ما لم ينزع فتيلها وتطفأ نيرانها، لن تتورع أحداث 30 يونيو 2013 عن الإجهاز على المكتسبات الغضة لثورة 25 يناير 2011 والعودة بأرض الكنانة إلى المربع الأول؛ عبر ظهور ثلاثة أخطار أساسية طالما قوضت جهود العبور بالبلاد صوب الديمقراطية والتنمية الشاملة والمستدامة طوال عقود خلت.
ويأتي النظام السابق الفاسد والمهترئ - الذي من أجل إطاحته قامت الثورة - في مقدمة هذه الأخطار؛ إذ لن يفضي التحالف القائم حاليًا بين المعارضة "الثورية" وفلول ذلك النظام إلّا إلى انقضاض هؤلاء الأُخر على الثورة والهيمنة عليها أملًا في إعادة إنتاج نظامهم البائد. وثانيها، دفع تيار الإسلام السياسي، بشتى أطيافه، صوب التخلي عن نهج الانخراط في العمل السياسي المدني والقبول باللعبة الديمقراطية والالتزام بقواعدها، والعودة إلى العمل من خارج الأطر المؤسسية والدستورية وبغير الآليات السياسية الديمقراطية. أما ثالثها، فيتجلى فى عسكرة السياسة وتعزيز دور الجيش فى الحياة المدنية، وتحديدًا في العملية السياسية.
ويبدو أنّ بلوغ حالة المكايدة السياسية - التي تخيّم على المنافسة السياسية بين قطبي الثورة من قوى الإسلام السياسى والتيار العلماني بمختلف مشاربه - مبلغًا يتجاوز القدرة على التوافق والرغبة في التعايش والتشارك فى العمل من أجل استكمال الثورة وتحقيق أهدافها، قد زين للمعارضة العلمانية "الثورية" التي تطالب بتنحي الرئيس محمد مرسي كتوطئة لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أن تتحالف تحالفًا مشبوهًا مع فلول النظام السابق بغية الاستفادة من آلته الانتخابية الجبارة، وقدراته المالية والتنظيمية والدعائية الهائلة، علاوة على خبراته وكوادره السياسية وأجهزته الأمنية.
فبالتوازي مع أحكام "البراءات" المتتالية لرموز النظام السابق وعمليات التلميع ورد الاعتبار التي تجري لحسني مبارك شخصيًا خلال الأيام التى تسبق يوم 30 يونيو، لم ترعو قيادات جبهة الإنقاذ الوطني المعارضة عن توفير غطاء سياسي ومبررات أخلاقية لهذا التحالف. ففي مقابلة له مع جريدة الحياة اللندنية، قال رئيس حزب الدستور المعارض الدكتور محمد البرادعي "إنّ كلمة فلول صارت من الماضي، ولا بد من احتضان من لم يرتكبوا جرائم من المحسوبين على النظام السابق". وقد أكد على الأمر نفسه حمدين صباحي المرشح السابق لانتخابات الرئاسة في مقابلة مع قناة فضائية مصرية خاصة، واصفًا الذين يعارضون التحالف مع فلول النظام السابق بأنّهم "مراهقون سياسيون وأصحاب عقول ضيقة".
ولا تكمن خطورة هذا التحالف بين المعارضة الثورية ورموز النظام السابق في مواجهة رئيس منتخب في كونه جرس إنذار بتعاظم فرص نجاح الثورة المضادة فحسب، وإنما أيضًا في أنّه يثير شكوكًا عميقة بشأن مدى التزام تلك المعارضة بقواعد اللعبة الديمقراطية.
وفى مسعى للبحث عن طوق نجاة، وردًا على موقف المعارضة، لم يتردد الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في الاستقواء بباقي ألوان طيف الإسلام السياسي، بما فيها تلك التي تتبنى خطابًا راديكاليًا ونهجًا تكفيريًا جهاديًا. ووصل الأمر إلى غض الطرف عن إقدام بعض رموز التيار الجهادي المؤيدين للرئيس على توصيل رسائل تخويف وترهيب للقوى السياسية المعارضة التي تخطط لتظاهرات 30 يونيو؛ الأمر الذي من شأنه أن يطرح تساؤلات مثيرة بشأن جدية التيارات الإسلامية في نبذ العنف ومواصلة نهج الانخراط فى العملية السياسية والقبول بقواعد الممارسة الديمقراطية وآلياتها.
ومع تفاقم أجواء التوتر والاضطرابات، بدأت أنظار قطاع واسع من المصريين تتجه نحو الجيش مطالبة إياه بالنزول وإدارة البلاد؛ إما بسبب إخفاق الرئيس ذي الخلفية الإسلامية أو عجز المعارضة العلمانية عن توفير بديل أفضل. وامتد الأمر إلى نخب مهنية يفترض فيها الحياد كالقضاة؛ إذ أصدر نادي القضاة برئاسة المستشار أحمد الزند قبل أيام بيان تأييد للفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع وللقوات المسلحة. ويخطأ من يظن أنّ الجيش قد ابتعد بالفعل عن التفاعلات السياسية فى مصر عقب إطاحة المشير القائد العام للقوات المسلحة محمد حسين طنطاوي ورئيس الأركان سامي عنان؛ فلم تبرح القوى المدنية المعارضة تناشد الجيش التدخل لتعضيد موقفها التنافسي في مواجهة تيار الإسلام السياسي.
