الكرخ فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 964
الموقع : الكرخ تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4
| | غاندي المتمرد 6: التمرُّد السِّـلْمي | |
غاندي المتمرد 6: التمرُّد السِّـلْمي
بتاريخ
6 نيسان/أبريل 1930 – الذي يصادف ذكرى الهَرْتَـل [الإضراب الاحتجاجي] hartâl الذي جرى سَنَةَ 1919 والذي أطلقَ شرارةَ المقاومة الجماهيرية الهندية ضد السيطرة البريطانية –، وفي الساعة 8.30 صباحًا، اقتربَ غاندي من ساحل المحيط وغطسَ ثم عاد إلى الشاطئ ليجمعَ قليلاً من المِلْح الذي تركَتْه الأمواجُ. ابتداءً من تلك اللحظة أصبحَ متمرِّدًا على الإمبراطورية البريطانية. وأطلقَ عندئذٍ أمرَ العصيان المدني لجميع الهنود طالبًا منهم التزوُّدَ غيرَ القانوني من المِلْح. وخلالَ النهار، بيعَتْ حفنةُ المِلْح التي التقطَها غاندي بالمزاد لقاءَ مبلغِ 425 روبيَّة.
في التاسع من نيسان/أبريل، وبينما أصبحَتْ إشاعةُ اعتقال غاندي مُلِحَّةً، أملى غاندي "رسالةً إلى الأمة" أكَّدَ فيها قائلاً:
إذا كان الكفاح الذي بدأ بأسعد طالع قد استمرَّ حتى نهايته في روح اللاعنف نفسها فإننا، بالإضافة إلى حصولنا عمَّا قريبٍ على الاستقلال التام الذي ستُرْسَى قواعدُه في بلادنا، سنقدِّم للعالَم مثالاً يليق بالهند وبماضيها المَجيد. (...)
اليومَ، يُرمَزُ إلى كل شرف الهند بحفنة مِلْح في يد المقاومين اللاعنفيين. يمكن لقبضة اليد التي تتناول هذا المِلْحَ أنْ تُكسَرَ، ولكنَّ هذا المِلْحَ لن يسلَّمَ بطريقة إرادية. (...)
لقد رُسِمَ أصلاً طريقُنا بالطبشور. فلتذهبْ كلُّ قرية لتبحثَ عن المِلْح المهرَّبِ أو تُصَنِّعَه. يجب على أَخَواتنا تنظيمُ مجموعات مراقَبة piquets أمام متاجر الكحول ومختبرات الأفيون ومحلاَّت تُجَّار القماش الأجنبي. ويجب على الشباب والمُسنِّين في كل بيت أنْ يعملوا على دولاب المغزل ويُنتِجوا كلَّ يوم خيوطًا للنسيج. يجب إحراقُ القماش الأجنبي. يجب على الهنود أنْ يضعوا حدًا للنبذ الاجتماعي intouchabilité. يجب على الهندوس والمسلمين والسيخ والمجوس والمسيحيين جميعًا أنْ يتَّحِدوا بإخلاص. ولْـتَكْـتَفِ الأكثريةُ بما يتبقَّى بعدَ أنْ تكتفيَ الأقلياتُ. ولْيتركِ الطلابُ مدارسَ الحكومة وثانوياتِها، ولْيستقِلْ من مهامهم هؤلاء الذين يخدمون الحكومةَ وليُكَرِّسوا أنفسَهم لخدمة الشعب، ولسوف نرى أنَّ الاستقلال التام سيأتي ويدقُّ على أبوابنا[1].
لقد شاركَ الهنودُ بحماسٍ في التمرُّد السِّـلْميِّ الذي دعا إليه غاندي. فقد كتبَ نِهْرو:
عندما رأَيْنا حماسَ الشعب والسرعةَ التي كان من خلالها يتقدَّم مثالُنا تدريجيًا، كانت دهشتُنا تختلط بالخجل من كونِنا شكَّكْنا في غاندي وفي فعالية الطريقة التي اقترحَها علينا. وأُعجِبَ كلُّ واحد منا بالعبقرية التي يمتلكها رئيسُنا في إيجاد الحركة التي أثَّرَت في جمهور غفير وفي حَمْـل هذا الجمهور على التصرُّف بنظام وانضباط[2].
بتاريخ 9 نيسان/أبريل 1930، وفي افتتاحية بعنوان حَمْلة croisade المِلْح نُشِرَت على عمودين في الصفحة الأولى من جريدة جنيـﭪ Journal de Genève، عرضَت الجريدةُ عملَ غاندي على هذا النحو:
غاندي «قِدِّيس»، «روح عظيمة»، مهاتما. إنه متقشِّف لا يكاد يستر جسمَه، ويتغذَّى على شيء زهيد جدًا. يذهبُ في الطرقات الواسعة جِلْدًا على عظم. (...)
يدَّعي غاندي أنه مسيحي أكثر من الغربيين، ويقارن نفسَه أحيانًا بالمسيح. (...) لكنه مسيح مملكتُه من هذا العالَم، مسيح يتعاطى السياسةَ، فهو خاضع بما هو كذلك لجميع منغِّصات السياسة وقيودها.
إنَّ حملةَ اللاتعاون مع الإنكليز والإضرابَ الوطني [المُواطَِنيَّ civique] الذي نادى به حزبُ المؤتمر في لاهور Lahore يُخشَى أنْ يبوءا بالفشل. (...) فيمينُ الحزب يقاومُ اللاتعاونَ ويبدو أنَّ الخطابَ الحازمَ والاسترضائيَّ الذي قام به نائبُ الملك بتاريخ 25 كانون الثاني/يناير يؤثِّر في المتردِّدين أو المعتدلين. واليسارُ يقاوم عقيدةَ اللاعنف التي جعلَ منها غاندي الركيزةَ الأساسيةَ لعمله. والشيوعيون بدَوا شيئًا فشيئًا عدوانيين وحقَّقوا نجاحاتٍ واندمجوا مع القومية. (...)
بما أنَّ مِن الممنوع على الأفراد أنْ يجمعوا المِلْحَ بأنفسهم فإنَّ غاندي ورفاقَه قد خرقوا القانونَ بأخذِهم مِلْحًا من البحر.
