في انتظار الانفجار
(*) نتيجة لتحضير ڤيروسات إنفلونزا طيورٍ لديها الإمكانية
للانتشار بسهولة بين البشر، أثار الباحثون جدالا بشأن
الحاجة إلى الأمان في مقابل الحاجة إلى البحث المنفتح.
باختصار إن الطيور هي مستودع طبيعي لڤيروسات إنفلونزا يمكنها في بعض الأحيان الانتقال إلى البشر. وقد سبَّبت سلالات الڤيروس H5N1 القلق بشكل خاص لبعض علماء الڤيروسات، لأن نسبة الوفيات يمكن أن تكون مرتفعة بين الأشخاص القلائل الذين يصابون بالخمج(1) الناجم عنها الذي يتم بشكل رئيسي عن طريق التماسّ المباشر مع الطيور. وبعد هجمات الحادي عشر من الشهر 9/2001، ارتفع الإنفاق على الدفاع الحيوي بشكل هائل، مما قاد إلى أبحاث حديثة على سلالات من الڤيروس H5N1 تم صنعها في المختبرات ولديها القدرة على الانتقال بين الثدييات. وقد أدى هذا العمل إلى نشوء جدال بين خبراء الدفاع الحيوي الذين رأوا أن سلالات الڤيروس H5N1 الجديدة من المحتمل أن تكون خطيرة وأرادوا أن يضعوا قيودا على الأبحاث، وبين العلماء الذين رأوا أن الأبحاث القائمة على العوامل الممرضة الخطيرة مهمة من أجل تحسين مراقبة الأوبئة الطبيعية، وأن الضرر من عرقلة مثل هذه الأعمال سيجاوز الفائدة منه.
|
كـانـت الدجاجات قد شرعت تُصاب بالمرض عندما وصل (2)
إلى الولايات المتحدة في الشهر 1983/8. فقبل عدة أشهر من ذلك، أي في الشهر
4/1983، كان ڤيروس إنفلونزا طيور قد ظهر في المداجن الموجودة في شرق
بنسيلڤانيا، ولكن الأطباء البيطريين اعتبروه «ضعيف الإمراض»(3):
قاصدين بذلك أنه يصيب الدجاج بالمرض، لكنه لا يميت عددا كبيرا منهم. ولكن
مع اجتياح الڤيروس المداجن، تطوَّرت سلالة جديدة. بدأت الدجاجات تنفق
بأعداد كبيرة، وبدأ أصحاب المداجن يخافون من فقدان مصدر رزقهم. فقد أبلغت
سلطاتُ الولاية وزارةَ الزراعة الأمريكية بالحالة، فقامت الأخيرة بإنشاء
مركز قيادة ومراقبة مؤقت في مبان متجاورة لمجمع تجاري خارج لانكستر. ومن
أجل احتواء الوباء، قاموا بانتقاء 17 مليون طائر امتدادا من بنسيلڤانيا
وصولا إلى ڤيرجينيا.
كان
<كاواوكا> باحثا شابا من اليابان قد بدأ بالعمل في مستشفى سانت جود
للأبحاث المتعلِّقة بالأطفال في ميمفيس. وكان لدى رئيسه في العمل ويبستر> [عالم الڤيروسات] نظرية مفادها أن ڤيروسات الإنفلونزا البشرية
تنشأ في مجتمعات الطيور؛ وأنها تتنقَّل ضمن البط والإوز من دون إحداث
أذية، ولكنْ من حين إلى آخر تطوِّر سلالةٌ معينة القدرةَ على العيش في
الطرق التنفسية العلوية للبشر. فمن أجل مكافحة الإنفلونزا البشرية، كان
<ويبستر> يؤكِّد على أنه في البدء يتعين علينا فهم إنفلونزا الطيور.
وعندما سمع <ويبستر> في الشهر 11/1983 عن الوباء الذي صار خطيرا،
ترك كلَّ ما كان يفعله، وتوجَّه نحو مركز الحدث.
بقي
<كاواوكا> في الخطوط الخلفية، يراقب تفشّي الأزمة، وهو قابع خلف
حاجب الهواء في المختبر الخاص بالعزل الحيوي في مشفى ميمفيس. وقام بأخذ
عيّنات أرسلت إليه من الحقول، واستخلص الڤيروس منها وزرعه. وبعد ذلك
استخدمه لنقل الخمج(4) إلى دجاجات وضعها في أقفاص متجاورة،
وشرع في انتظار ما سوف يحدث. وكانت النتيجة التي وجدها مزعجة له: لقد نفقت
جميع الدجاجات بلا استثناء، أي أنّ نسبة الوفيات كانت 100%. وعند تشريح
الجثث، تبيَّن له أنّ الڤيروس كان مُمْرضا بطريقة عنيفة، حيث هاجم جميع
الأعضاء تقريبا؛ بشكل يشبه ما تفعله للبشر بعض سلالات الڤيروس إيبولا ebola.
