** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 محنة العقل في أفق العلم : نحو استشكال الماهية والآثر في الفلسفة الألمانية المعاصرة. يوسف أشلحي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

محنة العقل في أفق العلم :  نحو استشكال الماهية والآثر في الفلسفة الألمانية المعاصرة.  يوسف أشلحي Empty
27092012
مُساهمةمحنة العقل في أفق العلم : نحو استشكال الماهية والآثر في الفلسفة الألمانية المعاصرة. يوسف أشلحي

محنة العقل في أفق العلم :

نحو استشكال الماهية والآثر في الفلسفة الألمانية المعاصرة.

يوسف أشلحي



إن النظر إلى التقنية بما أنها “قدر العصر” “das Schicksal des Zeitalteres
لم يكن فقط من قبيل الوصف المبالغ فيه، بقدر ما سيكون ضرباً من الاستشعار
القبْلي والحدس الفلسفي السابق لأوانه، أو هو خلاصة نظر بعدي، إنبنى على
جلال أثر العلم وجلاء وقع التقنية. حاصل ذلك، أمكن للعلم والتقنية أن تصير
العنوان اللافت للراهن بما هو زمن تقني، بما له من دلالة مفصحة عن روح
العصر بما هو زمن رقمي.

إذا كان المقام الذي أدركه
العلم بادياً في أبسط نظرٍ يروم تحديد تعينات التقنية، فآنذاك لن يكون من
سويةِ الأمر الإقرارُ بحاصل النظرة التعينية، دون موافاتها بالنظرة
التعقلية. وبعابرة استشكالية ؛ كيف نتلمس وجاهة لراهن الفلسفة أو وجوداً
حياً لها، إذا لم تساكن عمق الراهن، أو لم يساكنها همُّ العالم؟. فربَّ
أصالة فلسفية تتجلى بفعل فرادة الصلة التي تسعى إلى تجسيد مفعولها، قبالةَ
أي وضع أو موضوع ينبثق نحو معطى وجودها. بما هو متحيز في وجودها، لكون ذلك
السبب الكفيلُ للنظر الفلسفي، لكي يؤمِّن وجوده ويمتن استمراره.

ولما كان تاريخ الفلسفة ما هو
إلا ضرب من تجديد الصلات، فليس من غريب الأمر على الفلسفة من أن تجدد الصلة
القائمة راهنا بين الفلسفة في عمومها و” فلسفة الأخلاق
” في خصوصها. وبين العلم في عمومه و” التقنية ” في خصوصها. إذن فقبل المضي
في أي نمط من الاستشكال لتاريخية الصلة بين التعقل الفلسفي والتعيّن
الطبيعي (الفيزيقي). يتعين علينا تحديد طرفيّ العلاقة بما هما عبارة عن
نمطين من الانكشاف الخاص للصلة الآنفة. ونعني بذلك معنى الأخلاق؟ ومعنى
التقنية ؟.

فليس بخافٍ على مدرك، أن حضور
الحكمة الأخلاقية يرتد قرونا إلى القدامة، ارتداد الحضارة الإنسانية ذاتها
على القدامة. بيد أن الإقرار بنضج عناصرها الفلسفية. لم يكن ليبرز إلا مع
اليونان ” فمعلوم أن اليونان استعملوا للدلالة على هذا الموضوع لفظ Ethikos” (أي خلقي) وهو الذي نقله اللاتين إلى لغتهم بلفظMoralisوقد استعمل المتقدمون من فلاسفة الغرب اللفظين بمعنى واحد باعتبارهما مترادفين، وإن كان نجد بينهم من يؤثر استعمال هذا اللفظ أو ذاك، أما المعاصرون منهم ؛ فأبوا إلا أن يفرقوا بينهما “.

وإذا كان من اليسر بما كان
تبيان مدلول الأخلاق في اللغة العربية، فإن الأمر أعوص ما يكون في اللغات
الأوربية، حيث أن الترسيم اليوناني للأخلاق “Ethos” سرعان ما صيره التداول التاريخي إلى انطباق تعددي، حتى بات يعسر معها الأمر إقامة تمييز محدد لعوالم كل واحدة على حدة.

إن تقرر أمر تضارب الدلالة
المفهومية، فإن التضارب عينه نلحظ واقعه على مستوى الدلالة الإصطلاحية،
وذلك ما يكشف عنه المعطى التعريفي بصدد تحديد الأخلاق. رب تعريف قديم يرى
في حال الأخلاق رأي فلاسفة اليونان بما هي حال النفس، يسير المرام عبرها ” أن يكون الإنسان مرتاضاً بمكارم الأخلاق ومحاسنها، ومنزها عن مساوئها ومقابحها. آخذاً في جميع أحواله بقوانين الفضائل، عادلاً في كل أفعاله طرف الرذائل“،
إلى حيث تعريفٌ من جملة التعريفات الحديثة، يرى في الأخلاق، إنه علم ينصب
نظره على أحكام القيمة في ارتباطها بانطباق الأفعال، إن تحسينا أو تقبيحا،
أو هي جملة من الأحكام المقررة عند مجتمع معين في زمن محدد.

أما بخصوص مفهوم التقنية Technik،
فإن شأن آمرها شأن الأخلاق من حيث أَوْبَة مفهومها إلى الجذر اليوناني.
فلفظ التقنية، كما يشي بذلك مارتن هيدغر، ينزح إلى الكلمة اليونانية (Techne)
(التخني). ومن حيث معناها التداولي، نجد أن دلالتها تتراوح بين فعل
الصناعة اليدوية وحصول القدرة عليها، إلى جانب ارتباطها بالفنون الجميلة.

بذلك استوى حمل مفهوم التقنية
على ثلاثة ضروب من التصورات الكبرى: هناك تصور يحمل مدلول التقنية على
المعنى الصناعي، وضرب ثان من التصور يرى في فعل التقنية تجسيداً للفعل
الإنساني (الأخلاقي، الاقتصادي والسياسي). ونمط أخير من التصور يربط مدلول التقنية بالفنون الجميلة beaux arts. بيد أن التداول الحالي للتقنية أمْيَلَ إلى تزكية التصور الأول بما هي فعل صناعي.

