الحقيقة أنّ قراءة أدبيّات الإسلام السياسيّ تثير إشكاليّات وأسئلة متعدّدة في الذهن. من ذلك سؤال السعادة الفلسفيّ. ما هي السعادة أوّلا؟ “ما هو في حكم البداهة هو أنّ كلّ امرئ يسعى إلى أن يكون سعيدا بحيث تبدو السّعادة هي المحفّز لكلّ أفعال البشريّة.” (منصف الوهايبي، مقال: ما جدوى أن يكون المرء سعيدا، الأوان، 10 كانون الثاني/ يناير 2010) هذا كلام موضوعيّ عام لابدّ من تنسيبه، والمدخل إلى ذلك هي عبارة “أفعال البشر” في آخر الجملة. فالإنتاج الزراعيّ فعل بشريّ وبناء ناطحات السّحاب فعل بشريّ واستئصال الأورام من أجساد النّاس فعل بشريّ وتأليف السمفونيّات الخالدة فعل بشريّ، كما أنّ التفجير الانتحاريّ ورجم النّاس وقطع أعضائهم واغتيال المناضلين والزعماء والعمل على إجبار المجتمع على السّير القهقرى أفعال بشريّة أيضا! وبهذا المعنى فأصحابها جميعا يطمحون إلى السّعادة.
طيّب، منصف الوهايبي عرّف السّعادة بأسبابها باعتبارها المحفّز لأعمال البشر. ولكنّ إيديولوجيا الإسلام السياسيّ تعرّف السعادة بنهاياتها ومآلها. ومنهجها في ذلك الخروج بالمفهوم من مجاله البشريّ الدنيويّ إلى المجال الآخرويّ الغيبيّ، يعني من العاجل إلى الآجل، من الحاضر إلى الغائب. وهذه العمليّة مهمّة بل أساسيّة في الإيديولوجيا الإسلامويّة إذ هي المدخل المنهجيّ الضروريّ الذي لابدّ منه لعمليّة الدمغجة. وهي تتمثّل في إعداد الإسلامويّ إلى فعل القتل أو التفجير.
يعيد منصف الوهايبي طرح تساؤل الفيلسوف الفرنسيّ بلاز باسكال (Blaise Pascal) (1623 – 1662) حول ما إذا كانت السّعادة يوطوبيا بعيدة المنال أم أنّها في متناول اليد وحول ما إذا كان أحد الافتراضين هو صانع الشقاء البشريّ. يقول: “هل إنّ اليوطوبيّات تجعلنا أشقياء لكون السّعادة هذا الذي لا ينفكّ أبدا يتباعد عنّا في الأفق أم هل إنّنا أشقياء لأنّنا لا نستطيع أن نرى السّعادة ضمن ما هو في متناول اليد؟”
نعم، هذا يدعو إلى التفكير. كيف يمكن لتنظير الإسلامويّ أن يقنع المريدين بأنّ السّعادة قريبة في بعدها وبعيدة في قربها؟ بمعنى كيف يتمّ إقناع المريد الإسلامويّ بأنّه يمكن أن يحقّق السّعادة رغم أنّه لن يعيشها فعلا في الدنيا؟ يعني لابدّ من إقناعه بأنّ السعادة تكون بإنهاء حياته وحياة غيره معا. فالسعادة بهذا المعنى ليست تلذّذا بالحياة وإنّما هي صنو الموت. بهذا المعنى يصبح الموت هو المطلب الرئيسيّ.
وهذا أوسع من مفهوم الجهاد بل أبعد بل هو متعارض معه لأنّ غاية الجهاد في بداية الدولة الإسلاميّة في عصر الفتوحات هي الغنم والكسب وملء بيت مال المسلمين بالمال. فلا يذهب المجاهد في سبيل الله ليموت وإنّما ليعيش ويكسب الثروة في لوقت نفسه الذي ينسر فيه الدعوة. أمّا في إيديولوجيا الإسلام السياسيّ فالسّعادة هي الموت والقتل والتشرّد في الجبال والصحارى والوقوع تحت نيران المدافع والصواريخ. ببساطة السعادة في الإيديولوجيا الإسلامويّة هي “سعادة الموت” ليس بالانتحار وقتل النفس فقط وإنّما بقتل الآخرين مع النّفس. وقتل النّفس ليس الغاية وإنّما الأسلوب والطريق لقتل الآخر. فقتل النفس هنا عرض وقتل الآخر جوهر. فلا ضير عندهم من قتل النفس من أجل تحقيق هدف قتل الآخر.
ما هو أسلوب الإيديولوجيا الإسلامويّة في ذلك؟ كيف يمكن استلال شابّ في مقتبل العمر من حياته اليافعة المليئة أحلاما وعنفوانا واستبدالها عنده بإيديولوجيا الموت المضاعف؛ قتل الآخر وقتل النفس؟ الدمغجة هو الأسلوب الذي يجعل التفجير سعادة والقتل سعادة وقطع الأعضاء سعادة. لابدّ أن يقتنع المدمغج بذلك فتطوّع لذلك الفعل. بل إنّه يمنح جسده لهذه السعادة إذ في أغلب الأحيان يكون قتل الآخر بقتل النفس في حالات التفجير الانتحاريّ. فالسعادة بهذا المعنى هي مرادف الإرهاب في الأعراف الإعلاميّة والسياسيّة. ولكنّها استشهاد في سبيل الله في إيديولوجيا الإسلاميّين إخوانا وسلفيّين جهاديّين لا فرق. وتوحّدهما في المنهج والديموغوجيا واضح الآن في مصر بعد إسقاط الشعب المصريّ لحكم الإخوان في 30/6 2013.
إنّ قراءة بعض الأدبيّات الإخوانيّة الإسلاميّة تتيح إمكانيّات هائلة في تمثّل مفهوم سعادة الموت عندهم، من ذلك كتاب حسن البنّا “مذكّرات الدّعوة والدّاعية (مكتبة آفاق للنشر والتوزيع، الكويت، ط1، 2012) وكتاب سيّد قطب”معالم في الطريق“(دار الشروق، بيروت، الطبعة الشرعيّة السّادسة، 1979) خاصّة. فهذا الكتابان هما المؤسّسان الفعليّان للإسلام السياسيّ. وهما المرجعان الأساسيّان له. وهم سبب ابتلاء العالم بالإرهاب الجهاديّ في أجزاء كثيرة من العالم.
لهذا تغلب على كتابيْ سيّد قطب وحسن البنّا رؤية سوداويّة تنظر إلى العالم باعتباره جملة من الشرور والمهاوي لا يصلح لحياة المتبتّلين الطاهرين. وليس الفساد في أصل العالم وإنّما المفسدون هم من أفسدوه ولذلك وجب فيهم حكم القتل. فالقتل عندهم تطهير. ولا بأس في تطهير العالم من تطهير النفس من الدنس. ومأتى المفاسد كثير. من ذلك الغرب الكافر والعلمانيّون المتغرّبون في أرض الإسلام. ومن هنا تتسلّل إيديولوجيا القتل والتفجير عبر هذه الديماغوجيا. ولذلك يشترك كتابا البنّا وقطب في نفس الموقف من الغرب ومن الحداثة ومن التنوير والعقلانيّة.
فأوّل جملة يفتتح بها كتاب”معالم في الطريق“تبشّر بالهاوية. يقول:”تقف البشريّة اليوم على حافة الهاوية“(ص3). وليس سبب هذه الهاوية علميّا ولا مناخيّا ولا حتى سياسيّا وإنّما هو سبب قيميّ. يضيف قطب:”بسبب إفلاسها في عالم القيم التي يمكن أن تنمو الحياة الإنسانيّة في ظلالها نموّا سليما وتترقّى ترقّيا صحيحا“(نفس الصفحة). لاحظوا اشتغال قطب على القيم. هو لا يشير إلى مكاسب الحداثة الغربيّة أبدا لأنّها مليئة بالقيم البديلة المناقضة للرجعيّة والسلفيّة التي يحملها الإسلاميّون شعارا بديلا لقيم العصر.
طبعا العجز عن مجاراة العصر وعن تدارك التخلّف الفظيع عنه يكون سببا كافيا لشتم منجزاته وللتنديد بها من مدخل الفضيلة والرقيّ القيميّ بينما تكشف فتاواهم (الزواج العرفيّ/ زواج النكاح وغيرها من الفتاوى البذيئة التي تقطر شهوانيّة وغلمة) تماما كما يكشف كتاب د. رفعت السعيد”الإخوان المسلمون في لعبة السياسة“وكتاب الإخوانيّ المنشقّ ثروت الخرباوي”قلب الإخوان" عن أنّ الإخوان لا علاقة لهم بالفضيلة. وإنّما كانوا تيّارا دينيّا سياسيّا براغماتيّا ميكيافليّا متلهّفا على السّلطة كلّ الوسائل مبرّرة عنده من أجل تحقيق غاياته.
الحلّ لمشكلة القيم المعاصرة في الإيديولجيا الإسلامويّة يكمن في الإسلام، ولكن ليس الإسلام المعاصر كما نعيش به ويعيش معنا وإنّما إسلام السلف، الإسلام الأوّل الذي يعجزون عن تحديده بالضبط. فالسّعادة في الإيديولوجيا الإسلامويّة هي صنو القتل؛ قتل الآخر فردا وجمعا، القتل الذي يمرّ بقتل النفس وتبديد حقّها في الحياة؛ الحقّ الذي منحه الله للإنسان وطالبه بالحفاظ عليه مرضاة له. ولكنّهم يبيدون هذا الحقّ مرضاة لنزواتهم وحقدهم على العصر وقيمه وحداثته وسعادته.