وفي
الأشهر التي تلت الأزمة، حاول <كاواوكا> أن يعلّل لماذا كانت سلالة
الشهر 4 من الڤيروس ضعيفة للغاية، في حين كانت السلالة التي تطوَّرت إليها
مع حلول الشهر 11 مميتة إلى حدّ بعيد. وقرّر أن يقارن ما بين السلالتين.
وحسبما اكتشف، كان الفارق بينهما ناجما عن تغيّرات ضئيلة نسبيا في
الڤيروس. وقد صرَّح <كاواوكا> لي في مقابلة أجريتها معه عام 2010
بأنه «ما يخبرك به هذا الأمر هو أنّ ڤيروسا شديد الإمراض تولَّد عن طفرة
وحيدة. وهذا يدلّك على وجود كثير من المنابع لڤيروسات إنفلونزا شديدة
الإمراض. فهي جميعها هناك داخل الطيور.»
وصل
<كاواوكا> بعد ما اختبره إلى قناعة بوجود حاجة ملحة إلى أن يقوم
العلماء باكتشاف الكيفية التي يمكن لإنفلونزا الطيور بها أن تسبِّب
المتاعب للبشر؛ إذ من الأفضل أن يتمّ تبيّن هذا الأمر باكرا وأن يتمّ
تحضير علاجات ولقاحات فعّالة ضده. وبشكل خاصّ، كان يريد أن يعرف ما إذا
كان ڤيروس طيور قاتل مماثل للڤيروس الذي تفشّى في المداجن عام 1983 يمكن
أن يتحوَّل إلى مرض يصيب البشر. وفي حال حصول ذلك، ما هي سلسلة الكود
الجيني genetic code التي يجب على الڤيروس أن يكتسبها؟
حصل <كاواوكا> على جواب لسؤاله بعد مرور نحو ثلاثة عقود من الزمن. لقد أخذ ڤيروسا طيريا - من النمط H5N1 - يعيش داخل الطيور، وقام بجمعه مع الڤيروس من النمط H1N1 المسؤول عن جائحة عام 2009. وبعد ذلك اختبر الڤيروس الهجين على الحيوان المدعو ابن مقرض(5)
(وهو بديل عن البشر شائع الاستعمال في الأبحاث)، ووجد أنه ينتشر بسهولة
بواسطة القطيرات المحمولة بالهواء. وبهذه النتيجة، لم تعُد نظرية أن ڤيروس
الإنفلونزا H5N1 يستطيع أن يصبح
عاملا ممرضا للبشر مجرَّد افتراض. فإذا كان هو قد استطاع فعل هذا الأمر في
المختبر، فإن الطبيعة قادرة على ذلك أيضا.
قدّم <كاواوكا> ورقة بحثه إلى مجلة نيتشر(6) Nature التي أرسلته إلى بعض زملائه من أجل مراجعته، وهو الإجراء الاعتيادي في هذه الحالات. وقام أيضا [عالم الڤيروسات من مركز إيراسموس الطبي في روتردام] بشكل مستقل بتحضير ڤيروس H5N1 لديه إمكانية الانتقال إلى البشر، واختبره على حيوان ابن مقرض؛ وقدَّم ورقة بحثه إلى مجلة ساينس Science.
وحدث في وقت من الأوقات أن ترامت إلى سمع البيت الأبيض ماهية هذه
الدراسات، فمع حلول الشهر 12/2011 كان موظفو الأمن الحيوي يمارسون الضغوط
من أجل تأجيل نشرها ومن أجل فرض تعليق رسمي لهذه الأبحاث.
وما
أقلق خبراء الأمن الحيوي (البيولوجي) هو أنه من المحتمل لأحد هذه
الڤيروسات أن يستطيع أن يفعل بالبشر ما فعله ڤيروس عام 1983 بالدجاج. وفي
مثل هذه الحالة، يمكن للأبحاث أن تقوم مقام مخطَّط عمل لسلاح بيولوجي. أو
ربما يستطيع الڤيروس نفسه أن يهرب من المختبر عن طريق عامل تصيبه العدوى
به من غير قصد. وفي الأشهر التالية لتقديم ورقات الأبحاث، انخرط العلماء
في جدال علني - وفي كثير من الأحيان صاخب - الواحد ضد الآخر حول إمكانية
أن تكون الڤيروسات الجديدة مميتة؛ وحول نوعية القيود - إذا افترضنا لزوم
وجودها - التي يجب تطبيقها على العمل على ڤيروسات الإنفلونزا H5N1.