ماذا عن روح الاستشكال التي
تطرحه التقنية راهنا ؟. رب نظرة أركيولوجية صوب فاتحة إشكالها لدى اليونان،
من شأنها أن تٌُنير لنا عمق الإشكال الذي تراكم صعُدا إلى أن اشتد وتقوَّى
بما فيه الكفاية، لتزج بالوجود المعاصر في حمأة دوامة، لا مستهلّ لفكاكٍ
يُرجى عبرها.

فالتصور الفلسفي اليوناني،
انطوى على ضرب من التعقيل التأملي للوجود، وذلك عبر تأهيل واجهة العلم
العملي، وبالأساس في شقه الأخلاقي، قاصدا تأمين صلاح الفرد والجمع في إطار
المدينة – الدولة، أو السعي إلى تعقيل علم النظر، وبالأخص في شقه الطبيعي،
قَصد استكناهِ روح الطبيعة كما ظهر أمرُ ذلك بجلاء مع أرسطو طاليس ” لما
كان حال العلم واليقين في جميع السبل التي لها مبادئ وأسباب أو إسْطقسات،
إنما تكون من قبيل المعرفة لهذه، ذلك أن حينئذ إنما نعتقد في كل واحد من
الأمور أن قد عرفناه متى عرفنا أسبابه ومبادئه الأولى حتى تبلغ إلى
اسطقساته، فمن البين أن في العلم بأمور الطبيعة أيضا قد ينبغي أن تلتمس
أولا فيه تلخيص أمور مبادئها
“.

إلى جانب قدامة الصلة التي تربط
عين الإشكال الدائر حاليا حول التقنية في مهدها اليوناني، فإن روح هذا
الاستشكال ما فتئ يكشف بجلاء عن عمق أسبابه ودوافعه وشتى أسبابه، بمجرد
إقامة صلة مع بدء تمظهرات حداثته.

ولعل فرادة لحظة الحداثة، يعود
بالأساس إلى حدث الانزياح الطريف الذي أقيم في مدار التمرحل التاريخي،
والتي كان من بين ما كان من ثمراته، عينُ الاستشكال الراهن الذي نحن عارضون
لأمره. فسِرُّ طرافة اللحظة، ينبني على واقع التمكن من إرساء قواعد كلية
صلبة، تكفل نجاعة كل الانبناءات التي أرسيت تاليا، إنها بالأساس النظرة
التعقيلية التامة بما سعت إلى إحداث انعطاف فلسفي وعلمي متكامل، القاصدِ
تأهيلَ فاصلٍ ومؤِّسسٍ لكل ما من شأنه أن يغني نمط الوجود الشخصي أو
التاريخي الكلي الجديد.

ومواكبةً لنفس مساق النظرة التعقيلية، فإن عمق مشروع الحداثة رام في نفس الآن الانطباق الفعلي، بما يمكن وسَمْه بضرب من ” التعقيل العلمي للطبيعة
” طامحا من وراء ذلك حيازةَ مفاتيح الغلْق، التي بمُكْنتها فكُّ شفرة
الطبيعة وإدراكُ لغز الكوسموس. ولعل جلاء الإفصاح الآنف، لكامن في مسعى غاليليه لترييض الطبيعة “Mathematisierung der Natur“. أو من خلال النظرية الميكانيكية والآلية أفصح عن مرامها ديكارت ” إن
ديكارت كشف لأول مرة على الأقل من ناحية الوعي التام بقيمة هذا الاكتشاف،
كشف أن العالم هو آلة كبيرة، وآن الأجسام المادية الحيوانية وحتى جسم
الإنسان ذاته هي عبارة عن آلات تحكمها قوانين ثابتة، هذا هو التعليل
الميكانيكي للوجود الذي سوف يصلح عماد الجدلية الحضارية ذات الاتجاه
التكنولوجي
“.

إذا كانت مرحلة الحداثة أرهصت
بشكل حاسم لمآلات العلم التي بتنا نشهد ونشاهد الأفق الأخير لها راهنا. فإن
ثمار هذا التنظير نرى له من التعينات التي ما فتئت تؤثث فضاء الكون وبنية
العالم بما لا يكاد يُحصّى ويُعصّى أمره. حتى بدا معه الوجود المعاصر في
قَذْفِ من طوفان التقنية، وصار الإنسان في خضم هذا الزمان الرقمي في حيرة
مدوية من أمره، وهو تُلاطمه أمواجُ المعلومة وإفرازات الديجيتال.

وهي حيرة باتت تفرض ذاتها على
الفلاسفة، وصارت تتسلل لتتوطن معقل الفلسفة؛ بذلك اكتسحت وأزالت الإشكالات
التليدة من موطنها وموطئها، لتصبح المسكن المستجد وليس الأخير بالنسبة لها.
بما أن التقنية هي جبرية العصر الحالّة في ضيافتنا، أو كما استشكلت أمرها
الفلسفة الألمانية في توصيف لها، يحدد موضعها الذي أَهَّلها لكي توسم بـ ” قدر العصر ” “ein Schicksal des Zeitalters“. وهو عين الاستشكال الذي ننقل رِحالَه ونُجري فحصاً لعلل تكونه، ومعلول تعيناته في رحاب هذه المحاولة.



I- مـحك التقنية في رحاب النظر الأونطوفينومينولوجي :

إن الأثر الذي أفصح عنه تصيُّر
العلم، وما فتئ ينير دربه الانجلاءات التقنية المعاصرة، بما أن هذه
الصيرورة اهتدت بشكل حاسم إلى حيث استطاعت ترسيخ قدمها وإنعاش مشروعها بشكل
خصب، كما بدا ذلك ساطعا عبر سيولة انطباقاتها في الزمنية المعاصرة. ولعل
واقع الأثر ذاك وآنذاك، شكل منطلق النظر ومبعث النقد الذي سيجترح عِلَلَه
فلاسفةُ مدرسة فرانكفورت. في تزامن مع ذلك، نلفي ضربا آخر من الاستشكال
الفلسفي الفريد einzigkeit ، بما أنه لم يؤسس مهمته
تالياً على الأثر، يقدر ما رام ممارسة نمطاً أثيراً من الحدس القبلي. وذلك
من خلال معاينة التصيّر الذي آلت إلى تمامه ذاتية المشروع العلمي، وماهية
التبدل الذي طرأت على التقنية. وهو عين الاستشكال الماهوي الذي استشكل
أمرَه كل من إدموند هوسرل ومارتن هيدغر.

