النص وغياب الأبوة :
يعتمد النص علي غياب الأبوة خاصة في عملية
التناص ، حيث يحدث تفاعل بين نصوص عصرية وأخري تراثية التوحد والاستخراج
بينهما يفقد النص التراثي أبوته . وحينئذ تعدد معاني النص وتفجر دلالاته
نتيجة تحلل النص إلي عناصر تراثية وواقعية ومن هذا التناقص أو التكامل بين
الموروثين الماضي والحاضر يحدث التوليد المستمر للمعاني ومن ثم تعدد
العلامات في النص .
علي أن غياب الأبوة لا يقف عند التناص
فحسب ، بل يمتد إلي المؤلف نفسه ,وكان بارت يري أن وجود المؤلف يحد من
انطلاق النص وتمدده وتحلله اللانهائي , وحتى يتحقق للنص التعدد الدلالي
لابد أن يتخلص من أبوته الداخلية التناصية وأبوته الخارجية التأليفية”.
واللسانيان قد مكنت عملية تقويض المؤلف من
أداة تحليلية ثمنية , وذلك عندما بينت أن عملية القول وإصدار العبارات
عملية فارغة في مجموعها وأنها يمكن أن تؤدي دورها علي أكمل وجه , دون أن
تكون هناك ضرورة لإسنادها لأشخاص المتحدثين , فمن الناحية اللسانية ليس
المؤلف إلا ذلك الذي يكتب , مثلما أن الأنا ليس إلا ذلك الذي يقول أنا ؛ إن
اللغة تعرف الفاعل , ولا شأن لها بالشخص”[74].
وهكذا نجد أن بارت ستند إلي اللسانيات
ليقوض دور المؤلف في النص ؛ لأنه يري أن وجود المؤلف يحول دون تحقيق لا
نهائية المعني ويجل النص متحجّراً عند أفكار المؤلف وأبعاده الدلالية التي
يريد طرحها وهو يريد أن يجعل النص ممتداً ومتعدداً ومتحللاً إلي حد التفجير
ولا يقف عند المعني اللاهوتي للمؤلف لذلك يقول: “نعمل الان أن النص لا
ينشأ عن رصيف كلمات تولد معني وحيداً , معني لاهوتياً إذا صح التعبير (هو-
رسالة- المؤلف الاله) ؛ وإنما هو فضاء متعدد الأبعاد تتمازج فيه كتابات
متعددة وتتعارض ,من غير أن يكون فيها ما هو أكثر من غيره أصالة النص نسيج
من الاقتباسات تنحدر من منابع ثقافة متعددة . إن الكاتب لا يمكنه إلا أن
يقلد فعلاً هو دوماً متقدم عليه دون أن يكون ذلك الفعل أصيلا علي
الإطلاق”[75] .
إنا المؤلف عند بارت ما هو إلا ناسخ
لأفكار ومفردات وصور وكلمات يحدث بينها تمازجاً ولا يبتكر شيئاً أصيلاً ؛
ستند إلي محاكاة هذه المفردات في الكتابة ونقلها من المعجم اللغوي إلي
الكتابة . فالحياة عند بارت” لا تعمل إلا علي محاكاة الكتاب, والكتاب ذاته
ليس سوي نسيج من العلامات . إنها محاكاة ضائعة لا تنفك ترجع القهقوى وعندما
يبتعد المؤلف ويحتجب فإن الزعم بالتنقيب عن أسرار النص يغدو أمراً غير ذي
جدوى , وذلك أن نسبة النص إلي مؤلف , معناها إيقاف النص وحصره وإعطاؤه
مدلولاً نهائياً , إنها إغلاق الكتابة”[76] .
وهنا يتضح لنا أن سبب تقويض دور المؤلف أو
حجب أبوة النص عند بارت يرجع إلي عدة أمور منها : المعني حول السر الدفين
الذي يقصده المؤلف ومن ثم يتم إيقاف المعني عند بعد أحادي معين .
غير أن الدافع لذلك يرجع إلي مقت بارت
للمركزية النصية- لو جاز لنا استخدام هذا التعبير – لأن هذه المركزية تذكره
تذكرة بالأحادية الحتمية التي لا فكاك منها وهو يريد أن يحرر النص من ربقة
المؤلف، حتى يصبح النص حراً طليقاً . خاصة أنه ربط بين مركزية المؤلف في
النص ومركزية الإله وحتميته , فكلاهما عند بارت يؤدي إلي المعني الأحادي ،
فالمعني في النص يدور حول المؤلف ويقف عند مراده ويكون قريباً من أحادية
المعني اللاهوتي ، وهو بدوره يرفض هذه الأحادية الحتمية وعندما يرفض بارت
المؤلف يصبح أمامة متسع من التأويل والتحليل والتحلل النص أي يتخلص من
القيود التي تحاصره في النص حتى لو كانت قيود المؤلف ذاته .
يضاف إلي ذلك أن سيطرة المؤلف علي النص
تتوافق وسيطرة الناقد التقليدي الذي يحاول من خلال تحليل النص أن يجد ضالته
الضائعة في النص , ومجرد حصوله علي هذه الضالة يشعر بأنه وجد كلمة السر .
وبذلك يتوقف معني النص هذا السر المكتشف من قبل الناقد . وكأن النص حصر في
معني أحادي ومثل هذه الحادية يرفضها بارت ؛لأنه يريد للنص الانطلاق والتحرر
والخروج علي قيود المؤلف والناقد وحتمية تفسيرهما يقول :” إن النقد يأخذ
علي عاتقه الكشف عن المؤلف (أو حوامله من مجتمع وتاريخ ونفس وحرية) من وراء
العمل الأدبي . بالعثور علي المؤلف يكون النص قد وجد تفسيره والناقد ضالته
, فلا غرابة إذن أن تكون سيادة المؤلف من الناحية التاريخية هي سيادة
الناقد , كما لا غرابة أن يصبح النقد اليوم موضوع خلخلة مثل المؤلف , ذلك
أن الكتابة المتعددة ليس فيها تنقيب عن الأسرار”[77] .
وهكذا نجد أن بارت يحاول التخلص من المؤلف
بغية فض مغاليق النص وتعدد أبعاده وعدم الارتكاز علي معني أحادي , بل إنه
تريد أن يكون النص حراً طليقاً لا تحده قيود المؤلف أو مقتضيات النقد
المعياري , إنه لا يريد أي سلطة تستحوذ علي النص سواء اللغة أو سلطة المؤلف
أو سلطة الناقد , وهو بذلك خرج من سلطة اللغة ليقع في سلطة النص , طناً
منه أن النص المخادع والمموه والعجيب والمراوغ يتيح له حرية التخلص من
السلطة المركزية الحتمية للنص . ومن ثم أخذ يجرد النص من كل معوقاته حتى
تتكشف له لذة النص ومتعته . وكلما تعددت رؤي النص وأبعاده تعددت تبعاً لذلك
علاماته . وعلي الرغم من دعوة بارت لموت المؤلف . إلا أن ذلك لة ينحقق حتى
في كتابات بارت نفسه , لأن بارت المؤلف لي يستطيع أن يخفي فلسفته الوجودية
في معظم نصوصه النقدية التي طرحها . وبدت هذه الرؤية الفلسفية ظاهرة
للعيان في معظم معاييره النقدية ، ومنها مفهومة للنقد واللغة والنص والمؤلف
واللذة والمتعة والتلقي والكتابة وغيرها .