هذه الحركةُ رمزية صِرْفة. (...) ولكنَّ الرمزية لا تعني بالضرورة أنها بلا جدوى. فالمِلْح هو مادة أساسية يستهلكها الفلاَّحُ الهندوسي بكميات كبيرة، سواء لماشيته أم له؛ وهناك احتمالاتٌ كثيرة لأنْ يَفهمَ حركةَ غاندي أبسطُ الناسِ في ذلك البلد الذي تكونُ فيه أُمِّـيَّـةُ الجماهير أمِّـيَّةً شديدةً. من جهة أخرى، بما أنَّ الفقراء لا يدفعون ضرائبَ مباشرةً، فإنَّ الرسمَ الوحيد الذي ينزلُ بهم هو ضريبة المِلْح gabelle، وبهذا كان على غاندي أنْ يبدأَ حملتَه ضد الضرائب.
إنَّ لحركةِ غاندي، في نظره، هذه المَزيَّةَ الأخرى في كونها مُربِكةً جدًا للحكومة. (...) كيف يُعتقَل المهاتما، رَجُـلُ الله، لأنه أخذَ مِلْحًا من البحر، أو حتى لأنه قام ببساطةٍ بالإشارة إلى ذلك؟ ومن جهة أخرى، كيف يُتساهل في خَرْق القانون علنًا مِن غيرِ عِقاب؟ غاندي يستخفُّ بالإنكليز، والإنكليزُ لا يستطيعون فِعْلَ شيءٍ معه. (...)
هل سيتأَتَّى لغاندي بلوغَ هدفه الثانوي المتمثِّل في اعتقاله ومكابدته الشهادةَ من أجل قضية الوطن؟ هذا أمرٌ مشكوك فيه. ولكنْ حتى إذا لم تُحقِّقْ حملةُ غاندي جميعَ هذه النتائج ولم تأخذِ المدى الذي يأمل فيه فإنَّ تأثيرَها سيكون بالتأكيد إثارةَ النفوس في الهند وفي بريطانيا العظمى وجعْـلَ سياسةِ التقريب والمصالحة أكثرَ صعوبةً.
كان اللورد إيروين، الذي أظهرَ في مهامِّه الصعبة حسَّـًا سياسيًا واعتدالاً وحزمًا وتحرُّريةً جديرةً بالتقدير، يستحقُّ مكافأةً أخرى.
في اليوم التالي، تعود جريدة جنيـﭪ Journal de Genève إلى "حملة غاندي" عندما تنشر مقالاً لمراسلها في لندن:
لقد خرقَ غاندي القانونَ المتعلِّقَ بضريبة المِلْح. هذه الحركةُ الرمزيةُ الصغيرةُ (...) اعتبرَتْها بعضُ الصُّحُفِ الإنكليزيةِ مُضحِكةً جدًا وهزليةً ولم تتمكَّنْ هذه الصحفُ من أنْ تفهمَ لماذا سلطاتُ دلهي لم تضعْ حدًا لهذه المهزلة. ولم تَجِدْ هذه الصحفُ أصلاً مسيرَ العجوز أقلَّ مَضحَكةً، حيث أنه بعد أنْ تركَ حلقتَه التعليميةَ في الأشرم قطعَ مسافةً تُقارِبُ ثَلاثَمِئة كيلومتر ليذهبَ إلى شاطئ مُقْفِر في خليج غانداي Ganday يعطي إشارةَ العصيان المُواطَِني ويرسِلُ تحدِّيًا عامًا للحكومة القوية في بلاد الهند.
بتاريخ العاشر من نيسان/أبريل، في مدينة مومباي [بومباي] Bombay، بحسب ما ذكرَتْ جريدةُ لوسوار Le Soir، "فتَّشَت الشرطةُ مقرَّ حزب المؤتمر الوطني؛ وصادرَت المِلْحَ غيرَ المسموح به وكسَّرَت الأدواتِ التي تُستخدَم في صناعته؛ وحاولَ عددٌ لا بأس به من المتطوِّعين مقاومةَ دخول الشرطة إلى قاعة كان فيها بضعُ أوعية من المِلْح؛ فجُرِحَ ثلاثةُ أشخاص خلال المشاجرة التي تـلَتْ ذلك".
كان أحدُ هموم غاندي الكبرى إتاحة الفرصة للنساء لشَغل مكانهنَّ في الكفاح من أجل الاستقلال. حيث سيشاركْنَ بالفعل مشاركةً حاسمةً فيه. إذْ توجَّهَ غاندي، في مقال نُشِرَ في مجلة الهند الفَـتيَّة، (10 نيسان/أبريل 1930) إلى "نساء الهند" بهذه العبارات:
تلهُّفُ بعض الأخَوات للانضمام إلى الكفاح هو مؤشِّر صحة في نظري. فقد دفعَ إلى اكتشافِ أنَّ إقصاءهنَّ عن ذلك، مهما كانت الخاصية الجذَّابة للحملة ضد الضريبة على المِلْح، سيكون بنظرهنَّ كمن يستبدل جُنيهًا [إسترلينيًا] ببنس [جزء من مئة جزء من الجُنيه]. فسيضِعْنَ بين الحشود ولن يعْرِفْنَ المعاناةَ التي يتعطَّشون إليها.
في هذه الحرب اللاعنفية، لا بد أنْ تكونَ مساهمتُهنَّ أكبرَ بكثير من مساهمة الرجال. فتسميةُ المرأة بالجنس الضعيف افتراءٌ؛ إنَّ في ذلك ظلمًا للمرأة يقوم به الرجُـلُ. فإذا كان المقصود من القوة القوةَ الوحشيةَ فعندئذٍ تكون المرأةُ بالفعل أقلَّ وحشيةً من الرَّجُـل. وإذا كان المقصود من القوة القوةَ المعنويةَ فعندئذٍ تكونُ المرأةُ أعلى بكثير جدًا من الرَّجُل. أليست تمتلك حدْسًا أكبرَ، أليست تمتلك حسَّ تضحيةٍ أكبرَ، أليست تمتلك قدرةَ تحمُّـلٍ أكبرَ، أليست تمتلك شجاعةً أكبرَ؟ فبدونها لا يمكن للرَّجُل أنْ يعيشَ. عندما يكونُ اللاعنفُ قانونَ كينونتنا فإنَّ المستقبل يكون للمرأة.
أحتفظ بهذه الفكرة منذ سنوات. فعندما أصرَّت نساءُ الأشرم على أنْ يكُنَّ إلى جانب الرجال حدَّثَني شيءٌ في نفسي بأنَّهنَّ مُهيَّـآتٌ لأنْ يؤدِّينَ في هذا الكفاح مَهمَّةً أهمَّ من مجرَّد خَرْق قوانين المِلْح.