1- التوصيف الفينومينولوجي لـمحنة الفلسفة والعلم في الراهن :

انسجاماً مع المهمة المعهودة
الكائنة على عاتق كل فيلسوف بما يقتضيه المقام من استنسال السؤال، بما هو
تعبير عن استشكال راهنه، بما أفضي إليه أو بما سيؤول إليه، وبما أن كل نقد
ينبني بالأساس على فرط انفلات يشي به التمشي التاريخي، بما هو مشير ومؤشر
على حدوث أزمة، وهي عين القناعة التي نلفى حضورها الملفت عند إدموند هوسرل
وبالأساس في كتابه ” أزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا الترسندنتالية “.

بما أن مكمن الأزمة في المقصد الهوسرلي ” أزمة
هذه العلوم في علاقتها مع الإنسان ومع عالم حياته اليومية، وهي تتجلى في
أن العلم والفلسفة أمسيا عاجزين عن معالجة الأسئلة التي تلتصق بالإنسان،
أسئلة المعنى والتاريخ والحرية
“. ولعل علة الأزمة التي استشرى
أثرها بشكل بارز في اللحظة الحاضرة، بما لا محيد عن فهم خيط انتسابها إلى
عمق لحظة الحداثة، هي روح المهمة التي راح هوسرل يحدد مناط خَلَلها ؛ إن في
كتابه ” أزمة العلوم الأوربية…” كما هي ممثلة في سيادة النزعة الموضوعية، أو هو الأمر المماثل الذي سيعمد اجتراح علته، وذلك في كتابه “الفلسفة بوصفها علما دقيقا ” كما هو ممثل في سيادة التمذهب الطبيعي. وتوسلا بالمنظار الفينومينولوجي، سيعمد هوسرل إلى إيضاح مظاهر ” سيادة
النزعة الموضوعية التي تجعل من علم الطبيعة الرياضي نموذجا للعلم وتعتبر
أن كل دراسة لا يمكن أن تكون علمية إلا إذا حققت المعايير التي بلورها هذا
العلم. لمواجهة هذه النزعة يقوم هوسرل بتحليل فينومينولوجي تاريخي لعلم
الطبيعة الحديث يستهدف الكشف عن الافتراضات الضمنية التي استند إليها والتي
ساهمت في تحديد المفهوم الحديث للعلمية
“.

وحده هنا في نظر هوسرل، يصير
للمنهج الفينومينولوجي وجاهةَ الكشف عن جذر ومكمن العواصة الذي تراكم
ليستحيل إلى أزمة. ما فتئنا نعاين، ويعاني من لوعة أثرها الوجودُ المعاصر.
وبألفته، يمضي هوسرل في حصر معالم الدلالة المبدئية لمشكل أصل علم الطبيعة
الرياضي في ” التحول الذي طرأ على تكوين المعنى الحي الأصلي وبالنتيجة على وعي المهمة الحي الأصلي الذي نشأ عنه المنهج في معناه الخاص في كل حال. وهكذا فإن المنهج الناشئ التحقيق التدريجي للمهمة، هو منهج فن (Techne) يتم توارثه، لكن لا يتم توارث معناه الحقيقي تلقائيا “، وقد أتاح الاستقصاء الفينومينولوجي بالنسبة لهوسرل إنجاز تحليل رصين لفعل التقننة Technisierung، ومدى أثرها في فراغ علم الطبيعة الرياضي ” يجب
أن نأخذ بعين الاعتبار تأثير تقننة العمل الفكري الرياضي الصوري… بحيث
تتمكن التقننة من كل المناهج الأخرى الخاصة بعلم الطبيعة… إن كل منهج يحمل
بمقتضى ماهيته طابعا سطحيا. هكذا خضع إذن علم الطبيعة عدة مرات إلى تحول
وحجب للمعنى
“. حتى بات من أوبل المآلات التي تمخضت عن سيادة النزعة الموضوعية Objektivismus، تتبدى جليا في أيلولة عالم المعيش Lebenswelt إلى محض ضرب منسي Vergessenes لعلم الطبيعة.

………………التتمة في العدد

نيتشه والحقيقة

ريمون غوش

أ- جدلية العلاقة بين الفكر الحرّوالحقيقة:

يتصف الفكر الألماني بأنه يعشق
العقل ولا يسلّم إلا بمعطياته اليقينية النابعة من التجارب، وبالتالي، فإنه
يتميز بالبراغماتية. ولكن حين يصطدم بعقبات كبرى يعود ويلجأ إلى الإيمان
والاعتقاد. وقد عبّر عن هذا الواقع خير تعبير الأديب الفرنسي ستاندال في
هزئه من الفلاسفة… فعندما يقول أحدهم: “يطيب لي أن أعتقد”، فهذا يعني أن
عقله لم يعد يجد الحلول للمشكلات التي يعالجها، فيلجأ إلى الإيمان. أما
المفكر “لوسيان لوين”، فقد ذهب بعيداً في نقده لطرق التفكير الإلماني، وقد
تناول هذه القضية باستخفاف، إذ يقول: “عندما يكون الفيلسوف الألماني قد وصل
في بحثه إلى الاسنتاجات المنطقية، يعود إلى الإيمان ليفسّر ما عجز العقل
الألماني عن أن يقدمه”.