فالممارسة العلمية التي تزدهر مع التدفق الحرّ للمعلومات ونزوع العلماء
إلى اتباع فضولهم أينما أخذهم، اصطدمت بالحاجة إلى الحفاظ على الناس في
مأمن من عامل ممرض يمكن جدلا أن يُعتبَر سلاحا محتملا من أسلحة الدمار
الشامل يماثل الأسلحة النووية في فتكه وفي صعوبة السيطرة عليه.
التهديد الطبيعي(**)
إن أول حالة مسجّلة لـ «طاعون الطيور» في المداجن حدثت في الأرياف بشمال إيطاليا عام 1878. وقد ظنّوه حينئذ شكلا خاصا شديد الفوعة(7) من الكوليرا. وفي عام 1901 ثَبُت لدى العلماء عزوه إلى نوع ما من الڤيروسات. وفي عام 1955 تبيَّن لهم أنه ڤيروس إنفلونزا من النمط A شبيه بالسلالات التي تخمج infect
الإنسان، وهو الأمر الذي قاد لاحقا <ويبستر> وآخرين إلى التساؤل عن
وجود نوع من العلاقة بين الإنفلونزا عند الطيور والأوبئة عند البشر.
إن
الإحساس الباطني ل<ويبستر> عن كون الطيور خزانا لطلائع الڤيروسات
البشرية هو حاليا الرأي الحكيم المتعارف. وتحمل الطيور البرّية مِثْلَ هذه
الڤيروسات معها ضمن أجهزتها الهضمية من دون أن تُصاب بالمرض، وتنقل
الڤيروس إلى الآخرين عن طريق البراز. فإذا أصيبت دجاجة في مدجنة ما بخمج
ناجم عن طائر برّي، فإن الڤيروس يمكن أن يحصل على فرص للتفاعل مع العديد
من الڤيروسات الإضافية عبر التماس القريب مع الخنازير وغيرها من
الحيوانات. وهذا ما حدث بالفعل في أسواق بيع الحيوانات الحيّة وفي المزارع
المنزلية في الصين وجنوب آسيا. ولدى ڤيروسات الإنفلونزا سمعة سيئة بخصوص
قدرتها على التغيّر من خلال الجمع بين الطفرات و«إعادة الترتيب»(8)؛
والمقصود بالتعبير الأخير استعارة جينات من ڤيروسات أخرى. وتؤدي المزارع
المفتوحة دور مؤتمر للڤيروسات، حيث تتبادل السلالات المختلفة مادتها
الجينية مثلما يتبادل الحاضرون في مؤتمر ما بطاقات أعمالهم.
وفي العقود الماضية الأخيرة, تركَّز قلق الاختصاصيين بالڤيروسات على سلالات H5N1 التي تتجوَّل في المزارع الآسيوية. فڤيروسات الإنفلونزا من النمط A يتم تصنيفها بواسطة بروتيناتها السطحية الراصّة للدم(9) وخمائر النيورامينيداز(10)؛ وهذا ما يعبّر عنه حرفا «H» و«N» في تسمية الأنماط المختلفة. (ڤيروس عام 1983 كان H5N2). وإذا كان بالإمكان القول إن ڤيروسا ما لديه شخصية، لقلنا إن الڤيروس H5N1
يبدو ذا شخصية هائجة ويصعب التنبؤ بتصرفاتها. فعلى سبيل المثال، كان
يُعتقَد أن هذا الڤيروس سليم السلوك في الحيوانات البرّية، ولكن في عام
2005 وُجدت آلاف من طيور البط والإوز والنورس والغاق نافقة في بحيرة
شينگهاي في وسط الصين، وقد قُتلت على ما يبدو بواسطة الڤيروس H5N1. وفي العقد الأخير قتل الڤيروس H5N1 عددا من حيوانات الزباد في ڤيتنام ومن النمور في حديقة حيوان تايلاندية.
أدّى
ذلك الڤيروس إلى وفيات بشرية أيضا. فخلال الوباء الذي تفشَّى بين الدواجن
في آسيا عام 1997، كان صبيٌّ عمره ثلاث سنوات في هونغ كونغ أول حالة
معروفة من الوفيات يسببه بين البشر. ومع حلول نهاية ذلك العام كان مجموع
عدد الوفيات قد بلغ ستة. ومن أجل احتواء الوباء، قامت السلطات في الصين
وفي الدول المجاورة بالإشراف على انتقاء وقتل ملايين من الطيور. ومع ذلك،
عاد الڤيروس إلى الظهور من جديد في عام 2004 في تايلاند وڤيتنام والصين
وإندونيسيا.