أعتقدُ أنني عثرْتُ الآنَ على هذه المَهمَّة. فتنظيمُ الرجال لمجموعات مراقَبة piquets على المقاطعة أمامَ متاجرِ الكحول والقماش الأجنبي، على الرغم من نجاح هذا التنظيم في عام 1921 نجاحًا يفوقُ كلَّ توقُّع، مُنِيَ بالإخفاق في نهاية المطاف لأنه غرِقَ في العنف. من أجل ممارسة ضغط حقيقي، يجب استئنافُ مجموعات المراقبة على المقاطعة. فإذا بقيَتْ مسالمةً إلى النهاية فستكون الطريقَ الأسرعَ لتربية الناس المعْنيِّين. ينبغي ألاَّ تكونَ المسألةُ مسألةَ إكراه أبدًا بل مسألة هداية وإقناع نفسي. فمن الذي يستطيع أكثرَ من المرأة فعلاً أنْ يدعوَ القلبَ؟
يجب في نهاية المطاف أنْ يُدْرَجَ في القانون تحريمُ المسْكِرات السامةِ والمخدِّراتِ ومقاطعةُ الأقمشة الأجنبية. لكنَّ القانون لن يصدرَ طالما لم يَظهَرْ من أسفل الهرَم ضغطٌ حقيقيٌّ.
هذان الإجراءان هما حيويَّان قطعًا للأمة، وهذا لا يجادلُ فيه أحدٌ. فالكحولُ والمخدِّراتُ تُدَمِّرُ الصحةَ النفسيةَ للذين اعتادوا على استهلاكها. والأقمشةُ الأجنبيةُ تُدَمِّرُ المؤسساتِ الاقتصاديةَ للأمة وتلغي الملايينَ من فُرَص العمل. وفي الحالتين، يستقرُّ البؤسُ في الوطن وبالتالي يصيبُ المرأةَ. إنَّ النساءَ ذواتَ الأزواج المدمنين على الكحول هنَّ وحدهنَّ اللواتي يَعْرِفْن مدى الخراب الذي يفعله شيطانُ المشروب في البيوت التي كانت هادئةً تسودها السكينةُ. وملايين النساء في كُفُورنا [ضِياعِنا الصغيرةِ] hameaux يَعْرِفْنَ ماذا تعني البطالةُ. (...)
فلتلتزِمْ نساءُ الهند بهذين النشاطَين، ويتخصَّصْنَ في ذلك؛ فربما يساهمْنَ بهذه الطريقة أكثرَ من الرجال في الحرية الوطنية. وربما يتسلَّمْنَ سلطةً ويحصَلْنَ على ثقةٍ هنَّ محروماتٌ منهما حتى الآن[3].
بتاريخ 11 نيسان/أبريل، نشرَت جريدةُ لوسوار Le Soir مراسَلةً من لندن تبدو وكأنها بالأصل صدىً لنداء غاندي للنساء الهنديات:
تفيد الأنباءُ الواردةُ من مومباي إلى صحيفة ديلي تلغراف Daily Telegraph وصحيفة ديلي مَيل Daily Mail أنَّ حملة العصيان المدني آخذةٌ في الانتشار أكثرَ فأكثرَ وتأخذ منحىً خطيرًا يتميَّز بصورة رئيسية بحماس النساء الهندوسيات لغاندي. وهو أمرٌ لا سابقَ له، فهنَّ لا يخشينَ من أنْ يَظهَرْنَ على الملأ كمُخِلاَّتٍ بالنظام ويأتينَ بالآلاف يقدِّمْنَ مؤازرتَهنَّ لغاندي ويرافقْنَ طوابيرَ مؤيِّديه وهنَّ يُنشِدْنَ أناشيدَ وطنيةً.
بتاريخ 13 نيسان/أبريل، وبحسب نبأ أدلَتْ به جريدةُ جنيـﭪ (15 نيسان/أبريل 1930)،
قام متطوِّعو العصيان المدني بمسيرة في مومباي. وقد حضَّهم رؤساؤهم على المشاركة بأعداد كبيرة خلال سهرة الأحد في جنازة ضريبة المِلْح التي سيُرمَى بصورتها في البحر. وعند حلول الليل، هبَّ 5000 شخص، وبينَهم عددٌ لا بأسَ به من النساء والأطفال، إلى الشاطئ حيث أُلقيَتْ في البحر صورةٌ تَرْمُزُ إلى قانون ضريبة المِلْح. ولم يحصلْ أيُّ حادث مزعج.
ثم قامت السلطاتُ، التي كانت في بادئ الأمر قد اعتقدَتْ بأنَّ من السَّداد عدمَ التدخُّـل، باللجوء فيما بعدُ إلى اعتقالات عديدة وأظهرَتْ وحشيةً قصوى بحق المقاومين. ففي تاريخ 14 نيسان/أبريل، اعتُقِلَ جواهَرلال نِهْرو. وفي اليوم نفسِه، حُوْكِمَ في سجنه وحُكِمَ عليه بحجزه لمدة ستة أشهر لمخالفته قانونَ المِلْح. إلاَّ أنَّ اعتقالَ من يشغل منصبَ رئيس حزب المؤتمر ما كان منه إلاَّ أنْ بعثَ قوةً جديدةً في حركة المقاومة المدنية. وكتبَ غاندي بتاريخ 17 نيسان/أبريل 1930: "الـﭙـانديت [لقب تشريفي] جواهَرلال في السجن. هذا يعني أنْ الحكومةَ قد ألقَتْ كلَّ الهند في السجن"[4].