وينطبق هذا الأمر بدقة على
نيتشه بطبيعة الحال، إذ أنه يتناول الحقيقة تماماً كاللا حقيقة، ويهزأ من
الفلاسفة التقليديين الذين ألّهوا الحقيقة وجعلوا فلسفتهم تدور حولها،
كأنها الأمل المرتجى، وهي بمثابة خشبة الخلاص في حياتنا. لقد احتقر نيتشه
سلطان العقل، وكان همّه الأساسي إبعاد أية فكرة تؤسس لأي عمل كان، ورفض كل
استنتاج ينبثق من هذه الفكرة أو تلك، كما هي الحال والعادة في المفاهيم
الكلاسيكية. وهو يعتقد أن كل عمل إرادي يهدف إلى تحقيق المطلق سرعان ما
يجعل الفكرة تتناقض مع ذاتها. فلكي يحظى التأمل الفلسفي بسبر أغوار الأشياء
ودرسها بعمق، عليه أن يستند إلى منطق قوي وأن يشكّك في النتائج التي وصلت
إليه. كما أن التحليل الفلسفي يتطلب من المفكر التمتع بعقلٍ حر إلى أقصى
درجة. والفيلسوف الواثق من فكرة سرعان ما يتساءل عن ماهية آخر حقيقة وصلت
إليه وعندئذٍ يتأكد من أنه ما من أحد باستطاعته أن يطال الحقائق بشكل نهائي
ومطلق. لذلك يعتبر نيتشه أنه يجب تناول الحقيقة كتأويل وتفسير لأنها
تتكوّن بالواقع من مجموعة تفاعلات متداخلة وناشطة بين الغرائز. وتعمل دون
كلل في خدمة علاقات وتجمعات منظمة، وتمتحن نفسها بشكل عام. والمقصود
بالغرائز عنده إرادة الاقتدار، أي نزعة جارفة غير محدودة تغذّي حركة
التأويل أو الشرح أو التفسير. فالغريزة لا تكوّن الكائن الأونطولوجي، ولا
تطرح إشكالية، وبالتالي لا توصلنا إلى الموضوعية العلمية كونها تعمل وفق
تأويلات متنوعة ومختلفة، فلا يمكن الركون إليها. إن قراءة الواقع مهما كانت
قوية من حيث أنها تبعد الأفكار المسبقة والمنطق الضعيف، فإنها تبقى في باب
التفسيرات. وهذا يعني أن كل حقيقة هي تأويلية وضرورية لجنسنا البشري.

إن تفكير نيتشه يقودنا إلى
نتيجة تبعث على الدوار، ذلك أنه إذا كانت الحقيقة تدخل في لعبة الغرائز
الأزلية، فالفيلسوف ليس غريباً عن هذه اللعبة، وعليه أن يلعبها بامتهان. إن
فهم هذا المنطق وقبوله يصنع حتماً الفكر الحر الذي اعتبر العمود الفقري
عند نيتشه.

وثمة جدلية قائمة بين الحقيقة
والفكر الحرّ، وقد تناول نيتشه هذه الجدلية في معظم كتبه… وأكّد أن الفكر
الحرّ عليه أن يتخلّص من الإرث الثقافي والعلمي والديني، وأن يحلّق على
القمم ليحصل على النشوة بعيداً عن الحياة اليومية. على المرء أن يتحرّر من
علائق المجتمع، ويهتم بذاته وبفرديته، وبالأنا التي طالما حاول الإنسان
تدميرها. لقد تعلّم الإنسان أن يحارب نفسه ونزواته ورغباته لأنها تعود عليه
بالأشياء السيئة. فطالب نيتشه في المقابل، بأن يعود إلى الجسد والغرائز
وتموّجات الرغبات، كي يحصل على لذة الحياة ولْيقبل عليها كالمجنون.

إن جدلية الحرية والحقيقة تتطلب
من كل مَن يريد أن يكون مبدعاً في الخير والشرّ، أن يكون أولاً مدمّراً أو
أن يحطّم القيم: وذلك لكي يتحرر من وطأة “الموروث” الذي يكبّل الإنسان
ويمنعه من الصعود إلى أعالي الجبال ليرى الأودية السحيقة. يقول البعض
بشرعية وجود فكرة الحقيقة كالعلماء والمفكرين ورجال الدين، وذهبوا بعيداً
في جعل الإنسان الذي يحصل على حقيقةٍ ما يعمل بموجبها. وعلى الفيلسوف
بالذات، أن يكون حازماً في نتائج عمله العقلي، بعد أن يكون قد شكّك وطرح
الأسئلة حول الموضوع المطروح. وهذا يعني أنه من واجب الفيلسوف، خدمةً
للحقيقة، أن يكون جريئاً بالتضحية بكل آرائه واعتقاداته ومنافعه الذاتية
التي يتبيّن أنها بعيدة عن جوهر الحقيقة التي يفتّش عنها. إن واقع الدفاع
هذا يضع الفيلسوف في مرتبة متساوية مع سائر الناس، ويبعد عنه أي امتياز.
كما كان الحال بالنسبة الى سقراط الذي استخدم فن الخداع الذاتي في تساؤلاته
مع محاوريه… وهذا ما جعل التطبيق الكلي للفلاسفة يُكذّب نظرياتهم. يقول في
“نَسَبِ الأخلاق”: “ولنأخذ أهم آراء الفلاسفة القدامى والمعاصرين، فلم
أحظَ على فلسفة واحدة لديها درجة من الوعي فيما يتعلق بإرادة الحقيقة،
لأنها جميعاً تفتش دائماً عن تبريرٍ لأعمالها. وهذا الأمر يخلق حماقة
ترتكبها كل فلسفة”.

ويسأله البعض فيما إذا كان
واحدنا عليه أن يقيم مثالاً له؟ فيجبيه نيتشه، هل التطور الحياتي يتطلب منا
إقامة مثال، أم إسقاط مثال؟ وهل تساءلتم كفاية عن ثمن قيام أي مثال، وعن
إمكانية وجوده؟ ولتحقيق هذا الأمر، كم من مرة أخفينا الحقيقة وغفلنا عنها ؟
كم من مرة برّرنا أكاذيبنا وضعضعنا ضمائرنا وضحّينا بالمقدسات؟! ويختم:
حتى نستطيع أن نشيّد معبداً، علينا هدم آخر. وهذه هي القاعدة. فليبرهن لي
أحدهم وقوع حادثة واحدة تخالف ما قلته!… في الواقع، نحن الرجال المعاصرين
إننا ورثة التشريحات الحيوانية لضمائرنا، وكم من طريقة سيئة طبَّقناها على
أنفسنا خلال الآلاف من السنين. يقول إن الإنسان نظر إلى نفسه بعين سيئة،
وخاصة إلى ميوله الطبيعية، بحيث جعلها متماثلة مع “الضمير السيء”. وهذا
يعني أننا جعلنا المثال عدو الحياة لأنه يلزمنا أن نضحي بغرائزنا،
وبأحاسيسنا، وبطبيعتنا، من أجل إعلاء شأنه وعبادته.