ومع أخذ جميع الحالات بالحسبان، توفي نحو 350 شخصا بسبب الڤيروس H5N1،
وكان معظم الحالات بسبب التماسّ مع الطيور. والعدد المطلق للوفيات ليس
مرتفعا، ولكن نسبة الوفيات عند الإصابة بالڤيروس تبلغ - حسب تقديرات منظمة
الصحة العالمية - نحو 60%. وفي المقابل لدى ڤيروس إنفلونزا عام 1918 الذي
قتل ما بين 20 مليون إلى 50 مليون شخص نسبة وفيات تعادل نحو 2% فقط. ومنذ
ظهور ورقتي بحث <كاواوكا> و<فوشيير> في خريف عام 2011، صارت
النسبة الفعلية للوفيات بسبب الڤيروس H5N1 موضوع جدال شديد. فبعض العلماء - على رأسهم باليس> أستاذ الأمراض الإنتانية ورئيس قسم الأحياء الدقيقة في كلية
ماونت سيناي للطب البشري - يرون أن هناك حالات إصابة خفيفة بالڤيروس H5N1
مرَّت من دون الإعلان عنها أو لم يتم تسجيلها في الاختبارات، وهذا ما رفع
نسبة الوفيات بشكل مصطنع. في حين يرى علماء آخرون أن هناك وفيات بسبب
الڤيروس H5N1 لم يتم التبليغ
عنها، الأمر الذي قد ينجم عنه ظهور نسبة وفيات أقل مما هي عليه في الواقع
الفعلي. كانت نسبة الوفيات التي أعلن عنها <كاواوكا>
و<فوشيير> عند حيوان ابن مقرض للإصابة بڤيروساتهم المصنوعة في
المختبر هي نسبة منخفضة. ولكن مهما كان الخطر الذي يمكن أو لا يمكن لهذه
الڤيروسات بالذات أن تمثّله، فإن حقيقة كون الڤيروس H5N1 يُحتمَل أن يستطيع الانتشار بسهولة بين البشر هي خبرٌ ليس جيدا.
في
الشهر 9/2001 شقَّت الجمرة الخبيثة التي استُخدِمت كسلاح على شكل بودرة
بيضاء دقيقة طريقَها إلى داخل بريد الولايات المتحدة، فسبَّبت مقتل خمسة
أشخاص، وأرهبت أمة سبق لها أن أصيبت بالفزع بسبب هجمات 11/9/2001 على مركز
التجارة العالمي والبنتاگون. فارتفع الإنفاق على الدفاع الحيوي بشكل هائل.
ومنذ عام 2001 أنفقت حكومة الولايات المتحدة أكثر من 60 بليون دولار على
التخزين الاحتياطي للقاحات وترصّد الأمراض والأبحاث الأساسية في مجال
العوامل التي يمكن أن تكون أسلحة بيولوجية؛ بما فيها الإنفلونزا. وقد قام
المعهد الوطني للتحسّس والأمراض الإنتانية (NIAID)
- وهو المصدر الرئيس للتمويل في الولايات المتحدة - برفع ميزانيته
المخصَّصة لأبحاث الإنفلونزا بمقدار ثلاثة أضعاف تقريبا في السنة المالية
لعام 2003؛ من 17 مليون دولار إلى 50 مليون دولار، وقام بمضاعفتها مرة
أخرى إلى 100 مليون دولار في عام 2004. وفي عام 2009 بلغ التمويل ذروته
حيث وصل إلى ما يقارب 300 مليون دولار، وبعد ذلك هبط بمقدار ضئيل. كان
<كاواوكا> أحد المتلقّين لقسمٍ من هذا السخاء. فمنذ عام 2006 تلقّى
نحو 500 ألف دولار في السنة من المعهد الوطني NIAID من أجل البحث على «القدرة الكامنة عند ڤيروسات الإنفلونزا H5N1
لإحداث جائحة»، وذلك حسب ما ورد في موقع المعاهد الوطنية للصحة على شبكة
الإنترنت. وحصل <فوشيير> على تمويله من مجموعة پاليس في ماونت سيناي
الذين وقعوا معه عقدا فرعيا من منحة حصلوا عليها من المعهد الوطني NIAID. لقد أحدث مختبر <فوشيير> طفرات في ڤيروس من النمط H5N1
من أجل تحفيز إمكانية الانتقال، ثم أدخل الڤيروس إلى حيوان ابن مقرض إلى
أن أصبح ينتشر بين هذه الحيوانات بواسطة القطيرات المحمولة بالهواء. كذلك
فإن مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها كانت لديها هي أيضا مجموعة
لاستقصاء سراية الڤيروسات H5N1، ولكنها لم تحقق النجاح الذي حقَّقته مجموعتا <كاواوكا> و<فوشيير>.