في كالكوتا، حصلَتْ حوادثُ أثناء المظاهرات التي نُظِّمَت احتجاجًا على اعتقال نِهْرو. فعرقلَ الطلابُ السيرَ وأضرموا النارَ في بعض الحافلات الكهربائية [الترامواي]. وأُسيءَ إلى عدد من الأوروبيين وكان لا بد من أنْ يُنقَلوا إلى المشفى. ولم تتوانَ الشرطةُ في إطلاق النار لتفريق الجموع. كما حصلَت اضطراباتٌ في كاراتشي ومادراس. فصرَّح غاندي للصحافة بتاريخ 17 نيسان/أبريل:
في البداية الأولى للحملة، صرَّحْتُ أنَّ هناك احتمالاً حقيقيًا لاندلاع العنف بفعل الشعب. ويبدو أنه اندلعَ الآنَ وهذا يجرحني لأن ذلك يضرُّ بالقضية العزيزة على قلبي كالحياة نفسها. لكنني أجدُني مضطرًا لأنْ أقولَ إنَّ الحكومة هي التي سبَّبَت هذا العنفَ عندما فرَّقَت تجمُّعاتٍ لم يكنْ فيها أيُّ عنف؛ فمنْعُ التجمُّعات العامة والمظاهرات هو قرار مقصود لإثارة العنف. إذْ قامت الحكومةُ عن سبق الإصرار والتصميم باختطاف قادة الشعب الذين كانوا معروفين بتأييدهم للاعنف وبممارستهم تأثيرًا مهدِّئًا على الشعب. كان الأمر سيكون رائعًا جدًا لو أنَّ هذه العرقلة البشعة لم تُسبِّبْ أعمالاً انتقاميةً قام بها أشخاصٌ سريعو الغضب لا تخلو منهم أيةُ جماعة في أية منطقة من العالَم. خذوا مثالَ غوجارات Gujarat؛ في دوليرا Dholera وقُرْبَ ﭭـيرَمْغام [فيرامغام] Viramgam، يقال إنَّ أعمالاً وحشيةً كثيرةً جدًا ومخزيةً قد ارتُكِبَتْ بحق وطنيين عُـزَّل. كانت جريمتهم هي أنهم رفضوا التخلِّيَ عن المِلْح الذي في حوزتهم. (...)
لا يصبح الفعلُ الوحشيُّ أقلَّ وحشيةً إذا كفِلَه القانونُ، وممارسةُ المعاملة السيئة المخزية لا تُحتمَل قطعًا وتَستنفد صبرَ أي شعب. (...)
مازلتُ أحتفظُ بالأمل في أنْ يكونَ مِن الممكنِ في نهاية الكفاح أنْ نقولَ بشأن هذا الكفاح أنه ظلَّ لاعنفيًا بصورة أساسية على الرغم من أعمال العنف المؤسفةِ التي اندلعَتِْ الفَـيْـنَةَ بَعْـدَ الفَـيْـنَةِ. إنَّ ما يقرِّرُ مصيرَ الهند ليس ما يجري في المدن، بل ما يجري في القرى[5].
في تشيتاغونغ Chittagong، على خليج البنغال، حصلَ عملٌ عنيفٌ متعمَّد، لكنَّ المسؤولية لا يمكن أنْ تقعَ على مُناصري غاندي. ففي ليلة الثامن عشر من نيسان/أبريل وفجرِ التاسع عشر منه، هاجمَ عددٌ من الهنود يناهزُ المئةَ هندي مخزنًا لأسلحة الشرطة ودمَّروه. فاستخدمَت قواتُ حفظ النظام لتفريقهم رشَّاشاتٍ ودبَّاباتٍ مدرَّعةً. فسقطَ عدةُ ضحايا بين المتمرِّدين الذين حاولوا الهروبَ وصعودَ الجبال في أرباض المدينة.
في 21 نيسان/أبريل 1930، نشرَت جريدةُ لوسوار Le Soir مراسلةً من باريس بتوقيع رولان دو ماريه Roland de Marès تحت عنوان أزمة الهند:
كان «يومُ الاستقلال» المنظَّمُ بتاريخ 26 كانون الثاني/يناير الماضي نوعًا من التمهيد للثورة وكان مسيرُ غاندي نحو البحر بهدف خَرْق قانون الضريبة على المِلْح خرقًا علنيًا، ذلك المسيرُ الذي كان لا بد له من أنْ يكون من حيث المبدأ حركةً رمزيةً ليس إلاَّ، قد اتَّخذَ مباشرةً طابعَ مظاهرةٍ تمرُّدية. مما أجبرَ غاندي نفسُه على تغيير مقولته: «اللاعنف» إلى مقولة «اللاعنف العدواني». (...)
وظهرَ انطباعٌ واضحٌ جدًا بأنَّ الحركة التي أطلقَها غاندي تجاوزَت الآنَ رسولَها [داعيتَها] واستغلَّها بعضُ العناصر بهدف القيام بعمل ثوري بحت.
إلامَ سيؤدِّي ذلك؟
لا يمكن لأحد أنْ يتنبَّـأَ بذلك يقينًا. يمكن للاضطراب الوطني أنْ يمتدَّ سريعًا نظرًا لعدم وجود تنظيم سياسي حقيقي، ولكنَّ هذا الاضطراب يمكنه أيضًا أنْ يمتدَّ إلى كل أنحاء الهند ويُرغِمَ الإنكليزَ على الدفاع بالقوة عن نظام الدومينيون dominion الخاص بهم. وسيكون ذلك مسعىً يتطلَّب نفَسًا طويلاً لا يخلو من المخاطر لأمن الإمبراطورية بمجملها. وتصبح حكومةُ حزب العُمَّال أمام مهمة حساسة وصعبة بصورة خاصة.
وأصبحَت الشرطةُ تتدخَّلُ غالبًا لمحاولة وضع حد لتحرُّكات المقاومين. فقد نقلَت جريدةُ جنيـﭪ بتاريخ 23 نيسان/أبريل الحوادثَ التالية: "تفيد الأنباءُ الواردةُ من مومباي أن الشرطة قد تدخَّلَت في عدة أماكنَ يُـصَـنَّع فيها المِلْحُ بصورة غير مشروعة. واعتُقِلَ أربعةُ أشخاص. وخلالَ هذه الاقتحامات، انقلبَ وعاءٌ من ماء البحر المغليِّ مما أدَّى إلى إصابة عدة متطوِّعين بحروق خطيرة". غيْرَ أنَّ هذه التدخُّلاتِ التي لا يمكنها إلاَّ أنْ تكون منتظمةً لم يكنْ من مقدورها أنْ تكسرَ شوكةَ حركةِ المقاومة. فلم يكنْ من حركة المقومة هذه إلاَّ أنْ أخذَت بالاتِّساع.
وخلال المسير نحو دَنْدي وفي بداية حملة العصيان المدني، لم يشأْ نائبُ الملك أنْ يأخذَ مبادرةَ غاندي على محمل الجد. كان يحسَب أنَّ في استطاعتِه المراهنةَ على فشلها ولم يرَ ضرورةً في التدخُّـل. لكنْ كان لا بد له من أنْ يُـسَـلِّـمَ بالأمر ويرجع عن رأيه. فكتبَ بتاريخ 24 نيسان/أبريل 1930 إلى سكرتير الدولة لشؤون الهند، ويدغوود بِن Wedgwood Benn: "الهدفُ الرئيسي لحِزْبُ المؤتمرُ Congrès هو تهيئة البلاد لتحدِّي القانون بالإجماع ولإعلان استخفافهم بالسلطة الشرعية ابتداءً من يوم محدَّد ومن خلال مظاهرات كبيرة. بالنسبة لهذا الهدف، لقد حقَّقَ نجاحًا كبيرًا"[6].
إلاَّ أنَّ غاندي كان يؤرِّق مضجعَه الحوادثُ العنيفةُ التي كانت تحدث هنا وهناك بدون أية مراعاة للتعليمات اللاعنفية التي أصدرَها حزبُ المؤتمر. فنشر في مجلة الهند الفَـتيَّة بتاريخ 24 نيسان/أبريل 1930 مقالاً بعنوان: النظام الأسْوَد حاولَ فيه جاهدًا أنْ يُقنِعَ الهنود بأنَّ العنف لا يمكنه إلاَّ أنْ يعيقَ تقدُّمَهم نحو الاستقلال:
لم يجلبْ لنا الأسبوعُ المنصرمُ مسرَّاتٍ فقط. فقد شهِدَ قلاقلَ في كالكوتا وكاراتشي. والآنَ تصلُنا أخبارٌ سيئةٌ من تشيتاغونغ Chittagong. هذا يُظهِر، على الرغم من التعبير المدهش عن اللاعنف في جميع أنحاء البلاد، أنه مازال هناك عنفٌ في الأجواء وأن المدن خَزَّانات له. (...) هذه الأحداثُ مؤسفةٌ جدًا وتضرُّ بنمو الحركة التي تتطوَّر بالمقابل تطورًا رائعًا وتأخذ كلَّ يوم زَخَمًا جديدًا. أستطيع فقط أنْ أوجِّهَ نداءً للذين يؤمنون بالعنف كي لا يعيقوا مجرى الحركة اللاعنفية. (...)
خلال ذلك الوقت، ينبغي على المقاومين اللاعنفيين أنْ يواصلوا عملَهم بقوة مضاعفة. يجب علينا أنْ نجابهَ العنفَ ذا الحدَّين الذي يتزايد ضدنا. ففي رأيي، يشكِّلُ عنفُ الشعب عقبةً في طريقنا كالعقبة التي يشكِّلها عنفُ الحكومة. وفي الحقيقة يمكن أنْ يكون نضالي ضد عنف الحكومة أشدَّ من نضالي ضد عنف الشعب. السبب الأول هو أنني عندما أناضل ضد العنف الثاني لن أحصل على الدعم نفسه الذي أحصل عليه عندما أناضل ضد العنف الأول. والسبب الثاني هو أن المنهج المستخدم ينبغي أن يكون مختلفًا إلى حد ما عن المنهج المستخدم لمواجهة عنف الحكومة نظرًا لأن مبرِّرات عنف الشعب شريفة كمبررات المقاومين اللاعنفيين[7].
في العدد نفسه من مجلة الهند الفَـتيَّة، يوضح غاندي كيف ينبغي تنظيمُ جماعات مراقبة المقاطعة:
1. يلزم عشر نساء على الأقل لتنظيم جماعة مراقبة واحدة على المقاطعة أمام متجر مشروبات كحولية أو أقمشة أجنبية. يجب عليهن اختيار قائدة من بينهن.
2. يجب عليهنَّ بادئَ ذي بدءٍ أنْ يذهبنَ كوفد إلى التاجر ويطلبن منه أنْ يرجعَ عن مواصلة تجارته ويعطينه مناشيرَ تَعرِض وقائعَ وأرقامًا تتعلَّق بالكحول أو بالقماش الأجنبي وذلك حسب الحالة. ولا حاجةَ للقول بأن هذه المنشورات ينبغي أنْ تكون مكتوبةً بلغة يفهما التاجرُ.
3. إذا رفضَ التاجرُ التوقفَ عن تجارته فعلى المتطوِّعات أنْ يراقبن المتجرَ مع السماح للزبائن بالدخول وأنْ يزجرْنَ شخصيًا الزبائنَ الذين يُتوقَّع مجيئُهم.
4. يجب على المتطوعات أنْ يحملْنَ لافتاتٍ أو لوحاتٍ خفيفةً كُتِبَ عليها بخط عريض توصياتٌ ضد شراء القماش الأجنبي أو استهلاكِ المشروبات الكحولية وذلك حسب الحالة.
5. يجب على المتطوعات، ما أمكنَ إلى ذلك سبيلاً، أنْ يلبسْنَ لباسًا موحَّدًا.
6. يجب على المتطوعات أن ينشدن بصورة متكررة أناشيدَ مناسبةً تتعلق بالموضوع.
7. يجب على المتطوعات أن يتحاشَين أيَّ إكراه ويمنعن تدخُّـلَ الرجال.
8. لا ينبغي في أي حال من الأحوال استخدامُ لغة سوقية أو شتائم أو تهديدات أو لغة غير لائقة.
9. يجب دائمًا توجيهُ النداء إلى العقل والقلب، ويجب عدم الاعتماد أبدًا على الخوف من العنف.
10. لا ينبغي في أي حال من الأحوال أن يجتمعَ الرجالُ قربَ المكان الذي تقف فيه مجموعةُ المراقبة على المقاطعة ولا أن يعيقوا حركة السير. لكنْ يجب عليهم بصورة عامة أن يقوموا في الضواحي بالدعاية ضد الكحول والقماش الأجنبي. يجب عليهم أن يساعدوا في تنظيم مسيرات في الضواحي لنساء يحملْنَ رسالةَ الاعتدال [وخاصةً في استهلاك الكحول] tempérance ويُوْصيْنَ بالقماش المصنوع يدويًا ويُظهِرْنَ ضرورةَ مقاطعة الكحول والقماش الأجنبي.
11. يجب أن يكون هناك، من أجل دعم وحدات المقاطعة هذه، شبكةُ تنظيمات هدفُها نشرُ رسالة المِغْزل وإعدادُ منشوراتٍ جديدةٍ ومحاورَ دعائيةٍ جديدةٍ.
12. يجب وضع محاسبة منظَّمة ودقيقة جدًا لجميع الإيرادات ولجميع النفقات. ويجب تدقيق هذه المحاسبة بصورة دورية. وهنا أيضًا، يجب أنْ يقومَ بها رجالٌ تحت رقابة النساء. مجملُ هذا المشروع يتطلَّب من الرجال احترامًا حقيقيًا للنساء وإرادةً صادقةً بأحقيَّتهنَّ[8].
كان على صحيفةِ بروكسلَ اليوميةِ لوسوار Le Soir التي اعتقدَت بتاريخ 27 آذار/مارس 1930 فيما يخصُّ «الاضطرابَ الهندوسي» أنَّ باستطاعتها أن تُعلِنَ «إخفاقَ غاندي» كان عليها أن تُراجِعَ حُكْمَها في حركة المقاومة المدنية التي نظَّمَها حزبُ المؤتمر. فكتبَت بتاريخ 25 نيسان/أبريل ما يلي: "أمَّـا الحركة الغاندية فقد تعزَّزَت شيئًا فشيئًا خلال الأسبوعين الماضيين؛ وحاشى غاندي من أنْ تقتلَه السخريةُ، فمازال له هيبةٌ في البلاد أكبر من ذي قبلُ". وبتاريخ 28 نيسان/أبريل، تُقِرُّ بأنَّ نجاح غاندي يشكِّلُ قلقًا لمستقبل الإمبراطورية البريطانية:
إن الذين كانوا يتوقَّعون أن الزمن سيُضعِف اندفاعَ مُصَنِّعي المِلْح غير القانوني وأن هذا الشكلَ من العصيان المدني سيختفي تدريجيًا إنما هم مخطئون لأن المِلْح المُهرَّب يُصَنَّع بكمية أكثر من أي وقت مضى.
فطرقاتُ الأحياء الشعبية في مومباي تعِجُّ بالنساء اللواتي يَحْمِلْنَ إلى البحر أوانيَ نحاسيةً [طُشُوت/طُسُوت] ليملأْنَها بالماء المالح، بينما تتكرر المظاهراتُ العامة يوميًا على نطاق واسع، وقد استفاد «المتطوعون» من عزم السلطات على تجنُّب العنف.
وعقولُ سكان القرى والمدن قد سمَّمَها مثيرو الشغب الذين يحضُّون على كراهية الحكومة وكل ما هو بريطاني. وهذا يثير أشدَّ المخاوف لدى الهندوس المستنيرين والأوروبيين على حد سواء.
ولكي يسيئوا إلى مكانة العمل اللاعنفي لحزب المؤتمر، أكَّدَ البعضُ وجودَ تواطؤ بين قادته وبين الذين يلجأون إلى العنف. وهكذا، أعادت صحيفةُ لوسوار Le Soir في عددها الصادر بتاريخ 29 نيسان/أبريل نَشْرَ مراسلةٍ للمراسل الخاص للصحيفة الإنكليزية الديلي تلغراف Daily Telegraph في الهند:
هناك في الهند تنظيم ثوري إرهابي يدَّعي غاندي عدمَ معرفته ويعتبر تحرُّكاتِه تهديدًا لسياسته اللاعنفية. ولكنْ ليس هناك أدنى شك في أنَّ العديد من قادة حزب المؤتمر يعملون يدًا بيد مع رؤساء هذا التنظيم الثوري، على الرغم من أنهم يدَّعون العملَ كلُّ فئة على حِدة. (...) يبدو أن مخطط الثوريين هو الانتظار حتى تقومَ تحرُّكاتُ غاندي و«أعضاءِ حزب المؤتمر» بإضعاف السلطة البريطانية إضعافًا يكفي لكي يحاولوا في اللحظة الحاسمة تحويلَ حركة العصيان المدني إلى عصيان مسلَّح.
في العدد نفسه الصادر بتاريخ 29 نيسان/أبريل، تُقدِّم صحيفةُ لوسوار تقريرًا عن مظاهرة نظَّمها حزبُ المؤتمر في كاراتشي لكي يشرعَ في إتلاف القماش المستورد من الخارج:
قام ثمانيةُ آلاف متطوِّع في العصيان المدني تتْبعهم ثلاثُ عربات ممتلئةٍ بالقماش الأجنبي قاموا بمسير في المدينة. وخلال السهرة، أشعلَ المتظاهرون نارًا كبيرةً ابتهاجًا بهذا القماش.
ونشرَت صحيفةُ لاكروا La Croix (بتاريخ 13 أيار/مايو 1930) «أخباراً محلية عن الهند» كُتِبَت بتاريخ 26 نيسان/ابريل بتوقيع منغالام Mangalam:
الإنذار الذي أرسلَه غاندي إلى نائب الملك في الهند في بداية شهر آذار/مارس قد وُضِعَ حيِّزَ التنفيذ في التاريخ المحدَّد.
منذ ذلك اليوم، نشاهد في الهند فيلمًا سينمائيًا ضخمًا تجري فيه مشاهدُ ثوريةٌ سِلْميةٌ وتتعاقبُ وتتسارع، كان الممثلون فيه هم الساتياغراهيون Satyagrahi من جهة والشرطةُ من جهة أخرى. ومن الصعب على الراوي، لشدة اتِّساع المشهد، إذْ أنَّ الثورة تمتدُّ إلى كل بقاع الهند، من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، أنْ يتابعَ خطوةً بخطوة الجيوشَ – وهذه هي الكلمة المناسبة – التي هي في مسير نحو الاستقلال الوطني...
أولاً من هم الساتياغراهيون؟
إنهم جنود الاستقلال الذين يمارسون الساتياغراها، كتكتيك قتالي، وهي المقاومةُ السلبية للقوانين ورفْضُ التعاونِ مع الحكومة والعصيانُ المدني، وذلك بدون مقاومة من طرفهم. وتعليماتهم هي: إنْ أرادوا أنْ يعتقلوكم فدعوهم يعتقلونكم. وإذا أرادوا أنْ يُحضِروكم إلى القاضي فدعوهم يُحضرونكم. وإذا حكموكم فدعوهم يحكمونكم. وإذا سجنوكم فدعوهم يسجنونكم بدون مقاومة. وإذا حكموكم بدفع غرامة فارفضوا أنْ تدفعوا. (...)
وذهبوا بحثًا عن المِلْح... شخصياتُ جديدةٌ تشبه جازونَ Jasons [ملِك يولكوس Iolcos الأسطوري الذي كان يبحث عن جزَّة الصوف الذهبية]، تبحث فيه عن جزة صوفِ Toison d'or الاستقلالِ الوطني. وذهبوا وعلى رأسهم غاندي ماشيًا معهم على الرغم من سنواته الإحدى والستين. (...) مشوا ووصلوا إلى جلالبور حيث خيَّموا هناك.
لِنرَهم وهم يعملون:
في الصباح الباكر، وبعد الصلاة التي أقيمت في المعسكر، اهتزُّوا على إنشاد أناشيدَ فيديةٍ védiques [من كتاب الفيدا المقدَّس]، وبعد أنْ غطسوا في البحر – وهو اغتسال شعائريّ [طقوسيّ] –، أخذوا يحصلون المِلْح، إما بجمع الرواسب الطبيعية التي يُخَلِّفها ماءُ البحر وإما بغلي هذا الماء في أوانيَ مخصَّصةٍ لهذا الغرض كانوا قد جلبوها معهم.
تخيلوا – وهذا حقيقي – أن المشهد الذي انتهيتُ من وصفِه لكم، وهو مَسِيْر المتطوعين إلى الأمام وتصنيع المِلْح، يحصل بالطريقة نفسها كل يوم على شاطئ المحيط الهندي، تخيلوا ذلك وستحصلون على رؤية سينمائية لما يجري اليوم في الهند.
ولكنْ لكي تصبحَ اللوحةُ كاملةً، لا بد لنا من رؤية موقف الشرطة: يصعب تحديده بدقة. يبدو أن الشرطة تسترشد بالظروف أكثرَ مما تخضع لتعلميات معطاة من السلطات العليا. فتتدخَّلُ أحيانًا؛ ولا تتدخَّل أحيانًا أخرى، وأحيانًا تصادر المِلْحَ المهرَّب وأحيانًا لا تصادره؛ وإذا قامت باعتقالات – وقد حصل ذلك – فتعتقل القادةَ إذْ تهاجمهم تاركةً الأشخاص الثانويين أحرارًا. وتتراوح أحكامُ السجن الصارم rigorous imprisonment بين الستة أشهر والسنتين.
مع ذلك، وفي اللحظة التي أكتب فيها هذه السطورَ، وأمام سرعة انتشار الحركة واتِّساع مداها، يبدو أن الحكومة تُضاعِف الاعتقالاتِ والإدانات. (...)
لا حاجة إلى إخفاء ذلك: تجري الرياحُ لصالح الاستقلال والتمرد والعصيان المدني.
الثورة المسلَّحة التي ستعقب الثورةَ السِّلْميةَ هل ستنزل إلى الشارع؟ وهل ستتصرَّف الحكومةُ بحزم؟ أسئلةٌ كثيرة لا يمكن لأحد أنْ يعطيَ جوابًا أكيدًا عليها إلاَّ المستقبل وحدَه.
على كل حال، لنلاحظْ أنَّ الثوريين الهنود لا يطبِّقون المذهبَ الفلسفي نفسَه لبعض السياسيين في الغرب بشأن حرمة القوانين.
بتاريخ 23 نيسان/أبريل، وفي مدينة بيشاوَر Peshawar (إقليم الحدود الشمالية الغربية)، جرَت مظاهراتٌ جماهيرية. وفي اليوم التالي، اعتُـقِلَ قائدُ «القمصانِ الحمرِ» المسْلِمُ، عبد الغفَّار خان، وهو «غاندي الحدودِ الأفغانية» الذي كان قد انضمَّ إلى الكفاح اللاعنفي من أجل الاستقلال. فتجَمَّعَ عندئذٍ آلافُ الأشخاص أمام مكان اعتقاله. فتدخَّلَ الجيشُ ولم يتردَّد في إطلاق النار على الحشود مسبِّبًا عدةَ قتلى والعديدَ من الجرحى. عندئذٍ استُدعيَت فَصِيلتان للمؤازرة (120 رجلاً) من الفوج الثاني من الفرقة 18 المَلَكية فرقةِ المشاة غارواليس رايفلز Garhwalis Rifles، وهي فرقة [عسكرية] شهيرة في الجيش البريطاني، لكن هؤلاء الجنود الهندوس رفضوا إطلاقَ النار على المسلمين وألقوا أسلحتَهم. عندئذٍ انسحبَ الجيشُ والشرطةُ من بيشاوَر. وأُطلِقَ سراحُ عبد الغفَّار خان وتُرِكَت المدينةُ بأيدي سكانها ابتداءً من 25 نيسان/أبريل وحتى 4 أيار/مايو. لكن الجيش عاد إلى القوة بتعزيز جوي واستعاد المدينة دون أنْ يلاقيَ أيةَ مقاومة.
ونشرَت صحيفةُ جينيـﭪ Journal de Genève الخبرَ التالي عن هذه الأحداث (الأول من أيار/مايو 1930):
ورَدَ أنَّ سكرتاريا Secrétariat بلاد الهند قد نشرَتْ خلال ليل الاثنين وفجر الثلاثاء بلاغًا يقول إنَّ حكومة الهند، ونظرًا للإشاعات المبالَغ فيها والمضلِّلة التي يمكن أنْ تنتشرَ، تنظر في أنْ تحيطَ عِلْمًا بأن تسيير كتيبة من فوج رُماة غاروال Garhwalis المَلَكيين خلال اضطرابات بيشاور التي كان لا بد فيها من استخدام العسكر لم تكنْ مُـرْضيةً. لذلك أُرسِلَت الكتيبةُ إلى آبوت أباد [أيبت أباد] Abbattabad، حيث سيُفتَح تحقيقٌ في الوقت المناسب.
لقد أحدثَ الكشفُ الذي يتضمَّنه هذا البلاغُ وقْعًا مؤثِّرًا في بريطانيا، حيث تساءلوا ما المغزى من حركة المجافاة هذه بين الوحدات العسكرية للحدود الشمالية الغربية وما هو مداها. وقد تمَّ تجنيدُ رُماة الغارواليس Garhwalis في المناطق الجبلية للأقاليم الاتِّحادية Provinces-Unies؛ وكانوا من الهندوس، كمعظم مُناصري غاندي، وقد اشتهروا خلال الحرب باستخفافهم بالخطر وبالموت. لا نَـعْـلَم إلى أي حد يكون من المبرَّر للسلطات أنْ تَقلَقَ، لكنَّ ضرورة القيام بنقل كتيبة من الجنود المحلِّيين من مدينة بيشاور يبدو أنها تُثبِت أنَّ دعاية غاندي أو دعاية العناصرِ الثورية في تلك المنطقة تستدعي متابعةً دقيقةً.