في هذه الجدلية الطامحة إلى
تحقيق المثال التقليدي، نقع في الالتباس، ذلك لأن هذا المثال هو مدّمرٌ
للحياة، وقاتل للحرّية ولمتطلبات الإنسان على هذه الأرض. إن المثال
التقليدي يبعدنا عن الحياة الرغيدة على هذه الأرض، ويطلب منا التضحية بكل
شيء من أجل تكريس سلطة المثال الذي نبدعه. وإذا خالفنا هذا الأمر سيقف
ضدّنا كلّ الصالحين من الرجال، وكل الحكماء وغير المبالين والتوفيقيين
والسطحيين والمتعبين.

ويلاحظ نيتشه أننا ندمّم أنفسنا
أو ندمرها إذا نظرنا إليها من علياء مثالنا هذا. كما نرى أن العديد من
الناس يقف إلى جانبنا ويدفع بنا إلى الاقتناع بما نحن ذهبنا إليه. ولكن
المطلوب هو النقيض، علينا أن نجد نمطاً آخر من التفكير وجنساً آخر من
المفاهيم: علينا أن نجد مفكرين قَوَّتهم الحروب والانتصارات، إذ أن
الاكتشافات والمغامرات والأخطار، وحتى الآلام، أصبحت ضرورية لهم، هؤلاء
أصبحوا معتادين على الهواء الناشف في المرتفعات، ولا تغيرهم عادات المشي في
الشتاء وعلى الجليد، وفي الجبال”. يلزم هؤلاء نوعاً من الخبث والدهاء
العالي، وحسّ للمعرفة وهمّة عظيمة، وذلك لأنه يعتقد أن الإنسان في نظره هو ”
حيوان لطيف وباسل وواسع الحيلة، ولا مثيل له على الأرض، وما من متاهةٍ لا
يجد فيها طريقاً له”. ويضيف إنه يعمل ليجعل هذا الإنسان يتقدّم ويجعله أكثر
قوّةً وخبثاً وعمقاً مما هو عليه” ولكن كيف يأتي صاحب هذه القدرات؟

ب- جدلية العلاقة بين المبدع والحقيقة:

يؤكّد نيتشه أنه في زمنٍ ليس
ببعيد، وفي وقت الشدائد الذي يتطلب القوة، لا بدّ من أن يجيء الرجل المنقذ
صاحب الحب الكبير والاحتقار الكبير. سيأتي الرجل المبدع الذي يتمتع بقدرة
رفض تبعد كل الهامشيين وكل الأغبياء، الرجل الذي تكون وحدته مجهولة من قبل
الشعوب والتي تكون كالهاربة أمام الحقيقة. لا همّ لدى هذا المبدع سوى الغوص
في الأعماق، وتَلْف ما يمكن تلفه، والتوحّد مع الحقيقة، ليعود يوماً
ويخلّص هذه الحقيقة المدفونة، ويفتديها بما علق بها من تشوّهات، وما تركه
فيها من مغالطات.

وفي هذه الجدلية، لا بد من أن
يأتي رجل الصيرورة الذي طالما حلم به نيتشه، ليخلّصنا مرةً واحدة من مثالنا
الحالي، أو مما يمكن أن يظهر منه بفعل الضرورة، من قرفٍ كبير، ومن إرادة
العدم، ومن إنكار للقيم. عندئذٍ يدق جرس الظهيرة، وتأتي الدينونة الكبرى.
سيأتي محرّر الإرادة الذي سيحدّد للعالم هدفه، وللإنسان رجاءَه، وهو ضد
المسيح وضد العدمية (…) عليه أن يأتي يوماً.

وبانتظار مجيء الموعود لا عمل
لديَّ سوى الصمت وإلا عليَّ الجلوس في حقل حيث سيأتي الموْعود الذي سيكون
أكثر شباباً مني وله مستقبل ماجدٌ وقوّةٌ تتفوّق على قوّتي. إنه زرادشت.

في هذه الجدلية بين الفكر
والحقيقة، لم يستطع نيتشه أن يصل إليها من خلال فكره كما فعل هيغل، إنما
قادنا نحو نظرية ما ورائية يشحذ منها مجيء المخلص الموعود الذي سيأتي
ويخلّص الفكر من موروثه السيء ويجعله يتلذذ بالحياة ويقبل عليها.

هذا المخرج الذي أنبأنا به هنا،
نراه موجوداً في “ما وراء الخير والشر” أيضاً، وكأنه يكرّر ذاته. يقول في
كلمات الفلاسفة عن الحقيقة وعن جدلية وجودها، وعن ارتباطها بالحرية: “إن
إرادة الحقيقة هذه، كم من الأسئلة قد طرحت عليها! يا لها من أسئلة عجيبة
ورديئة ومريبة! إن لها بالفعل تاريخاً طويلاً، وإن بدا أنه لا يزال في
أوَّله، ولا عجب إذا ما انتهينا إلى الارتياب، إذا ما فقدنا صبرنا
وتَبَرّمنا بالأمر؟ إذا ما علّمتنا هذه السفينكس أن نطرح الأسئلة بدورنا؟
وأصلاً ما الذي يطرح علينا الأسئلة هنا؟ وأصلاً ما الذي فينا يصبو إلى
الحقيقة؟”

لقد توقفنا بالفعل، مطولاً أمام
السؤال عن منبت هذه الإرادة، حتى استقر الأمر بنا كلياً في آخر المطاف،
أمام سؤال أكثر عمقاً، إذ سألنا عن قيمة هذه الإرادة”.

ويضيف نيتشه: هل الحقيقة تأتي
من الضلال، وإرادتها من إرادة الخداع، والفعل الغيري من المصلحة الذاتية،
أو حكمة الفيلسوف عن الشهوة ؟ ويؤكد أن هذه العملية الذهنية خاطئة إذ أن
الأمور لا تتولّد على هذا الشكل. فالأمور السامية لا يمكن أن تأتي من هذا
العالم ومن هذه الدنيا الفانية والخادعة والوضيعة، بل من الإله المخفي
القاطن هناك وليس هنا.

