في طريق عودته من الحفل الديني، التقى سقراط (سنة 404 قبل الميلاد) زميله (بوليمارجس)، ثم ذهبا الى منزل (سيبولس) حيث ناقش الثلاثة مسألة العدالة. سيبولس وبوليمارجس اعطيا تفسيراً تقليدياً للعدالة لم ينل قبول سقراط. اما تراسيماكس دخل النقاش معلناً ان العدالة هي مجرد خدعة تهدف الى تعزيز مركز القوي. العدالة الحقيقية هي لفائدة الأقوى. سقراط يحاول الرد على تريماكوس لكن الاخير لم يقتنع. الكتاب الاول من "الجمهورية" ينتهي عند هذه المسألة، اما المتبقي من الكتب التسعة تتألف من حوارات سقراط مع غلاكون و ادمينتس والتي طرح فيها تعريفاً قوياً للعدالة. بدأ غلاكون Glaucon بتحدّي سقراط بطرحه هذه الفرضية: كل الاشياء الجيدة مرغوبة لسبب من الاسباب التالية: 1- لذاتها وليس لنتائجها، مثل عدم الألم واللذة. 2- لنتائجها وليس لذاتها، مثل الدواء او النقود. 3- لإجل ذاتها ونتائجها، مثل المعرفة والصحة. بعد ذلك بدأ غلاكون بتوجيه السؤال لسقراط مطالباً اياه ان يحدد مكان العدالة في اي من الاصناف الثلاثة.. غلاكون وادمينتس طالبا سقراط ان يثبت ان العدالة هي جيدة بذاتها. الناس الذين يتصرفون بعدالة هم عادة لخوفهم من العقوبة، فاذا لم تكن العدالة خير بذاتها، وكان بإمكان الناس ارتكاب الاخطاء دون مواجهة العقوبة، عندئذ سوف لن يكون هناك سبب لعدم التصرف بلاعدالة. وبدلاً من ان يجيب سقراط مباشرةً على اسئلتهم، هو اقترح جمهورية مثالية فيها يستطيعون تحديد الدور الذي تلعبه العدالة في هذه الجمهورية. طرح سقراط مبدأ التخصص، بموجبه يمتلك كل مواطن دوراً محدداً يلعبه في المدينة. المدينة تحتاج الى منتجين ينتجون الطعام والكساء، بالاضافة الى طبقة الحراس الذين يحمون مصالح الدولة. هؤلاء الحراس جرى إعدادهم طبقا لبرنامج شاق في التعليم يؤكد على اللياقة والشرف والحكمة. هم حُجبوا عن المؤثرات السيئة مثل الاساطير التي تصور ارتكاب الآلهة للرذائل، لكي لا يصبحوا قساة او مترفين. افضل الحراس يتم اختيارهم كحكام بينما الآخرين يصبحون احتياطاً يعملون كجنود. لكي يحافظ سقراط على هذا التركيب الصارم لطبقة المنتجين والاحتياط والحراس اخترع ميثالوجيا تجيزها الدولة لا تسمح للناس في الانتقال من طبقة الى اخرى. الحراك الطبقي ممكن فقط عندما يُصنّف الشاب ضمن طبقة معينة بإمكانات تتناسب تماماً مع مواصفات طبقة اخرى. سقراط حدد اربعة فضائل رئيسية في المظاهر المختلفة لهذه الجمهورية: الحراس يمتلكون الحكمة، المساعدون يمتلكون الشجاعة، والجميع يمتلك العدالة والاعتدال. وهكذا فان عدالة الجمهورية المثالية لا تكمن في اي جزء معين من الجمهورية وانما في هيكل وتركيب الجمهورية كله. وكما في المدينة العادلة، تنقسم الروح في الفرد العادل الى ثلاثة اجزاء، وان عدالة الروح تكمن في التركيب الصحيح لمجموع هذه الاجزاء. الروح لها جزء راغب يحب النقود والحاجات المادية الاخرى كما في المنتجين، وهناك جزء آخر هو الجزء الطموح الذي يرغب بالشرف، كما في المساعدين الاحتياط، والجزء الاخير هو الجزء العقلي الذي يرغب بالحقيقة كما في طبقة الحراس. ان الجزء العقلي الذي يتحكم في الروح العادلة