د. إبراهيم خليل
أصل وفصل" لسحر خليفة وإشكاليّة السَّرْد التاريخيّ
18/09/2011
|
غلاف الرواية |
بعربيّةٍ مكسّرة تحاول سحر خليفة نبْشَ الماضي، وتعْريَتَهُ منْ قُشورهِ،
في رواية تاريخيّة، بعنوان" أصْل وفصْل " وهو عنوانٌ لا يُوحي بالمُحتوى
مباشرَةً، فثمة من يُؤْمنون في مدينةٍ محافظةٍ، مثل نابُلسَ، بتأثير الأصْل
العشائري في منزلة الإنسان، زكيّة تؤمن بذلك، وأخوها، وأبناؤها: وحيدٌ،
وأمينٌ، ووداد. وعندما يُتوفّي الزوْجُ المُنحدرُ من آل قحطان، تُضطرّ
للعمل في حياكةِ الملابس، لكنّ أخاها يعودُ من حيفا، ويغدِقُ عليْها، وعلى
الأولاد، بعد حِرْمان، ويصاهرُها فيزوِّج ابنه رشاد من وداد، ويزوّج وحيدًا
- ابن زكية - من ابنتهِ هُوَ رشا، وتطـَّرد حياة الأسْرة ما بيْن نابلسَ
تارةً، وحيفا تارةً أخرى، إلى أنْ يتعرّف وحيدٌ على شيخ الجليل، وهو الاسم
"الحركيّ" الذي تختارُهُ لإمام الثوريّين عزّ الدين القسام.
ينضمَّ وحيد- خلافاً لأخيه أمين- للثوّار، ويُضطرّ، مرارًا، للاختفاءِ في "
حبْس الدم "، قبل أنْ يلاقي الشيخ نحْبَه في حُرْش (العَمْرَة) بيَعْبد.
أما وداد، فقد تاهتْ بها السبلُ، لأنّ زوجها الطائش تزوّج عليها واحدة
أخرى، وتبيعُ مصاغها لتنشئ به مع (عليا) صالونًا لتجميل النساء، وعليا
تخُطبُ، ويوُأدُ المشروعُ في مَهْدهِ. وروزا الأميركيّة تجيء لتنشئ مدرسة
زراعيّة باسم أبيها (خضوري) لتضمّ طلابًا عَرَبًا ويهودًا، بيد أنّها تخفقُ
في تحقيق هذا المَسْعى، مثلما تخفق في إنشاء كليّةٍ للتمْريض، نظرًا
لمُعارضةِ وايْزمَنْ، وبن غوريون، وأخيرًا جابوتنسكي. وتنتهي الرواية
بمحاصرة كلٍّ من روزا، وليزا، والحاكم البريطاني- سير آرثر - في السَّرايا
بالقدس، ومعهم أمين، وواصف، والمخرج الأميركي، وآخرون.. فيما يشْبهُ
الإعلان عن قيام الدَّوْلة العبْرية، لتذهب تضحياتُ الفلسطينيّين هباءً
منثورًا، لأنها، في رأي السارد، انتفاضاتٌ عَفَويّةٌ، مرْتجلة، ساذَجَة،
تفتقرُ للتنظيم، والوَعْي، والصِّدْق. والذين قاموا بها من الفلاحين، وهمْ
يفتقرونَ إلى "الأصْلِ والفَصْل"، مثلما جاءَ على لسان زكيّة في سياقٍ
مُخْتلف.