ويستنتج نيتشه أن القضايا
المثالية مرتبطة بالميتافيزيقيين الذين يؤمنون “بأضداد القيم” ولم يخطر على
بال أحد منهم، التشكيك، في هذا المنبع للحقائق، حتى ديكارت الذي قال بأنه
“يشكك في كل شيء”، وذلك لأن لا وجود للأضداد على الإطلاق، وإن ما ذهبوا
إليه ليس سوى “تخمينات سطحية ” تذهب بها من أسفل إلى أعلى. وينهي نقده بأن
كل الموروث الميتافيزيقي الآتي من الفلاسفة التقليديين، لا يوصلنا إلى
الحقيقة، وعلينا انتظار مجيء جيل جديد من الفلاسفة “الذين لهم ذوق ما وميل
ما مغاير ومعاكس لأسلافهم (…) ولنقل بكل جدّ: إني أرى بزوغ مثل هؤلاء
الفلاسفة الجدد”. وبطبيعة الحال، سيظهرون بعد مجيء المبدع الذي سيعطي هؤلاء
الفلاسفة مفاهيمه الجديدة ونظرته المختلفة إلى الكون.

وبانتظار مجيئه ومجيئهم، علينا
أن نعمل على حلّ المشكلات التي تعترضنا، وذلك باستنهاض ” فِطَر الإنسان
الأصيلة المبدعة ” والتي هي أقوى من كل المشاعر القيّمة، لأنها والدتها، في
التوليد المستمر سمو تعزيتها لأنها تفقد أولادها باستمرار. ويضيف: “أية
قوى يا ترى استطاعت أن تخبرنا عن جحد ذلك “الإيمان بالحقيقة”، إن لم تكن
الحياة نفسها بكل فطرها الأصلية المبدعة! هذا يعني أنه لا يؤمن إلا بالجسد
وبالغرائز، وبإرادة الاقتدار التي تقود حياة الأفراد. ويحاول بالمقابل، أن
يبتعد عن آراء الفلاسفة الذين يوهمون الناس بأنهم يملكون الحقيقة بفعل
إلهامٍ يأتيهم على غرار ما يحصل للمتصوّفين، يرى أنهم نفعيون، لا همّ عندهم
سوى تأمين غلبتهم، لذلك يلقّبهم “بالمحامين الماكرين”، إذ يطلقون أحكاماً
ويطلبون منا تصديقها “كحقائق”، “وما أبعدهم عن شجاعة الرأي التي تقرّ، بذلك
بالضبط، وما أبعدهم عن ذوق شجاعة الرأي الذي يفصح أيضاً عن ذلك، يفصح عنه
سواءً لتحذير خصم، أو صديق، أو للهزء من الذات وبفعل بَطرٍ مقدام”.

ج- جدلية العلاقة بين الفلاسفة والحقيقة:

إنه يطلب من الفلاسفة الإقدام
والقوة، وعدم الاسترخاء للمقولات الميتافيزيقية التي تبعدنا عن الواقع
المعيش وعن متطلبات الجسد. يرى مثلاً أن ” كانط العجوز يجرّنا بريائه
المتكلّف والمحتشم معاً، إلى الشعاب الجدلية التي تقودنا، أو بالأحرى تؤدي
بنا إلى “الأوامر” والمقصود بها الأوامر الأخلاقية التي تنبع من الواجب،
وقد توسّع بها في كتابه نقد العقل العملي. وهي أوامر لا شيء يحدّها، وتطلب
منا الوصول إلى المطلق في عملية تنفيذها، مؤكدة أن لا غاية من ورائها سوى
إتمام الواجب على أكمل وجه.

ويعتبر نيتشه أن أوامر كانط في
الأخلاق هي حيل لطيفة تقودنا إلى تنفيذها وتصديقها والعمل بموجبها، وهي
أوهام استقاها من مفهوم ميتافيزيقي بعيد كل البعد عن حياتنا ورغباتنا. إن
هذه الأوهام تدفع نحو الكبت والإخصاء، ولا تحترم حرية الإنسان في فعل ما
يحلو له وانتقاء ما يريده… وبالتالي لا حقائق كما يدعي كانط.

ومثلما حارب نيتشه كانط، هاجم
أيضاً سبينوزا الذي يعتبره مشعوذاً، لأنه يدعّم حقائقه بالصور الرياضية،
كما فعل قبله أفلاطون عندما وضع نظرية المثل والمشاركة، والتي دعّمها
بالأصول الرياضية التي تقوده إلى التجريد. فسبينوزا “يحب حكمته” ويُقنّعها
بالرياضيات ” ليثبط بدءاً عزيمة أي معتدٍ قد يجازف بإلقاء نظرة على هذه
العذراء المحصنة، على أثينا الفتاة. فكم ينمّ تنكّر ذلك الناسك المريض عن
حياة ووهن!”.

يستخلص نيتشه بأن أهم الفلسفات
هي أفكار ذاتية يسقطها المفكّر على الآخرين، ويدّعي أنها أفكار عامة،
محاولاً إبعاد ذاته عن الموضوع. وهذا أمر يعتبره بمثابة استغباء للآخر
وتحايل عليه، لذلك سيقول عن أهم الفلاسفة بأنهم ماكرين محتالون يشحذون من
الميتافيزيقا أفكاراً لإقناع الناس بها، وهي في الواقع أفكار نابعة من
ذاتهم يحاولون فرضها على الآخرين. قال: “إن كل فلسفة كبيرة” حتى الآن هي
نوع من المذكرات، وأن النوايا الأخلاقية أو (اللا أخلاقية) تشكّل في كل
فلسفة “بذرة الحياة الأصيلة التي انبثقت عنها في كل مرة النبتة برمتها”.

بعدئذٍ، يهاجم أبيقور وخبثه،
لأن همّه كان النيل من أفلاطون والأفلاطونيين الذين أسماهم “مدّاحو
ديونيسيوس” والذي اعترف بأنهم “ممثلون ليس فيهم شيء أصيل”. انتقده أبيقور
لأنه كان مستاء من فخامة اللباقة، ومن فن تسليط الأضواء على الذات الذي حذق
فيه أفلاطون وكل تلاميذه.

كذلك رأى في تنظيم الطبيعة من
قبل الرواقيين تلاعباً بالألفاظ. يقول نيتشه “تصوروا كائناً على غرار
الطبيعة، مسرفاً بلا قياس، ولا مبالياً بلا قياس، من دون نوايا ولا
اعتبارات، من دون رحمة ولا عدل، مثمراً ومقفراً ومبهماً على السواء. تصوروا
اللامبالاة عينها سلطاناً، فكيف يمكنكم أن تعيشوا وفقاً لهذه اللامبالاة!
والحياة أليست بالضبط إرادة كون مغاير لهذه الطبيعة؟ (…) إنكم تطلبون من
الطبيعة أن تكون “وفقاً للرواق”، وترغبون في جعل كل الوجود وفاقاً لصورتكم
الخاصة، وحسب، كتبجيلٍ عظيمٍ وأبدي للرواقية وتعميم لها”.