السلاح(***)
ومن
ناحية ثانية، في السنوات التي تلت التاسع من الشهر 9/2001 طغى الاهتمام
بالجدري كسلاح بيولوجي مُحتمَل على ذلك المتعلق بالإنفلونزا. فڤيروس
الجدري الذي يسبِّب هذا المرض يقتل واحدا من كل ثلاثة يُصابون به، كما
يستمر بالوجود لمدة سنوات لدى حاملي المرض. لقد سبق أن تم الإعلان في عام
1979 عن اجتثاث ذلك المرض. ومع أنه لا توجد منه رسميا سوى عيّنتين
محفوظتين ضمن الحجز وتحت الحراسة في أتلانتا وفي كولتسوڤو في روسيا، إلا
أن هناك شائعات مستمرة عن وجود عيّنات أخرى غير شرعية. وكاستجابة للمخاوف
المتصاعدة بعد هجمات 11/9/2001، قامت الولايات المتحدة بالتخزين الاحتياطي
لنحو 300 ألف جرعة من لقاح الجدري، وهي موضوعة في الوقت الحالي في
مستودعات سرية منتشرة عبر البلاد.
لقد
ظهرت الإنفلونزا على لائحة الأسلحة البيولوجية في عام 2005، لكن موظفي
الأمن الحيوي مرّوا عليها مرور الكرام. وكان العلماء قد نجحوا في إعادة
إنشاء ڤيروس الإنفلونزا المسؤول عن جائحة عام 1918، وذلك اعتبارا من
العينات النسيجية للبقايا البشرية التي كانت مجمَّدة في جليد القطب
الشمالي. إذ تباحث المجلس الاستشاري العلمي الوطني للأمن الحيوي (NSABB) وقرَّر أن الفوائد التي يجنيها العلم والصحة العامة تفوق المخاطر الأمنية. ولكن كايم> [الرئيس الحالي للمجلس الاستشاري العلمي الوطني للأمن الحيوي]
وصف هذا القرار مؤخرا بأنه «غلطة». فقد أثار ڤيروس جائحة عام 2009 – وهو
ڤيروس من النمط H1N1 ذو إمراضية
منخفضة - النقاش حول الموضوع نتيجة إحداثه مناعة (على الأقل جزئية) تجاه
ڤيروس عام 1918 في غالبية سكان العالم. وباعتبار أن النمط H5N1 جديد بالنسبة إلى الجهاز المناعي البشري، فليست هناك مقاومة طبيعية له.
[تاريخ الإنفلونزا] مسيرة التطوّر لسلاح بيولوجي(****) سبَّبت الإنفلونزا حدوث جائحات منذ فترة طويلة، ولكن إنفلونزا الطيور H5N1 لم تكُن قادرة على الانتشار بسهولة من إنسان إلى آخر. وتقترح الاكتشافات الحديثة أن الطبيعة أو الإرهابيين يمكن أن يغيروا هذا الأمر، وبذلك ستُمَهّد الطريق لظهور سلاح بيولوجي بإنفلونزا الطيور. فالأوبئة التي أحدثتها السلالة H5N1 بين الدواجن في آسيا في تسعينات القرن العشرين نبَّهت المسؤولين الصحيين إلى إمكان ظهور سلالة تسبِّب جائحة بين البشر. فلو تيسَّر لڤيروس إنفلونزا عالي الإمراضية أن ينتشر بسرعة تماثل ڤيروس عام 2009 (H1N1)، فإن موظفي الصحة لن يكون لديهم سوى القليل من الوقت كي يتصدّوا له. ومنذ هجمات 11/ 9/2001، اعتُبِرت الإنفلونزا (بما فيها سلالة جائحة عام 1918) سلاحا بيولوجيا مُحتَملا.