ويتضح أنّ شقيقها، وإسحق شالوم، يعملان معًا في تهريب السلاح من الخارج
ليذهب إلى المُسْتوطنين، وعندما يكتشف وحيدٌ ذلك يسمع أحَدَ العمال، وهو
يقول: " خالك مِسْكين، وأهْبَلْ، يتعامل مع اليهود، يؤمِّن لهم السلاح
ليقتلوا به الثوّارَ، وأنَّ رشادًا، صهْرهُ، طائشٌ، لا هو سكران، ولا صاحي"
. وهذا الكشفُ يرْمِزُ- في هذا الموْقِع بالذات- لشيءٍ لطالما خفيَ عن
ِالقرّاء، وعن العارفين بتاريخ فلسْطينَ، وهو أنّ بعْضَ الفِلَسْطينيين
أسْهموا في تسهيل هجْرة اليهود إلى فِلسْطينَ، وتزويدِهِمْ بالسّلاح: "
ذهبَ إلى الميناء، وَجَدَ خالهُ يأمُرُ، وينادي، من يحمِلُ صناديقَ
البرْتقال، وتنك الزيْتون.. إذاً.. هنا يحْدُثُ كلّ هذا. صناديقُ سِلاح،
وتهْريبُ موادّ، وتغييرُ ملامِح فلسْطين. " ولإضفاء بعض المنطق على هذا
الموْقف، تركّزُ الكاتبة على زيارةِ وحيد، وزوجته، لكيبوتس عَخْشافْ، ففي
هذه الزيارة يوقنان أنّ اليهودَ مثقـّفون، ومزارعونَ، وأنّ خبْرتهم
بالزراعة، وغرْس الزيتون، تفوق خبْرة العربيّ، والفلسطينيّ، بمئات
المرَّات، وهمْ – بما لديْهم من تقنية- يستنبتون من الزيتون في عشْر سنين
ما يضارعُ الزيتون الرومانيّ الذي تضربُ جذورُه في الأرْض منذ ألفيْ سنةٍ،
وأكثر.
والتركيزُ على الفوارق الثقافية بين العرب، واليهود، ينتهي، وفقاً للمنظور
الذي يرنو منه السارد للموضوع، إلى أنَّ اليهود أرْقى، ويتصرفون تصرُّفَ
الملائكة، في حين أنّ العربي، والفلسطيني، خاصّة، لا يتصرّف إلا تصرُّف
البدائيّ، الذي لا يعْرف الحضارة، ولا الحضارة تعرفه. فاليهوديّ أطيَبُ
قلبًا من العربيّ، لدرجة أنّ رشا، زوجة وحيد، ابن المدينة، الذي ليس
لبّانًا، ولا ابنَ لبّان،خلعتْ، متأثرة بطيبة قلب سارة، إحدى أساورها،
وقدمتها هدية لها: " ما كانَ منها إلا أنْ نزعتْ سواراً من أساورها،
وألبِسَته لسارة دليل عرفان، وصداقة، وبداية عهدٍ جديدٍ من التفاهم،
والانْسجام، لأنّه- مثلما قالتْ سارَة بإيمانٍ- الناسُ للناس. "
وفي الوقتِ الذي تصفُ فيهِ الكاتبة اليهود بالطيبة، والروح الملائكيّة،
يبْرزون في موقع آخر بخلاف ذلك، فجفيرت شالوم التي تنحَدِرُ من أصل روسيّ،
وبولندي، لا تخفي شعورها بالاسْتعلاء، على الفلسطينيّ، والعربيّ، فعندما
قامتْ بتقطيع كعكة الميلاد، وتوزيعها على الحُضور، أنِفَتْ أنْ تقدم لوحيد،
وزوجتهِ، ما تقدمه للآخرين، مما أشْعَرَهُما بالخجل. وهذا شيءٌ يتكرَّرُ
عندما يجري الحديثُ بين روزا والحاكم الإنجليزي عن مشروع المدرسة الزراعية،
بحضور وايزمن، وبن غوريون، فهما لا يَجِدان ِحَرَجًا في تشبيه العرَبِ
بالدَّواب.
وتتحول الشخصيّاتُ، في هذه الرواية، منْ موْقِفٍ لآخر، تحوُّلا سَريعًا،
مُفاجئًا، دون أن يوطأ له بمقدِّماتٍ تجعلُ منه تحوّلا ممكناً، أو
متوقعًا، على أقلّ تقدير. فعلى سبيل المثال، يتحوَّلُ وحيد إلى ثائر في
صفوف القسّام على نحْوٍ مُفاجئ، ويتحوّل أمين - الطالب في المدرسة- إلى
خبير سياسيٍّ ذي تجْربَةٍ عميقةٍ، وطويلة، فوْر التقائه بالشيْخ ؛ فهو
يخاطبُهُ بكلام لا يَصْدُرُ إلا عمّن عركته السِّياسَة عَرْكَ الرَّحى: "
أنت تحرّض البسطاءَ، وتدفعهم للانتحار، ماذا لديهم؟ سلاحٌ عتيقٌ لا يصلح
لصيْدِ العصافير.. ووضْع دوليّ مُتحيّز.. وجوٌّ عربيّ ممزَّق.. لا يعْبأ
بهمْ.. أنتَ يا سيّدي الشيّخ تجازفُ.. منْ يرْعاكمْ؟ حتى القدْسُ لا أحدَ
فيها يهتمّ بكمْ. لماذا التضحيةُ بلا طائل؟ لماذا الموتُ بلا مُقابل؟ وأخي
هذا لماذا تورطه؟ ". مع التذكير بأنّ منْ يقولُ هذا الكلام ما يزالُ على
مقاعد الدَّرْس.