وينهي نيتشه نقده بالقول إن
الرواقية تَسْتبّدُ بذاتها وبالطبيعة أيضاً. وإن ما تدّعيه من حقائق غير
صحيح، وإن حريتها أصبحت أسيرة ما طرحته من مفاهيم ومن العيش وفق الطبيعة.
ما يريد أن يؤكده ضدها هو أن إرادة الإنسان أقوى من إرادة الطبيعة، وأن
الأفراد يعيشون انطلاقاً من ذاتهم وغرائزهم ونزواتهم، وليس بناءً على ما
تطلبه الطبيعة، لذلك يرى نيتشه هنا أن الرواقية ترتكز في ميتافيزيقا من أجل
أن تعطينا حقائقها، وأن المطلوب هو ترك تلك المفاهيم والانطلاقة من الذات
البشرية العاملة على سدّ حاجاتها ومتطلباتها.

في هذا المقام عكف باتريك وتلنغ
على إيجاد علاقة جدلية بين الحقيقة والنسيان، إذ اعتبر أن النسيان عند
نيتشه هو عملية استبطان داخلي يعكس دليل قوة، لأنه يصبح جزءاً لا يتجزأ من
اللاوعي، ويلعب دوره بثقة كاملة. هذه الثقة لا يمكن للفكر الواعي أن يطالها
مهما استند إلى البراهين، لأنه يقع أحياناً في الحيرة، أو يقوم بخطوات
خاطئة في مجال التفتيش عن الحقيقة. إن المعرفة اللاواعية تحدس المعرفة
حدساً، وعبر العرفان تحقّق مبتغاها في تحصيل العلم اليقيني. هذه الوظيفة
المعرفية للوعي تعادل الغريزة عند نيتشه، لأنها تقود إلى المبتغى من دون أن
نفكّر. وهذا ما قصده أيضاً ديكارت عندما قال “بأن معرفة الحقيقة شبيهة
بصحة النفس: عندما نملكها لا نعود نفكر فيها”. وذلك لأنها تصبح مكتسبة
وفطرية في إدراكاتنا. فالنسيان إذاً، لا يعني غياب الشيء المفكّر فيه، بل إدخاله في باطننا بحيث يمكن أن يصبح جزءاً من مفاهيمنا يعكس قوة في ثقافتنا. فالحقيقة
لا تصبح حقيقة فعلاً، إلا إذا هضمناها وأصبحت في باطننا، وتحوّلت دون عناء
فكراً متموضعاً. يقول نيتشه: “إن قوة المعارف لا تكمن في درجة الحقيقة، بل
في قدمها وفي درجة هضمها وفي ارتباطها بشروط الحياة”. فالحقيقة بحدّ ذاتها
هي عملية تفسير للواقع من بين سائر الأغراض والإمكانيات والأهداف. ونظرية
ديكارت في المعرفة تؤكد وجود رابط أساسي بين الحقيقة والنسيان، شرط أن يكون
هذا الأخير قد هضم كامل المعارف التي أدركها الإنسان.

لم يستطع نيتشه أن يتفهّم عمل
الفلاسفة الطويل في تفتيشهم عن الحقيقة، لأنهم ضلّوا الطريق وضلّلوا بدورهم
الناس. فهو يهاجم فولتير على “سذاجة غير مسموح بها-” آه فولتير! يا
للإنسانية! يا للبلاهة. إن للحقيقة وللبحث عنها خطباً ما؛ فإذا ما انكبّ
الإنسان عليه بإنسانية مفرطة- وهو لا يبحث عن الحق إلا من أجل فعل الخير-
أراهن على أنه لن يجد شيئاً !”.

يعتقد نيتشه أن البحث عن
الحقيقة ليس إلا لتضليل الناس، لأن الحقيقة هي نتيجة الخطأ الذي يقع فيه
الإنسان. فكل الفلاسفة عبر التاريخ الذين دافعوا عنها، وطالبوا بها اعتبرهم
“أغبياء وبهائم وثيران”. يقول لهؤلاء الفلاسفة: أتعتقدون أن “الحقيقة
امرأة ساذجة وخرقاء إلى حدّ أنها بحاجة إلى مدافعين: وكأن بها حاجة إليكم
بالذات، يا فرسان الهيئة المحزنة، أيها السادة التنابل (…) أنتم تعلمون
جيداً أنه ليس من المهم البتة، أن لا تكونوا أنتم بالذات على حق، وأن لا
يكون أيّ فيلسوف على حق حتى الآن (…) فمن الأفضل لكم أن تروغوا جانباًّ!
افزعوا إلى الخفاء (…) فاستشهاد الفيلسوف “وتضحيته في سبيل الحقيقة” تظهر
ما كان يخفي في ذاته من ممثّل وداعية محرّض”. وهذا ما حصل لسقراط لأنه أراد
تحدّي السلطة القائمة ولم يترك المدينة مع طلابه.

على الإنسان الواعي والناقد أن
يعي حقيقة الفلاسفة هؤلاء، ويميّزها من حقيقة الحقيقة. وعليه أن يدرك أنهم
يستخدمون الحقيقة في الفلسفة من أجل قمع سائر الناس، وقتل روح التمرد فيهم،
والإندفاع والعنفوان، فكل ما يقدمونه هو ملهاة ساخرة، ذلك لأن كل فلسفة هي
من نشأتها تراجيديا طويلة، بعيدة عن فلسفة القوة وإرادة الاقتدار.