هو الذي يضمن صحة جميع الاجزاء. طبقة الحراس تعيش حياة صارمة، وبما انها لا تمتلك النقود او الممتلكات المادية فهي تعيش بالارتباط مع الجماعة، يختار افرادها علاقاتهم الجنسية بالقرعة وهم عادة يتم فصلهم عن اطفالهم عند الولادة لكي لا تؤدي الارتباطات العائلية الى إضعاف الولاء للدولة. وفي حركة ثورية قياسا بذلك الزمن أعلن سقراط بعدم وجود سبب يمنع مساواة المرأة مع الرجل. ان الحراس هم من طبقة الملوك- الفلاسفة، ويجب ان لا يلتبس المفهوم مع الفلاسفة المعاصرين، الذين يُطلق عليهم "بمحبي المناظر والاصوات". هؤلاء المحبين للمناظر والاصوات ينجذبون فقط لمظهر الاشياء اما الفلاسفة الحقيقيين لديهم المعرفة بالأشكال اللامتغيرة والابدية التي تكمن خلف المظاهر. عالم المناظر والاصوات يتألف من اشياء هي في ذات الوقت منافية لذاتها، مثل المرأة الجميلة هي جميلة ولكن عند مقارنتها مع الجمال الاسطوري فهي ليست جميلة. ولذلك، فان الاشياء التي نراها ونسمعها هي اشياء للرأي او المعتقد، وهي ربما جميلة او غير جميلة. اما عالم الأشكال، مثل شكل الجمال هو ذو معنى مطلق، وهذه الأشكال هي موضوعات للمعرفة. ان أعلى معرفة يطمح لها الملك الفيلسوف هي معرفة شكل الخير. سقراط لم يستطع مباشرةً توضيح ماهية هذا الخير وانما أوضحه بدلاً من ذلك عن طريق عرض ثلاثة مقارنات: الشمس والخط والكهف. سقراط يدعونا لنتصور سجناء رُبطوا الى كهف. كل مايرون هو ظلال تتحرك على الجدار امامهم، وهي ظلال لتماثيل تتحرك الى الاعلى والخلف بينما لا يستطيع السجناء رؤيتها. هؤلاء السجناء يعتقدون ان الظلال حقيقية وهم كالشخص الذي يُغوى بالعالم التخيلي للقصص، لا يستطيع تمييز الحقيقة العليا. لو حُرر السجناء، سوف يتجولون ويرون ان الظلال التي تصوروها حقيقية هي مجرد انعكاس للتماثيل التي خلفهم. هم يعتقدون ان هذه التماثيل هي حقيقية، مثل الفرد الذي يظن ان عالم المناظر والاصوات هو اكثر الاشياء واقعية. السجناء ربما يتجولون خارج الكهف نحو العالم الخارجي. في البدء هم سوف يصابون بعمى الضوء، ولكنهم في النهاية سيرون كل العالم حولهم. اخيراً، هؤلاء السجناء ربما بإمكانهم النظر الى الشمس ذاتها وتمييزها كمصدر لكل الضوء ولكل الحياة. الشمس هي المقابل لشكل الخير: اذا كانت الشمس مصدر لكل شيء مرئي في العالم، كذلك شكل الخير هو مصدر لكل شيء في عالم الادراك. سقراط يدعو اصدقائه لتصور خط يُقسم اولاً الى اثنين ثم الى اربعة اقسام. الجزء السفلي يمثل العالم المرئي والجزء العلوي يمثل عالم الادراك intelligible realm. العالم المرئي يُقسم الى التصور والايمان، الايمان يُعتبر افضل من التصور تماماً كما في رؤية التماثيل افضل من رؤية الظلال. عالم الفكر يقسم الى الفكر والفهم، حيث الفكر يفترض وجود الأشكال بناءاً على العالم المرئي اما الفهم فهو يدرك شكل الخير كاول مبدأ تبعته كل الاشياء الاخرى. تعليم الملوك- الفلاسفة هو مشابه لخروج السجناء من الكهف. عند الشباب، هم يدرسون الرياضيات لتعطيهم امكانية معرفة العالم المجرد الكامن خلف العالم المرئي. بعد تمرين فيزيقي شاق، يبدأون بدراسة الفلسفة ومن ثم الديالكتيك. وفي سن الخامسة والثلاثين، يمضون الخمس عشرة سنة القادمة بإدارة شؤون الدولة قبل ان يصلوا في النهاية مرتبة الملك – الفيلسوف عند الخمسين. هؤلاء الملوك- الفلاسفة هم مثل السجناء الذين يستطيعون رؤية الشمس، وحينها سيكون تأمّل شكل الخير هو أسمى اهدافهم. هم يجب ايضا ان يهتموا برعاية الجمهورية وتدريب الجيل القادم، تماما كما السجناء يجب ان يعودوا الى الكهف لمساعدة رفاقهم. وبما ان الحراس سيرتكبون حتماً بعض الاخطاء في الحكم، فان هذه الجمهورية المثالية سوف تتفسخ تدريجيا عبر اربعة مراحل من الحكومات المتدرجة في السوء: التيموكراسية، الاوليجارتية، الديمقراطية، والحكومة المستبدة. ونفس الشيء بالنسبة للرجل العادل يمكن ان ينزلق الى اربعة انواع من التفسخ والانحلال اسوأها هو الاستبداد. الناس الذين يفعلون اي شيء من اجل راحة انفسهم انما يعيشون كالطغاة، لذا فالذين يتبعون "مزايا القوي" لثراسموكس هم اسوأ جميع الناس. فقط الفلاسفة يعيشون حياة عادلة لأنهم وحدهم لديهم القابلية لإدراك ان السعادة الحقيقية تكمن في حب الحقيقة. كل السعادات الاخرى هي مجرد انقطاع او توقّف في الالم. الشعراء طُردوا من جمهورية سقراط لأنهم يصفون الكذب ويخاطبون المشاعر والغرائز الهابطة بطريقة تفسد الناس.لكن سقراط أسف لهذه الضرورة ودعا الآخرين لإقناعه بعدم طرد الشعراء. تحليل نظرية العدالة في "الجمهورية" ليست دليلاً عملياً كافياً لسياسة المستقبل، كون الكتاب احتوى على مجموعة من الاثارات الجريئة. هو ربما أهم عمل فلسفي على الاطلاق في الثقافة الغربية بسبب الرؤى المدهشة وغير التقليدية التي احتواها. فكرة مساواة الرجل والمرأة وان العدالة يمكن العثور عليها في هيكل الدولة وليس في افعالها كانت ثورية ايام افلاطون. حتى بعد الفين وخمسمائة عام لم تحاول اية دولة ممارسة عملية التعليم لخمسين سنة التي اقترحها للحراس او للحياة الجماعية البعيدة عن العائلة او التملك الخاص. ولكن في عرض هذه الافكار الراديكالية ضمن اطار الدولة المثالية، كان افلاطون يتحدانا في ايجاد اسباب لرفضها. لو اردنا تكذيب هذه المقترحات غير التقليدية، يتوجب علينا التفكير وبنفس درجة الابداع الذي اتبعه افلاطون في صياغتها. ان نظرية الأشكال لـ افلاطون هي العمل الاكثر اهمية ضد النسبيين امثال ثراسميكوس. الاخير يجادل بان الحقيقة والعدالة ليستا اكثر مما يقوله الأقوى بشأن وجودهما. افلاطون يستجيب بان ثراسميكوس وامثاله يرون كل شيء نسبيا فقط لأنهم التصقوا "بعالم الاصوات والمناظر "الذي يصنع خبرتنا الحسية. هذا العالم ليس هو الواقعي وانما ظلال للعالم الحقيقي الذي لا يتغير فيه اي شيء. حالات العدالة في العالم المرئي ربما نسبية، وما يبدو عادلاً لفرد ما هو غير عادل للآخر، ولكن شكل العدالة ذاته هو مطلق ولن يتغير. نسبية ثراسميكوس هي اذاً نتيجة لعدم رؤيته لكامل الصورة. ان نظرية الاشكال ربما تكون "نظرية" غير واقعية طالما نحن فقط امام مجازات واستعارات شديدة الايحاء، فهي ليست حججاً لإقناعنا. عندما استخدم سقراط لأول مرة فكرة وجود اشكال خالدة، غير مادية، غير متغيرة تكمن وراء عالم الظهور، كان غلاكون وادمنتس وافقا على ذلك دون نقاش. كل ما لدينا هو استعارات للشمس والخط والكهف، التي تترابط مع بعضها لتعطي تفسيراً مقنعاً لوجوب ايماننا بوجود الاشكال. وبما ان نظرية الاشكال هي جوهر النقاش في الجمهورية، وان افلاطون كان يشعر بعدم الحاجة لإثباتها، ذلك ربما يشير الى كسل فكري. غير اننا ربما نسيء الفهم عند النظر الى مناقشة الأشكال كنظرية تحتاج الى برهان. افلاطون يستخدم المجاز بدلا من الحجة في دعمه للأشكال، وهو ما يشير الى انه لا يسعى الى اقناعنا في مسألة معينة بقدر ما يسعى الى تغيير طريقتنا في النظر الى الاشياء. في الجمهورية، لم يكن وجود الاشكال استنتاجاً نصل اليه وانما اساساً يجب الانطلاق منه. ان افلاطون لم يعرّف ابداً شكل الخير، وانما يطلق عليه اسم المبدأ الاول. هذا المبدأ هو المكان الذي تبدأ منه سلسلة الاستنتاجات. فمثلاً، لو انا استنتجت " ان لا وجود للسيارة امام الدار"، ثم ان عائلتي يجب ان تكون خارج المنزل، وعليه لابد ان يكون البيت مقفلاً، لذا انا افضل البحث عن المفتاح تحت البساط الذي في مدخل البيت. ملاحظة "ان لا سيارة امام المنزل" هي المبدأ الاول. لو قلت " انا افضّل البحث عن المفتاح تحت البساط" سيسأل أحد ما لماذا؟ وانا اجيب " لأن البيت مقفل" وآخر يسأل مرة اخرى لماذا؟ وانا اجيب لأن الاهل خارج المنزل وهكذا. ان "لا سيارة امام الدار" هو مبدأ اول افتراضي لأننا نضع فرضية بافتراض صحة ذلك. يمكننا فلسفياً التحقق من هذه الفرضية بالتأكد ما اذا كانت عيوننا تقول لنا ما هو حقيقي. افلاطون يدّعي ان الاجابة على هذا السؤال تقودنا لإفتراض وجود الأشكال الكامنة في الخفاء والتي بدورها تقودنا الى شكل الخير. شكل الخير ذاته هو مبدأ اول غير افتراضي لأنه لا يمكن تبريره باي حقيقة او دليل آخر، هو الشيء الوحيد الحقيقي بذاته. وعليه فان وجود شكل الخير والاشكال عامة ليست اشياءاً يمكن المحاججة فيها. فقط بمقتضى شكل الخير يمكن بناء اساس للنقاش، وبدونه لا يمكن تبرير اي استنتاج، وبذلك فان طلب سبب لإعتقادنا بشكل الخير هو كمن يضع العربة امام الحصان. ان الجمهورية تضع عدداً من التوصيات لتفضيل الحكم السلطوي وحتى التوتاليتاري، وهناك انقسام حاد بين الباحثين حول الكيفية التي يُفسّر بها ذلك. جمهورية سقراط المثالية تسمح بمقدار ضئيل بالحرية الفردية والحراك الاجتماعي وهي بذلك ضد الديمقراطية وتستخدم الرقابة الصارمة والبروبوغندا لدرجة نفي كل الشعراء خارج المدينة. الفيلسوف كارل بوبر اتّهم الجمهورية بكونها الداعم الاصلي للانظمة التوتاليتارية في القرن العشرين كنظام ستالين وهتلر. آخرون اعتبروا الجمهورية اول اختبار قاسي ودائم للفلسفة السياسية في العالم الغربي وان الديمقراطية الليبرالية الحديثة تدين الى افلاطون بإرث فكري عظيم. لا جواب بسيط للسؤال حول ما اذا كانت الفلسفة السياسية للجمهورية حميدة ام خطيرة لأن الجمهورية ذاته ليس كتاباً بسيطاً. يجب ان نتذكر ان احد اهداف الجمهورية هو تحريض النقاش المنتج و الفكر المكثف، فاذا وجدنا فيه مقاطع مثيرة للحيرة، فهذا هو ما اراده افلاطون. |