وليت المؤلفة تقتصرُ على هذا " المطبّ " وهو أقرب إلى الفنّ منْه إلى شيءٍ
آخر، فهي تصرُّ، في موْقعٍ ثانٍ، على أنّ أتباع الشيخ كانوا: إمّا لصوصًا،
وإما مُجْرمين، وقطاع طرق، وأنّ القسام سَمِعَ بأعْمالهم، فامتدحهُم،
ولقبهُم بالأبطال، والمُجاهدين، ولهذا سرعانَ ما انضمّ هؤلاءِ اللصوصُ
إليْه، فرحَّبَ بهم، و"احتواهمْ " ومن هؤلاء الزيبق الذي اعتاد الانحراف
منذ صِغَره. يقول الراوي في موْقع ثانٍ، واصفًا أتباع الشيْخ، وثوارَه: "
تنظيمٌ يضمّ اللصوص والمشرَّدين، وهذا ما لا يخْجلونَ منْهُ، لأنَّهُم
أصبحوا شرفاءَ، وأتقياءَ، بفضل الثوْرَة، والإيمان ". وعقيدة هؤلاء الثوار
تساوي بيْن " السَّرقةِ والجِهادِ " ومن غريب ما يلفِتُ النظرَ، في هذه
الرواية، تشويه الكاتبة لتاريخ فلسطين، فالذين اعتادوا أنْ يَهْتفوا
" يا ظلامَ السِّجْن خيّمْ .. إننا نهوى الظلاما"
باتوا في الرواية لا يحترمون من يُسجن؛ فوالدُ محمود – ابن الجيران- غيرُ
راضٍ عن ابنه، ويتأفـّف منه، لكونه يعمل ضد حكومة الانتداب، ويُسجَنْ غيْرَ
مرَّة. وفيما بعْد، عندما تنضج شخصيّة أمين، ويصبح صحفيًا، وكاتبًا، يُظهر
من الوعي ما لا يتـّفقُ مع زمن الحكاية. والواقع أنّ لدى المؤلفة مُشكلةً
مع الزمَن، فقد ذكرت أنّ وداد حاملٌ في أول الرواية، واستمرتْ كذلك حتى
الفصول الأخيرة، بمعنى أنّ الأحداث لم تتجاوز مدة الشهور التسعة، إلا
بقليلٍ، في حين أنّ بقيّة الحوادث، ومنها ثورة القسّام التي بدأت في
الرواية، تستغرق تاريخيّاً بضْع سنوات، وهذا معروفٌ. ويتضحُ هذا الإشكالُ
حين تعاتبُ وداد أمّها لتزويجها من رشاد، فتقول لها: ولكنَّكِ وافقْت ِ،
فتردّ وداد، قائلة: كنتُ صغيرةً، مع أنّ الفرق بين هذا الحوار، وزمن
الزواج، لا يتعدى بضْعَة أشْهُر، فهل كبُرتْ فيها كثيرًا؟
ويبدو الخلطُ في الرواية كبيرًا، وهذا مأزقُ من يحاول كتابة الرواية التاريخية دون اتكاءٍ على مدوَّنةٍ خاصَّة بحبْكةٍ الرواية.