يرى نيتشه أن الحقيقة مرتبطة
بالخطأ، وبأن جميع الوقائع تأتي منه. “فمغلوطية العالم الذي نعتقد أننا
نعيش فيه، تبقى من أي منظورٍ كان، أوثق وأمتن ما يمكن أن يقع تحت بصرنا،
ذلك أننا ننخدع بألف حجة عندما نفتّش عن ماهية الأشياء”. يقف الفلاسفة أمام
الوعي يطلبون منه أن يعطيهم أجوبة صادقة لأن لا يقين عندهم كونهم كانوا
عرضة لأفضل خداع، وجلّ ما وصلوا إليه التخيّل والترائي، ولأن لا فرق بين
الحقيقة والمغلوط وفق نيتشه/ عملية تأويل وتفسير ولا توفّر قاعدة مطلقة.
عندئذٍ نلجأ إلى الوهم كضرورةٍ، نركض وراءه من أجل استقرار الحياة. ونحوّله
حقيقة، نؤمن بها بقوة. فالحقيقة تحوّلت إلى خطأ، فنقول هذا خطأ قديم، وهذا
خطأ سطحي، وذلك أعمق. يقول المناطقة إذا كانت مقدمات القياس صحيحة،
فالعملية المنطقية هذه تقود إلى نتائج منطقية. يعترض عليهم نيتشه قائلاً
ما السبب الذي يدفع نحو هذه القناعة؟ فيجنّ جنون المناطقة لأنهم يعتقدون أن
غرفة العمليات هي الأشياء العينية، ولا يمكن العمل خارج التجربة. يرد
عليهم نيتشه بأنه إذا كان الواقع هو تأويل يقودنا إلى الخطأ والوهم،
فالفلسفة إما أن تكون في موقع غير مبالٍ، أو أن يكون عليها انتظار تدخل
عوامل جديدة في عملية التأويل تلك من أجل تغيير الواقع.

وهل يوجد فرق في الخطأ؟ أخطاء
يمكن دحضها وأخرى لا يمكن دحضها؟ هذا هو خط نيتشه في التأويل المعرفي.
فالمعرفة التي لا يمكن دحضها تكون متجذّرة في قيم فريدة لثقافة معينة هي
نتيجة لاستخدامات عملية ولعادات قد مورست لفترات زمنية طويلة. فالحقيقة لا
تكون شابة. أما في قضايا الوهم والتخيل الخاطئة، فإذا عاشت لفترات طويلة في
مخيّلة الناس، فإنه من الواجب علينا أن نقول عنها أنها تخيّل فعّال، خطأ
تمّ وضعه على محك التجربة وبقي حيّاً في تنظيم جماعةٍ بشريةٍ معينة.

وبناء عليه، يمكن تعريف الحقيقة
بأنها الخطأ المعمّر الذي أثبت جدارته عبر الأزمنة، والذي تعوّدنا عليه،
ولذلك لم نعد نتساءل عن صحّته. لذلك يصرّ نيشته على القدم من أجل أن يحدد
الحقّ. يقول في أغانيه للأمير فوجيلفري Ghansons du prince Vogelfrei وتحت
عنوان “في الجنوب”:

في الشمال أتردد كي أعترف،

لقد أحببت امرأة صغيرة من عمر الكهولة وفي حدود الرجفان.

كان اسم تلك المرأة العجوز: “الحقيقة”…

على الفيلسوف أن يحدّد خياراته
ومصادراته الفكرية وتأويلاته في مدى بعيد، والذي يحدّد صحة خياراته هو
المعيار التطوري للثقافة على مدى مراحل طويلة من تاريخ الشعب الذي ينتمي
إليه. عندئذٍ، يستطيع أن يحكم إذا كانت القيم التي اختارها مؤاتية أو
معوّقة لتطوره. ذلك أن الزمن وتجاربه هو الذي يحدّد أية قيمة تعمّر أو

تسقط: إنه قادر على إسقاط كل قيمةٍ لا تنفعه من خلال الإستعاضة عنها بقيمٍ أخرى، أو بمعاكستها، وفق متطلبات الواقع وتفسيراته.

فالفلاسفة الذين ادعوا أنهم
يمضون وقتهم من أجل خلق فلسفات تعمل للوصول إلى الحقائق واكتشافها، هي
فلسفات فارغة وأصحابها يدّعون الفلسفة، وهم فارغون مثل أقوالهم. إن الفلسفة
الحقيقية هي التي تنبثق من نظام خاص لتأويل الأشياء، وهذا يعني أن عليها
أن تكشف عن شكل معيّن من إرادة الاقتدار: “تنمو إرادة الحقيقة بقدر ما تخدم
إرادة الاقتدار”. والفلسفة التي يدعو إليها عليها أن تكون أيضاً مرادفاً
للنصر والديمومة، وهذا بفضل نموذج محدد من اللاحقيقية التي تجعل من العديد
من الأخطاء، الأساس لحفظ نوع محدود من الكائنات الحية. وعلى الفيلسوف أن
تقوده غريزة فنّان مبدع ليخلق أشكالاً جديدة ويطرح معادلاتٍ وعلاقاتٍ تسمح
له بأن يضع حقائق جديدة. فغير مسموحٍ أن يفتش الفيلسوف عن الحقائق في
الماضي، ويقول لقد وجدت نظرية تعكس واقع حياةٍ شعب ما، بل المطلوب منه هو
أن يبتكر أفكاراً جديدة تنقل الشعب من حالة إلى أخرى أكثر تجدداً ونشاطاً
وابتكاراً. ولا يتمّ ذلك إذا لم تحرّكه فلسفة القوة التي هي الحافز
والمعيار لكل وثبة ثقافية وحضارية. على الفيلسوف إذاك، أن يحدّد العلاقات
الأساسية التي تربط الوقائع، وأن يحوّل العمليات الغرائزية إلى “أشياء” وأن
يقيّم التفسيرات والتأويلات المتعددة والمتنوعة. ويتجلى هذا الأمر في
الفن، وليس من خلال التأملات الفكرية التي تعود إلى العدمية والمحو الذاتي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

محنة العقل في أفق العلم : نحو استشكال الماهية والآثر في الفلسفة الألمانية المعاصرة. يوسف أشلحي :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

محنة العقل في أفق العلم : نحو استشكال الماهية والآثر في الفلسفة الألمانية المعاصرة. يوسف أشلحي

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» أفكار الفلسفة المعاصرة ادارة الموقع
» فيورباخ في الفلسفة العربية المعاصرة: مشكلة الإنسان
»  نظرة شاملة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة- ألان باديو
» مشهد الفلسفة المعاصرة بين انزياح الصورة وصيرورة المفهوم
» الوجودية في الفلسفة المعاصرة : سارتر نموذجا - مراد العبدي

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: