ثمّة مفارقة ساخرة أخذت تطلّ برأسها في هذه الأجواء الغريبة بعد تبيّن فشل حكومات الثورة: أنّ أعداء الأمس قد صاروا الملاذ الوحيد المتبقي للشعوب.- إنّه “الأمنيّون”. فجأة وقع تحوّل مثير في مفهوم “الأمن” وفي صورة “الأمني” : هو لم يعد على ملك الدولة “الأمنية” للحاكم الهووي. بل عاد ليسقط هذه المرة على الوجود اليومي والهشّ لشعوب متعبة بالثورة ولا مخرج لها من هذا المأزق إلاّ بأن تتخذ القرار المرّ الذي بات مزعجا أكثر من أيّ وقت مضى: هل قامت فعلا بثورة أم لا؟ !! وذلك يعني: هل هي مستعدّة مرة أخرى لتحمّل المسؤولية التاريخية المؤلمة للانتقال من عالم الدولة الأمنية، حيث كان الشعب غير مسؤول تماما عن مقاومة أعداء الدولة، مهما كان نوعها، إلى عالم الدولة المدنية، حيث صار الشعب يمسك بزمام المبادرة التاريخية حول حريته ومصيره.
لا يمكن إنكار ما أخذ يظهر من ندمٍ ما بعد ثوري: أنّ الدكتاتورية كانت فراشا مريحا للحياة اليومية التي لا دخل لها في الدفاع عن وجود الدولة. ولأنّ الحاكم الهووي كان يستأثر بالدفاع عن الدولة فقد كانت الشعوب تعتبر منها معفيّة من المهامّ الأمنية، فهي من شأن الحاكم، وفي الأغلب الأعمّ هو يحتكرها من أجل استخدامها ضدّ إرادة الشعوب وحريتها بالأساس. لكنّ ما وقع بعد “الثورات” العربية هو أنّ هذا الحاكم الهووي لم يعد موجودا، ولا يمكن لأحد تعويضه. ولذلك من المثير للشفقة التاريخية أن ننتظر الآن من أيّ “زعيم” سياسي أن يأخذ “مكان” الدكتاتور. إنّ مكان الدكتاتور لم يعد موجودا أصلا. وذلك لأنّ الدولة الأمنية التي بناها حول نفسه هي نفسها لم تعد ممكنة.
نحن نوجد الآن في مساحة تاريخية وسطى، مزعجة ومبهمة ومثيرة، بين دولة سقطت ودولة لم تقم بعد: بين فترة الدول الأمنية، الهووية، التي تحتكر العنف المشروع وتعفي الشعوب أو “السكان”، من مهمّة تحقيق “الأمن” لأنّه بالأساس ليس أمن الشعوب بل هو “أمن الدولة”،- وفترة الدول المدنية، الديمقراطية، التي يكون على كل مواطن فيها أن يشارك في تسيير الفضاء العمومي لحريته من خلال التزامه الحثيث بقضايا المجتمع المدني الذي ينتمي إليه.
لكنّ ما يضفي هشاشة خاصة على هذه الفترة الانتقالية بين نمطين من الدولة هو ظهور طمع سياسي وقح وشرس تمثّله كل أجهزة التشريع التقليدية من أجل أخذ مكان الدولة الأمنية والاستعاضة عنها بنمط غير حديث تماما من الحكم: إنّه حكم “الملة”. وليس “الأمة” كما يظنّ البعض في خلط مريب بين المفهومين. إذ لا يخلو وجود أيّ شعب من شعور ما بالانتماء إلى “أمة”، بل هذا النوع من الانتماء هو الرحم الروحي لأيّ هوية ثقافية في صحة جيّدة. لكنّ حكم الملة هو شيء آخر: إنّه الوهم السياسي-اللاهوتي بامتياز. الوهم بأنّ الدولة شأن ديني، خاص بجماعة روحية معيّنة، وبأنّ المحكومين هم جماعة المؤمنين تحت سلطة أولي الأمر منهم. طبعا، كان لهذا التصوّر طرافته “السياسية” في عصور أخرى: خلق “دولة” استخلافية جبارة ووفّر “أمنا” سلطانيا مثيرا للإعجاب.