فعندما تَذكرُ الخبيرَ الزراعيَّ الصّهْيونيّ (كالفاريسكي) الذي قدِمَ
لفلسطين من بولندا، مكلفاً بشراء الأراضي لتوطين المهاجرين الجُدُد، تصفه
المؤلفة بالطيبة، فهو يشعر، في الوقت الذي يُخلي فيه الفلاحين من الأراضي
بالقوة، بالذنب الذي يثقل ضميرَهُ – يا حرام!- لأنَّهم " فقراءُ، ومساكين،
ولهم أرواحٌ، ومشاعرُ، أليسوا بشرًا؟ ومع ذلك تحمَّل ذلك كله في سبيل
إسْكان الإخْوة منَ المَهْجَر. " ولا شكَّ في أنّ الكاتبة تتوقع أنْ يقول
القارئ: كثَّرَ اللهُ خيْرَهُ، فهو يقرّ بأنّ الفلاحين الفلسطينيّين بشرُ،
وهو -على الأقلّ - أفضلُ حالا منْ بنْ غوريون، ووايزمن، عجيبٌ أمرُ هذا
المستوطن الملائكي!
صفوة القول أنّ الرواية ما كانت لتُكْتبَ بهذه الطريقة لو أنَّ الكاتبة
قرأتْ تاريخَ فلسطين الحقيقيّ، لا الرسميّ، وصرفتْ النَّظرَ عنْ الجوائز
التي تنْتظرُ الفوْزَ بها في المستقبل بعْدَ أنْ تباركَ الجهاتٌ المانِحَةُ
مثل هذهِ الكتابَة. فالإضرابُ تعدّه سببًا للنكبة، والقسام، وثورته، هما
أصْل المأساةِ، وفصْلها: " أشْعَل الفتيل في غيابِ التنظيم في الشارع،
وخُطبِ القادَةِ، ووجهاء القدس، وغيابِ ستةِ أحْزابٍ، ومشايخ. " وهو من
الغفلة بحيث يعتقد- فيما يروي السارد متهكّماً - أنَّ ثورته ما إنْ يُشعل
الفتيل حتى تمتد إلى السودانَ، والمغرب. ولا يفتأ يُعلّلُ هذا الإخفاق من
منظوره، لأنّ الثورة عنده ليست للأنقياء حسْبُ،بل للأشقياء فيها نصيبٌ.
وإلى جانب هذه المزالق، التي لا يحبُّ القارئ الوقوفَ عليها في النصّ، ثمة
مزالق أخرى، من بينها أنَّ الكاتبة ليْسَتْ على دراية كافيةٍ بالمكان
الفلسطينيّ، مما أوقعها في بعض الأخطاء، منها أنّ القسام، وثوّاره، خرجوا
من حيفا – وهي المرة الأولى، والوحيدة، التي تذكرها الرواية- باتجاه(
يَعْبد) وفي الطريق يقترح (الزيبق) الاستراحةَ في مَغارَةٍ مُطلةٍ على عيْن
جالود، وفي الصباح حين أفاقوا، وانطلقوا، وجدوا أنفسهُم في حُرْش
ِيَعْبَد. والحقيقة أنّ المسافة بين المكانيْن كبيرةٌ جدًا، فعين جالود تقع
في وسط المسافة بين قضاء بيسان وقضاء جنين، أما يَعْبَدُ فتقع على الطريق
التي تصل عرّابة بنابلس. علاوة على أنّ الشيخ اسْتشهد في أحراش (العَمْرَة)
على مسافة ستة كم منْ يَعْبد، ومارسَ النضال، والقتال، لسنواتٍ قبل أن
تنتهي ثورته هذه النهاية، فقد كان أعلنَ عنْ حرَكتهِ في جامع الاستقلال
بحيفا سنة 1929واستُشْهد في نوفمبر من العام 1935. وكانت حركته تلك
مُقدّمةً لثوْرَة 1936 وأكثرُ قادتِها من القسّاميّين. وأورد إحسان عباس في
" غربة الراعي " رواية شاهد عيان عن هذا الرجل الجليل، لتأتي الكاتبة
فترسُمُ له مثل هذه الصُّوَرَة، لا لشيء إلا لأنّ ثورته كانَ عمادُها منَ
الفلاحينَ، وَهُمْ - في رأي زكيّة- لا أصلَ لهُم، ولا فَصْل(1).
(1) تقول زكية عن (عليا) ابنة قرية (برقة) ما يأتي: " مهما تصنعت فهي ابنة
أبيها الفلاح، أبوها اللبان، أبوها الفلاح ابن الفلاح، يعني مهما ترقّت
ابنة اللبان فهي فلاحة ابنة فلاح". كأنّ كون الإنسان فلاحا عار يعاب عليه.
د. إبراهيم خليل*
* ناقد من الأردن