ألجأني جرحٌ عاطفي إلى قراءة خفيفة أتلهى بها: قراءة بلا “أنياب” تنكأ روحي المثخنة، فوقع اختياري على كتاب “بين الكتب والناس” للعقاد...
العقاد كاتب يرتكب من المعرفة الموسوعيّة ما لا سبيل إلى غفرانه... ولئن كان تعريف موزيل أن “رجلا بلا صفات هو صفات بلا رجل” فليكن تعريفي أن “معرفة بلا تخصّص هي تخصّص بلا معرفة”... بينما عيناي تدرج عبر الصفحات تتقافز من لذة التنقيب في أغوار “سطحيّة” المعرفة الموسوعيّة، هالني مقال بعنوان “العدد 13” يستهله العقاد قائلاً "تعودت أن أتحدى خرافات التشاؤم على اختلافها ولا سيما خرافة التشاؤم بالعدد 13 لأن التشاؤم به يتكرر في مناسبات كثيرة ويتفق عليه الغربيون وطائفة من الشّرقيين.
فسكنت في منزل رقم 13 واخترت نمرة التليفون مبدوءة برقم 13 وتعمدت غير مرة أن أسافر في اليوم الثالث عشر من الشّهر كلما كان أمر السّفر موكولاً إلى اختياري“... وهنا صرخت”وجدتها“... هوذا تناقض يحدق سافراً بين الأسطر يُمكن تسميته بتناقض التّحدي... العقاد يقرر أن يتحدى الخرافة بأن يأتي من دقائق السّلوك ما هو صورة سلبيّة”نيجاتيف“للخرافة، فبدلاً من أن يصير دُمية في يد الخرافة صار مرآة للدُمية: مرآة تجتر نفس حركات الدُمية عكسياً... تناقض التّحدي من تنبع جُل اختياراتهم من تحديها... سيان أن يأتي سلوكك وفقاً لخرافة أو مضاداً لخرافة، المحجة واحدة لكن الاتجاه –فقط- هو الذي اختلف... العقاد هنا يتحرر من عبوديّة”العدد 13“بأن يصيرَ رقاً ل”تحدي العدد 13"...
جوهر خرافة العدد هو أن تجيء انفعالاتك -وما يعقبها أو يلازمها من اختيارات- مرهونة بعدد، بغض النظر عما إذا كان الرهن إذعاناً أم تحدياً... العجيب أن العقاد الذي تحدى تيار الخرافة الموار بعضلات إرادته الصلدة “كلما كان الأمر موكولاً له”، يعود فيقرع توفيق الحكيم في مقال آخر من نفس الكتاب ويتهمه بأن مجالدة حب المال تشير إلى تجذر هذا الحب من وجدانه قائلاً: “لولا الصراع لما كان هناك تيار ولا كانت هناك حاجة إلى العضلات القويّة، فإنما يحتاج إلى العضلات القويّة مَن وقع في التيار وما أبعد المسافة بين المصطرعين والمجروفين في التيار وبين الناظر إليهم من عل دون أن يخوض فيه أو يعوم”؟ هل كان على العقاد أن ينزع الخشبة التي في عينه قبل أن يتهم القذى الذي في أعين الآخرين؟...
تناقض التّحدي آفة تمتح عصارة قوتها –وإغرائها- من رغبة المرء في أن يواجه خصومه بفعل إيجابي صاخب: أحياناً تكون أشقى الأفعال ألا تفعل شيئاً... تناقض التّحدي هو الهزيمة التي تعقبها المعركة... حينما ينتقي لك خصمك ساحة المعركة ونوع السّلاح وساعة الصّفر، فلا حاجة لك في المعركة لتبادر بإعلان هزيمتك النكراء... مثال: مشاريع النهضة العربيّة الفكر-دينيّة في مهد القرن العشرين وُلدت ميتة لأنها جاءت كأجوبة مشحوذة تتحدى أسئلة أمضى منها شهرها الخصم في وجهنا العربي، بادرنا إلى تحديها دونما تفكُّر منا في تحليلها أو التغافل عنها أو السّخريّة منها فلم تستبطئ الهزيمة مشاريعنا المفخخة بالتّناقض: أن تترسم ذاتك عن طريق أجوبة تتحدى بها أسئلة خصومك!...