| العدد النسبي للوفيات المرتبطة بالجائحة (الدوائر الحمراء) | 1918 جائحة: جائحة الإنفلونزا الإسبانية، حدثت بسبب ڤيروس إنفلونزا من النمط H1N1، وقتلت أكثر من 20 مليون شخص. 1925 سياسة عامة: حظرت اتفاقية جنيف استعمال الأسلحة البيولوجية، ولكنها لم تمنع الأبحاث والتطوير للعوامل المتعلِّقة بها. 1957 جائحة: جائحة الإنفلونزا الآسيوية، حدثت بسبب ڤيروس إنفلونزا من النمط H2N2، وقتلت 100 ألف شخص. 1968 جائحة: جائحة إنفلونزا هونغ كونغ، حدثت بسبب ڤيروس إنفلونزا من النمط H3N2، وقتلت 700 ألف شخص. 1972 سياسة عامة: ميثاق الأسلحة البيولوجية والسمّية، وقّعت عليه 72 دولة، وهو يدعو إلى إنهاء الأبحاث على الأسلحة البيولوجية وإلى تدمير المُخزن منها. 1997 H5N1: أول حالة معروفة لخمج بشري بالڤيروس H5N1 يتم التبليغ عنها في هونگ كونگ، حيث بلغ العدد الكلي للإصابات 18 (ست منها مميتة). 2001 سياسة عامة: بعد هجمات 11/9، ارتفع تمويل الدفاع الحيوي في الولايات المتحدة بشكل هائل. وكان التركيز الأولي على الجدري، في حين كان الاهتمام بالإنفلونزا أقل درجة. الشهر 1/2005 H5N1: أول بيان منشور عن احتمال وقوع انتقال بشري ثانوي لڤيروس إنفلونزا طيري. إذ يُرجَّح بشدة كون فتاة في تايلاند قد قامت بتمرير الڤيروس إلى أمها في الشهر 9/2004. 2/2005 سياسة عامة: منظمة الصحة العالمية توفِّر النماذج البدئية لسلالات لقاح الڤيروس H5N1. ومنذ ذلك الحين تم تطوير عدة لقاحات للاختبار السريري، حيث أعدَّت من أجل موظفي الصحة والمستجيبين الأوائل. 10/2005 H5N1: من خلال إعادة إنشاء المادة الجينية المج........لوبة من ضحية متجمِّدة لإنفلونزا عام 1918، اقترح العلماء أن الڤيروس نشأ أولا في الطيور ثم تأقلم لاحقا مع البشر، وأن هناك أوجها متشابهة بينه وبين الڤيروس H5N1. 3/2006 H5N1: وجدت مجموعتا بحث أن ڤيروسات الطيور تميل إلى أن ترتبط بجزيئات تقع عميقا في الرئتين، وليس في الأنف أو الحنجرة، وهذا يمكن أن يفسِّر لمَ ليس الڤيروس H5N1 ساريا بسهولة بين البشر. 5/2007 سياسة عامة: الاجتماع الصحّي العالمي لمنظمة الصحة العالمية يصدر قرارا عن أهمية التشارك الدولي في ڤيروسات الإنفلونزا. 2009 جائحة: جائحة إنفلونزا بالڤيروس H1N1 تقتل نحو 500 18 شخص بين الشهر 4/2009 والشهر 8/2010. 2011-2012 سياسة عامة: موظفو الأمن الحيوي يوصون بمنع نشر تفاصيل الأبحاث عن سراية الڤيروسات H5N1 في الثدييات، ويعطون لاحقا الإذن بالمتابعة. |
وفي الوقت الحالي، يُعتبر بعض خبراء الدفاع أن الڤيروسات H5N1
التي صنعها مختبرا <كاواوكا> و<فوشيير>، يمكن أن تكون أشد
خطورة من الجدري. فڤيروسات الإنفلونزا مُعدية أكثر من ڤيروس الجدري،
وتتحرك بسرعة أكبر عبر التجمعات السكانية البشرية، وهذا يعطي موظفي الصحة
العامة وقتا أقل من أجل إعداد اللقاحات والعلاجات. ويقول أوسترهولم> [مدير مركز الأبحاث والسياسة العامة للأمراض الإنتانية في
جامعة مينيسوتا وهو عضو في المجلس الاستشاري العلمي الوطني للأمن الحيوي]:
«الإنفلونزا هي بمثابة الملك الزعيم من ناحية السراية». فڤيروس من النمط H5N1
ذو سراية عالية ولديه نسبة وفيات بين البشر تقترب من الـ60% المُشاهَدة
لغاية الآن بين ضحايا إنفلونزا الطيور، هو فعلا مشهدٌ مرعب للغاية. وكما
أشار إليه <أوسترهولم>، فإن الڤيروس H5N1
حتى وإن كانت إمراضيته أقل بعشرين مرة، سيكون مميتا أكثر من ڤيروس جائحة
عام 1918. وقد طلب المجلس الاستشاري العلمي الوطني إلى الأمن الحيوي منع
نشر تفاصيل مقالتَي <كاواوكا> و<فوشيير> في الشهر 12/2011،
ولكنه أُذِن بمتابعة النشر الكامل في الشهر 4/2012.