لكنّ المؤمنين الذين كانوا يؤلفون “جماعة” الملة، قد عوّضهم “مواطنو” الدولة القانونية الحديثة. هنا تحوّل مفهوم الأمن من “طاعة” الحاكم إلى “احترام” القانون. – وبدأت تُطرح أسئلة مزعجة وغير بريئة من قبيل: هل نحن “مواطنون” ؟ ولِمَ ينزعج “المؤمنون” من ثقافة المواطنة ؟ وبكلمة جامعة: كيف نفهم وصف الأمنيين بعبارة “الطواغيت”؟
قال ابن جرير الطبري في التفسير (3/21) : “الصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله ، فعبد من دونه ، إما بقهر منه لمن عبده ، وإما بطاعة ممن عبده له ، إنساناً كان ذلك المعبود ، أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كائناً ما كان من شيء وقال أيضاً : وأصل الطاغوت .. من قول القائل طغا فلان يطغو إذا عدا قدره فتجاوز حده”.
إلى أيّ حدّ يمكن أن يصدق هذا التعريف على “الأمنيين” ما بعد الثورة ؟ يبدو الوصف السلفي للأمني بأنّه طاغوت وكأنّما يفترض أنّ سلطة الأمني “طغيان على الله” و“عبادة من دونه” و“قهر لمن عبده” و“مجاوزة لقدره”.
والحال أنّ الأمني يقف في دائرة تشريع “حديثة” أي لا تمت بصلة إلى المخيال السياسي للملة، ولا يمكن أن يُحكم عليه بمفرداتها. – إنّ المعضلة هنا هي هذه: كيف أمكن أن يتقاطع معجم الملة مع معجم الدولة الحديثة في جيل واحد أو في مواطنة واحدة وذلك إلى حدّ القتل وهدر دم رجال الأمن كأنّهم المسئولون الرسميون على الوجود المعاصر برمّته ؟ - يبدو أنّنا ظاهرة مثيرة للبحث أو رهط غريب تماما من البشر الذي أخذ يهدّد نمط العيش الحديث بما هو كذلك. إذ كيف يمكن أن يتبادر إلى ذهن شاب معاصر أن ينظر إلى رجل الأمن الحديث على أنّه “طاغوت” أي على أنّه “معبود” أو “شيطان” أو “وثن” أو “صنم” يطغى على الله أو على أهل الله في أرض ما ؟ كيف نفهم هذا الاستهداف اللاهوتي للأمني الحديث؟
ربما كان “الأمن” هو أكبر المكاسب التي جناها الفرد / المواطن من الدولة الحديثة. وبعد فترة طويلة من الابتزاز الأمني الذي مارسه الحاكم الهووي على “السكان” في إقليمه “الأمني”، جاءت الثورات وخلقت وضعا تأويليا جديدا لمعنى الأمن: لم يعد الأمن منحة الحاكم للمحكومين مقابل سكوتهم العمومي عن سلطته “الشرعية” بطرق “غير مشروعه” من انقلابات أو انتخابات مزوّرة أو وراثة عابرة للأجيال، بل صار الأمن ضرورة حيوية لحماية البشر ممّن يبطش بهم ويحوّلهم إلى مرعوبين نسقيين من “الآخر” اللاهوتي الذي ظهر فجأة فوق رؤوسهم. والمفارقة هي أنّ “الإرهابي” يساعد الدولة اليوم على أن تصبح “أمنيّة” أكثر من أيّ وقت مضى. بقي أن نتساءل: هل لدينا موطنون قادرون على حماية الدولة نفسها من تنشيط إرثها الدكتاتوري والنكوص إلى مرض الاستبداد المبرّر دائما بــ“الخطر الداهم”، وهو دوما عدوّ خارجي أو غريب أو غير مسبوق أو لا يمكن التفاوض أو التصالح معه. و“الإرهاب” يوفّر اليوم لأيّ حكومة مناعة أخلاقية ضدّ أي اتهام بمصادرة الحريات بل حتى مصادرة الثورة نفسها.
من يقتل الأمني لمجرد أنّه أمني هو يضع مفهوم الأمن في تناقض إنجازي غير مسبوق: كيف نقتل من يوفّر الأمن ؟ - قتل الأمني هو إلغاء العقد الاجتماعي للمجتمعات الحديثة بوصفه عقدا باطلا. إنّ “الإرهابي” الذي يستهدف رجل الأمن هو لا يطبّق جزء فقط من مخطّط سوف يشمل قطاعات أخرى، بل هو يذهب رأسا نحو بنية وجود الدولة الحديثة: البنية الأمنية، أي الاحتكار القانوني للعنف. وبالتالي فالقصد هو تدمير بنية الدولة الحديثة وليس تقسيم العمل “الإرهابي” على مراحل.
هل هي فرصة تاريخية للأمنيين كي يتصالحوا مع شعوبهم؟ أم أنّ ما يدافعون عنه اليوم ليس “الشعب” بل “الدولة”؟ ومن ثمّ أنّ طبيعة العقيدة الأمنية للدولة الحديثة لم تتغيّر ؟ أيّ منزلة للأمنيين من دون أو بعد الدكتاتورية؟
إنّ المأمول هو أنّنا اليوم نعيش ظهور أوّل جيل أمني بالمعنى المدني، حيث تحوّل عمل الأمن من احتكار العنف المشروع، الوظيفة الرسمية للأمن الحديث، إلى حماية شكل الحياة الحديث باعتباره مكسبا إنسانيا صار مهدّدا في الصميم. بهذا المعنى تحديدا لم يعد الأمني محايدا من الناحية السياسية. إنّه في واقع الأمر قد وجد نفسه يدافع عن نمط عيش دون آخر. وبهذا المعنى تحديدا أمكن وصفه بعبارة “الطاغوت”. الطاغوت هو كل من يفرض معبودا دون آخر بواسطة القهر. ومن الناحية العمودية كلّ ثقافة هي تحمل بذرة الاتهام بأنّها “طاغوتية” أي تحتمل طغيانا هوويا ما على ثقافة أخرى، وبالتالي فإنّ النزاع لن يجد مخرجا أخلاقيا أو معياريا مناسبا إلاّ إذا قبلت الأطراف المتنازعة أن تنتقل من دائرة العلاقة العمودية بنفسها – أنّها واحدة ووحيدة – إلى دائرة العلاقة الأفقية بغيرها- أنّها ثقافة من بين ثقافات “عديدة”، “أخرى”. من دون “تعدد” و“آخرية” كل ثقافة ستكون طاغوتا على أي ثقافة أخرى.
من هنا لا يمكن أن نفهم الوظيفة النبيلة للأمن- أي حماية الحياة البريئة من أي رعب يهدّدها- إلاّ إذا نجحنا في إقناع “المؤمنين” بأنّهم مجرد “مواطنين”، وليسوا أوصياء على شكل الحياة الذي يرتضيه “شعب” ما لنفسه. إذ لا يمكن لأيّ “جماعة” أي تعلو على إرادة الأحياء من أجل إدخالهم إلى أيّ “جنة” مفترضة. وليس ذلك لأنّ الجنة لا وجود لها، بل فقط لأنّ الطريق إلى أيّ جنة، مثل الخروج الأصلي منها، هو طريق الحرية، حرية الشر والخير على حدّ سواء. وليس من معنى آخر لمغامرة “الآدمية” (في أفق التوحيديين) إلاّ حرية المصير. وليس “الله” غير “من” هدى البشر نحو هذه الطريق. وما عدا ذلك لا يمكن أن يكون إلاّ “الطاغوت”.