وما ينسحب على مشاريعنا النهضويّة المجهضة يسري ناقعاً في شرايين مشاريع الانتصار للمرأة حيث تسقط المرأة في فخ التّناقض نفسه: تتحدى التراتبيّة الذكوريّة بأن تُفرط في الانسلاخ عن قيمها الأنثويّة لتكون على قمّة الهرم الذكوري!... الانتصار ليس أن تطرح الخصم أرضاً بقبضة أشرس من قبضته فتكون كظلٍ استطاع أن ينتصب... الانتصار هو ألا ترى خصمك محض الخصم بل هو “آليات العراك” التي يتبناها، كيلا تكونا –أنت وخصمك- ظلين منتصبين لخصم خفي لا تدركه أبصاركما لما تغشاها من غبار العراك...
في أحد سوانحه الشّعريّة يقول “ليوناردو أليشان” لحبيبته أنها كالتحفة الخزفيّة النفيسة وأن حضنه كالقش الذي يطوقها... كم هي رائعة هذه الاستعارة: أن تذود عن تحفتك النّفيسة بأن تكون قشاً يكتنفها... بيد أن المُصاب بتناقض التّحدي سينشد قائلاً: حبيبتي أنتِ كالتحفة الخزفيّة النفيسة وهذا أنا أدفع عنك الأخطار المحيقة مستعيناً بهراوتي الطائشة... من البديهي أن ينحني بعدها ليلملم أشلاء محبوبته الخزفيّة التي محقتها هراوته في سَورة الغزل... من الخطل أن تحرس وردتك قابضاً على منجل لأن الأعداء يحملون المناجل...
أقبح ما يُضمره “تناقض التّحدي” هو افتقار فريسته إلى الشّرط الضروري لكل فعل إنساني مبدع: التأمل... عندما تمنح خصمك التّحدي فإنك تسلب ذاتك التأمل... لا تنتظر ثمراً من أرض تحرثها أسياف المتبارزين، فلا تربة خصبة سوى أرض العزلة المتأملة... ستقضي سغباً في تحديك ولن يُمسك رَمقك ما تلتهمه من تيجان الغار المزدانة بأشرطة الذهب، في تناقض التّحدي كل الأطراف طُعمة للنسور النهمة... ولا ترياق لهذا التّناقض العبثي سوى اللامبالاة... اللامبالاة هي التّحدي الذي يلقي عن كاهله نير التّناقض... اللامبالاة هي الوضع الأوحد الذي تستطيع أن تمزج فيه بين التّحدي والتأمل... اللامبالاة هي التّحدي الذي حاز من الحكمة ما يجعله يتجرد مما لا لزوم له من أسلحة توهنه وتستنزف قواه بوطأة ثقلها: مكتفياً من الجرأة بما يكفيه لتحدي نفسه... حينما يلطمك خصمك على خدك الأيمن حوِّل له الآخر “لامبالياً” ودَع المتنبي يلطم أذنيه عبر شفتيك:
رماني الدهرُ بالأرزاء حتى... فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
فصرت إذا أصابتني سهامٌ... تكسرتِ النصالُ على النصالِ
وهان فما أُبالي بالرزايا... لأني ما انتفعتُ بأن أُبالي
جاء أحد المريدين إلى قطبه الغوث منتشياً بانتصاره على ما لاقاه في الصحراء من مشتهيات، سرد المريد –مطنباً- قصته البطوليّة التي استطاع في حنايا حوادثها أن يتحدى غرائزه وأن يكبح سُعار نفسه ويمنعها التهالك على المغريات التي صادفته... فما كان من القطب الغوث سوى أن أطرق محزوناً لتستحيل نبرة المريد المتخايلة إلى صمت مشدوه... بعد بُرهة همس القطب لمريده: كم أنت بعيد يا بني عن الانتصار على المشتهيات، ما دام قلبك يصارعها فهو مسكونٌ بأشباحها: ستكون قد تخلصت من أرجاس الشّغف بها حينما لا يكون بمقدورك تمييزها عن رمال الصحراء، حينما تعبرها دون أن تلاحظها، دون أن تكون مضطراً إلى أن تتحداها...
أغلب خصومك اكتست عظامهم البالية باللحم الموفور، فقط لأنك تحديتهم فوهبتهم نصيباً من خبز ذهنك ورشفات من نبيذ عرقك... لذا فأغلبهم يستحيلون رماداً حينما تُلقي بهم في جعبة “ما لا أُباليه”