنا تعلّمنا من الرياضيّات أنّ خير تعريف لـ (+1) هو (-1)، فالتضادّ بينهما إنّما هو تضادّ في الترتيب؛ لأنّ الواحد الزائد متقدّم على الصفر، والواحد الناقص متأخّر عنه. وإذا جمعنا بينهما في أحد طرفيْ المعادلة تساقطا وزالا.
منصف الوهايبي