وهناك اتفاق عام في أوساط جماعة الأمن الحيوي على أن إنفلونزا الطيور - أو على وجه التحديد الڤيروسات H5N1
التي صُنعت في المختبر كي تصير قابلة للانتقال بين الثدييات - هي سلاح
بيولوجي مُحتَمل يجب أن يخضع للتدبير مثله مثل الجدري. ويقول إيبرايت> [وهو خبير في الدفاع الحيوي وعالم في الكيمياء الحيوية في
جامعة روتجيرس]: «إن مجرد وجود هذا الڤيروس يشكّل خطرا بحدّ ذاته. فهذا
يعني نشوءَ خطر من تحرّره بشكل عارض، كما يعني نشوءَ خطر من أن شخصا ما
سيحوّله إلى سلاح.»
والشيء الذي أغضب
خبراء الدفاع - وكذلك العديد من العلماء - هو أن الأبحاث نشأت وتواصلت من
دون أي تحليل للفوائد والمخاطر بشكل مسبق. والمجلس الاستشاري العلمي
الوطني للأمن الحيوي - وهو مجرّد مجلس استشاري بحت من دون أية مسؤولية
للإشراف والمراقبة - لم يتدخَّل في الأمر إلا بعد أن حثّه البيت الأبيض
على ذلك. وفي عام 2007 أصدر شتاينبرونر> وزملاؤه في مركز الدراسات الدولية والأمنية في ماريلاند
تقريرا أوصى بـ«بعض التقييد على حرية العمل في مستوى الأبحاث الأساسية،
حيث اعتُبرت الاستقلالية الشخصية تقليديا ذات قيمة عالية استنادا إلى أفضل
المبرِّرات». وهذا التقرير جرى تجاهله إلى حدّ بعيد. ولكن بعد ظهور ورقتي
بحث <كاواوكا> و<فوشيير>، طلبت حكومة الولايات المتحدة إلى
وكالات التمويل أن تجري تقييما لمخاطر الأبحاث المتعلِّقة بالڤيروس H5N1 وڤيروس إنفلونزا عام 1918.
وقد
أوصى <شتاينبرونر> وآخرون باستحداث نوع من المجموعة الدولية للإشراف
والمراقبة مع بعض الصلاحيات لفرض قيود إجبارية على الأبحاث ذات المخاطر
المُحتَملة وللإشراف عليها ومراقبتها، بطريقة تشبه ما تمارسه منظمة الصحة
العالمية في الوقت الحالي بالنسبة إلى الجدري. ويقول <شتاينبرونر>:
«لن يكون الأمر بمثابة حماية مُحكمَة السدّ، لكنه سوف يضع النهج الذي لن
يسمح لأحد بأن يذهب إلى مُختلىً سرّي ويقوم بإجراء هذه التجارب». ويضيف
قائلا إن ڤيروسا من النمط H5N1
تتم هندسته بحيث ينتشر بين الثدييات «هو وسيلة للدمار الشامل تدخل في زمرة
الأسلحة النووية بالذات، بل حتى تتجاوزها. إنه عامل ممرض شديد الخطورة،
وليس مسألة قد يكون [العلماء] بالذات حذرين ومنتبهين. فلا بدّ أن يكون
هناك نوع من الإجراءات المؤسّسية للسلامة والأمان.»
ولكن ما مدى التقييد الذي يجب أن تكون عليه هذه الإجراءات؟ إن تقانة الأسلحة النووية تخضع للتصنيف العسكري(11)،
وهذا يعني أن أية أبحاث في هذا الشأن لا يمكن أن تُجرى إلا في سريّة
تامّة. ولكنّ الإنفلونزا - على عكس الأسلحة النووية - هي مسألة صحة عامة
عالمية. فتصنيف بعض جوانب أبحاث الڤيروس H5N1
بالطريقة السابقة سوف يترك علماء ومسؤولين صحيين في ظلام دامس بخصوص واحد
من أكبر التهديدات للصحة العامة على مستوى العالَم. وفي المقابل، يدافع
العديد من الخبراء الأمنيين عن الرأي الداعي إلى حصر الأبحاث على
الڤيروسات القابلة للانتقال بين الثدييات بالمختبرات المأمونة إلى أقصى
الحدود؛ أي تلك المأمونة بشكل يفوق المختبرات التي أجرى فيها
<كاواوكا> و<فوشيير> أعمالهما. ومثل هذه القيود سوف تجعل تلك
الأبحاث بمنأى عن متناول العديد من العلماء.
كثير
من الباحثين يتحمّسون جدا وهم يدافعون عن نمط العمل الذي قام به
<كاواوكا> و<فوشيير>، مستندين إلى أنه كلما ازدادت معرفتنا عن
الڤيروس H5N1، فإن قدرتنا على
حماية أنفسنا من التهديد الطبيعي سوف تتحسَّن. ويضيفون إلى حجّتهم أن
العلم يتقدَّم أفضل ما يكون عندما تُترَك فعاليات الأبحاث حرّة من القيود.