ومن جهتها طفقت مصادر عسكرية تؤكد قبيل أحداث 30 يونيو أنّ الجيش غير راغب في تولي السلطة، وفى السياق ذاته، يستبعد محللون غربيون سعي الجيش للإمساك بزمام السلطة من جديد، سواء بسبب الحالة الحرجة التى تجتاح البلاد، أو الانتقادات التى وُجهت للمجلس العسكرى إبان إدارته للبلاد خلال المرحلة الانتقالية، أو لأنّه لا يريد أن يظهر دوليًا كمنفّذٍ لانقلابٍ عسكري، أو لأنّ إطاحة رئيس إسلامي منتخب قد يستنفر أطياف تيار الإسلام السياسي ويدفعها للعودة إلى العنف في مواجهة الدولة على غرار ما جرى فى الحالة الجزائرية مطلع تسعينيات القرن الماضي؛ وهي الحقبة السوداء التى امتدت لعقد كامل.
غير أنّ خصوصية الظرف الراهن الذي تمر به مصر حاليًا قد تخلق واقعًا مغايرًا يقود بدوره إلى نتائج أو مخرجات جد مختلفة أو غير متوقعة فيما يتعلق بدور الجيش فى الأزمة. ففي مناسبات عديدة، أكد الفريق أول السيسي أنّ الجيش لن يسمح باندلاع حرب أهلية بين أبناء الشعب المصري، وسيتدخل لحقن دماء الشعب أو إن حاولت السلطة السياسية قمع رغبات الشعب، وأنّه لن يسمح بترويع الشعب المصرى ولا بسقوط الدولة ولا بإهانة الجيش، ودعا أهل الحكم والمعارضة إلى ضرورة التوافق السياسي.
من جانبه، ربما كان الرئيس مرسي يتطلع إلى أن يقوم الجيش بدور حماية الشرعية من خلال الذود عن الرئيس المنتخب على غرار ما فعل كل من رئيس الأركان الفريق محمد أحمد صادق وقائد الحرس الجمهورى اللواء الليثي ناصف فى أزمة أيار/ مايو 1971 بين الرئيس الأسبق محمد أنور السادات ومراكز القوى؛ فبعد أن تكشفت للسادات مؤامرة مراكز القوى بقيادة سامي شرف سكرتير رئيس الجمهورية ووزير شؤون الرئاسة والفريق محمد فوزي وزير الحربية للقيام بانقلاب على نظام الحكم من خلال محاصرة الرئيس وإلقاء القبض عليه أثناء إلقائه خطابه داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون، كاد السادات أن يسقط لولا مساندة الجيش له ممثلًا في الفريق صادق واللواء الليثى اللذين رفضا الانقلاب. وقام ناصف باعتقال جميع أفراد المؤامرة جميعًا لتقديمهم للمحاكمة فيما عرف حينئذ بثورة التصحيح.
ولعل الرئيس مرسي قد ارتكز فى رهانه هذا على تشابه الظروف بين تلك الأزمة وأزمة 30 يونيو 2013، فقد تمثّل السند الدستوري والأخلاقي الذي ارتكن إليه الفريق صادق فى موقفه وقتذاك أنّ ظروف البلاد بعد نكسة عام 1967 لا تجعل الشعب يتحمّل صراعًا على السلطة قد يتطور إلى حرب أهلية وفتنة سياسية حادة وانقسامات خطيرة، ولا سيما أنّ مصر لن تحتمل انقلابًا فى ظل وجود عسكري أجنبي وقواعد سوفيتية فيها، وبخاصة أنّ نفوذ من عرفوا بمراكز القوى كان يمتد إلى الجيش والشرطة والإعلام والمخابرات العامة ومؤسسة الرئاسة نفسها.
وسواء صدق حدس الرئيس مرسي أم لا، ومهما كانت صيغة أو شكل التدخل المرتقب من قبل الجيش في أزمة 30 يونيو، يجوز القول إنّ هذه الأزمة - التي أظهرت مدى هشاشة وضعف القوى المدنية وعجزها عن التوافق - قد فتحت الباب على مصراعيه أمام تجذير دور الجيش المصري في الحياة السياسية حتى بعد ثورة 25 يناير وانتخاب رئيس مدني للمرة الأولى وفك الارتباط المزمن بين رئاسة الدولة وقيادة الجيش. ويضيف هذا أعباءً وتحديات جسام أمام عملية التحول الديمقراطي ومدنية السياسة فى مصر لآماد زمنية تالية.
وفي حال تحقُّق تلك الأخطار الثلاثة، فإنّ ثورة 25 يناير سوف تتقهقر خطوات إلى الوراء؛ وقد تعود الأمور إلى المربع الأول بما يعوق اكتمال هذه الثورة التي قامت بأهم عملية تحرير سياسي ووجداني وفكري للمصريين فى تاريخهم الحديث. |