فالتحديد الدقيق لماهية المكوّنات الجينية اللازمة لمنح سمات من أمثال
معدّل الإماتة والسراية إلى الڤيروسات H5N1،
سوف يسمح للخبراء الصحيين بأن يكونوا يقظين ومتنبّهين لمواجهة السلالات
الجديدة الخطرة التي تظهر في البراري وأن يستعدّوا لها بشكل مُسبَق.
وعندما يظهر فجأة ڤيروس إنفلونزا بشرية جديد ويبدأ بالانتشار، يكون إيقاف
الموجة الأولى من الإنتان قد فات أوانه منذ أمد طويل. فإنتاج لقاح
للإنفلونزا يستغرق في الحالة النموذجية ستة أشهر كي يكتمل، وأحيانا فترة
أطول من ذلك. وعلى سبيل المثال، في الشهر 4/2009 عندما انتبه موظفو الصحة
إلى الڤيروس H1N1، كان قد انتشر بشكل واسع في المكسيك والولايات المتحدة، وكان قد قطع شوطا واسعا في طريقه إلى أن يصير جائحة.
إضافة إلى ذلك، فإن واحدا من المكوِّنات الجينية التي حدَّدها <كاواوكا> على أنها تمنح سمة السراية إلى الڤيروسات H5N1
تمَّت ملاحظتها في الڤيروسات الطبيعية، الأمر الذي يشير إلى أن عجلة
«الروليت» قد شرعت سلفا في الدوران. «ونظرا لأن طفرات الـڤيروس H5N1
التي تمنحها سمة السراية بين الثدييات يمكن أن تنشأ في الطبيعة، فإنني
أعتقد أنه من الاستهتار وعدم المسؤولية ألا ندرس الآلية المستبطنة لذلك»،
هذا ما كتبه <كاواوكا> في مقالة نُشرت في مجلة نيتشر (وقد رفض أن
تُجرى معه مقابلة بخصوص هذا الموضوع). ومن جهته، دافع <فوشيير> عن
عمله استنادا إلى الأسس نفسها.
ومن
ناحية ثانية، فإن امتلاك التفاصيل الجينية لڤيروسات الإنفلونزا التي يمكن
أن تكون مميتة هو أمر قليل الفائدة إذا لم يقترن بالتمويل والشبكات ووسائل
الوصول إلى الحيوانات وهي في حيزها الطبيعي. وخلال أوبئة الڤيروس H5N1،
شرع علماء الڤيروسات في ممارسة مراقبة صارمة على أسواق الحيوانات الحيّة
في جنوب الصين، ولكن هذه الإجراءات لم تُطبَّق بشكل ثابت في الأماكن
الأخرى من الصين أو في جنـــوب شرق آسيا. وفي الولايــات المتحـــدة،
منعـــت مـــزارع المواشي في كثيـــر من الأحيـــان موظفــي الصحــة من
فحـــص الخنازير الموجودة فيها، على الرغم من أن نذائر جائحة الڤيـــروس H1N1
لـعـــام 2009 يُعـتـقَـــد أنهـــا كـــانــــت منتشرة فــي مــــزارع
الخنـــازيــر في الولايــات المتحـــدة لمـــدة ســـنوات قبل أن تظهر في
المكسيك [انظر: «مصانع الإنفلونزا»، ، العددان 5/6 (2011)، ص 14].
إن المراقبة يمكن ألا تكون أبدا كافية بالدرجة اللازمة لإحباط الجائحات البشرية. وتقول [مديرة قسم الإنفلونزا في مراكز مكافحة الأمراض CDC]: «حاليا، نحن مجهزون بشكل أفضل ممّا كنّا عليه قبل جائحة الڤيروس H1N1.
ولكن العالَم ليس مجهزا لمواجهة ظهور ڤيروس إنفلونزا عالي السراية وعالي
الإمراضية في البشر. وبكل صراحة، لا أعتقد أن العالَم سيكون كذلك في يوم
من الأيام ما لم نمتلك لقاحا شموليا يقي من جميع السلالات». إن اللقاح
الشمولي لا يبدو أنه سيتوفَّر في المدى المنظور، وهذا يتركنا في الوضع
المزعج حيث نمتلك الكثير جدا من المعلومات والقليل جدا من القدرة على
التصرّف.
وتيرل> هو المحرِّر التنفيذي لمجلة ساينتفيك أمريكان، ومؤلف الكتاب The
Fate of the Species (قدَر الأنواع) الذي تُصدره Bloomsbury هذا الشهر.