كانت الإجراءاتُ التي اتَّخذها نائب الملك وتطبيقُها المباشرُ يبعثان الارتياحَ هنا بصورة عامة. مع ذلك فقد رأت صحيفةُ الديلي نيوز Daily News أنَّ الوقت قد حان لكي يجبَ على حكومة الهند أنْ تتبنَّى سياسةً بنَّاءة قبلَ أنْ تُجبَرَ على اللجوء إلى العنف وعلى التسبُّب بكارثة من خلال قمع وحشي.
وبتاريخ 13 حزيران/يونيو أُحِيلَ سبعةَ عشرَ ضابطِ صفٍّ من فوج الغارواليس Garhwalis إلى مجلس عسكري. فحُكِمَ على أحدهم بالاعتقال المؤبَّد، وحُكِمَ على الثاني بالأشغال الشاقة لمدة خمس عشرة سنة، وحُكِمَ على الخمسةَ عشرَ الآخرين بعقوبات تتراوح بين السجن لمدة ثلاث سنوات وعشر سنوات.
بتاريخ 27 نيسان/أبريل 1930، أصدرَ نائبُ الملك أمرًا بشأن الصحافة يحدُّ من حرية التعبير لدى الصحفيين. فمنعهم عمليًا من نشر أخبار تتعلَّق بحركة المقاومة المدنية. يؤكد غاندي قائلاً:
سواءٌ أدركْنا ذلك أم لم ندْركْه، نحن نعيش منذ بضعة أيام تحت شكلٍ مقنَّع لقانون عُرْفيّ. أصلاً ما هو القانون العرفي إنْ لم يكنْ، في أثناء وجوده، الإرادةَ المطلَقةَ للضابط الآمر؟ نائبُ الملك هو ذلك الضابط، فيُغيِّر القانونَ كلَّه، المدنيَّ والعامَّ، في وقت واحد، وذلك أينما رأى ذلك مستحبَّـًا، ويفرِضُ أوامرَ على شعب بلغَ به الخضوعُ درجةً لم يعدْ يحسُّ فيها بالإهانة ولم يعدْ يقوى على المقاومة. مع ذلك آملُ بأنْ ينقضيَ إلى الأبد زمنُ الإذعان السهل لقانون القادة البريطانيين. وآملُ ألاَّ يخافَ الناسُ من ذلك الأمر الصادر. يجب على الصحفيين، إنْ أرادوا أنْ يكونوا أهلاً للرأي العام، ألاَّ يخافوا من ذلك الأمر الصادر. طبِّقوا حكمةَ ثورو Thoreau التي تقول بأن الشرفاء يجدون صعوباتٍ في أنْ يصبحوا أغنياءً تحت نظام استبدادي. وإذا كنا قد قرَّرْنا تسليمَ أجسادنا للسلطات بدون أي تذمُّر، فلنكنْ مستعدِّين أيضًا لتسليمهم أملاكَنا ولعدم بيعهم نفوسَنا. (...) فالشيء الذي لا تتمكَّنُ السلطاتُ من القضاء عليه أبدًا والشيء الذي يهمُّ في نهاية الأمر هو فِكْرُ الأُمَّة؛ ففي هذا الوقت، من الصعب العثورُ في الهند على رجل أو امرأة تتنفَّس ولكنْ لا تتنفَّس الجفاءَ والتمردَ وعدمَ الولاء مع كل نفَس، يمكن استخدامُ مفردات أخرى لوصف عقلية الأمة التي لا يهمها سوى تدمير نظام الحكومة الحالي[9].
بتاريخ 4 أيار/مايو، كتبَ غاندي رسالةً ثانيةً لنائب الملك يُطْلِعه فيها على نيَّتِه في استثمار مخزون المِلْح في داراسانا Dharasana والاستيلاء عليها ويُعبِّرُ له فيها عن غضبه وتمرُّده على موقف الحكومة:
صديقي العزيز،
إنْ شاء اللهُ فإنني عازمٌ على الانطلاقِ نحو داراسانا Dharasana والوصولِ إليها مع رفاقي وطلبِ وضع اليد على مصانع المِلْح. لقد أُعلِنَ أنَّ داراسانا Dharasana مُلْكية خاصة. لكنَّ ذلك ليس سوى من قبيل التمويه. فداراسانا Dharasana هي في الحقيقة تحت سيطرة الحكومة شأنُها كشأن قصر نائب الملك تمامًا. ما مِنْ قَـبْـصةٍ [رَشَّة] من المِلْح يمكن أخذُها مِنْ دونِ موافقةِ السلطات مسبقًا.
يمكنكم أنْ تمنعوا هذه الغارةَ، كما سمَّوها من باب التسلية أو سوء النية، بثلاث طرق:
1. بإلغاء القانون المفروض على المِلْح؛
2. باعتقالي أنا ومجموعة أصحابي، إلاَّ إذا قامت البلادُ، وهذا ما آمله، بتعيين خلَفٍ لجميع الذين سيُعتقَلون؛
3. بوحشية خالصة، إلاَّ إذا حلَّ، كما آمل، في مكان كل رأس يُهشَّم رأسًا آخر.
لم يُتَّخَذْ قرارُ اجتياز هذه المرحلة بدون تردُّد. كنتُ أتمنَّى أنْ تواجهَ الحكومةُ المقاومين المدنيين بطريقة متحضِّرة. لن يكون لديَّ شيءٌ أقولُه إذا اكتفَت الحكومةُ، عند التعامل معهم، بتطبيق الإجراءات العادية التي ينص عليها القانونُ. بدلاً من ذلك، إذا ما عومِلَ القادةُ المعروفون بحسب الإجراءات القانونية إلى حد ما، فإنَّ عمومَ المقاومين قد اعتُديَ عليهم بطريقة وحشية وحتى بطريقة منافية للحشمة في بعض الحالات. (...)
أعرِفُ المخاطرَ الملازمةَ للطرق التي اخترْتُها. ولكنْ مِن المستبعَدِ أنْ تُسيءَ البلادُ فهْـمَ نيَّاتي. أُكرِّر اليومَ ما قلتُه منذ خمس عشرة سنة في الهند وما قلْتُه منذ عشرين عامًا في الخارج: الطريقة الوحيدة لهزيمة العنف هي تطبيق لاعنف مَحْض لا تشوبه شائبةٌ. قلْتُ أيضًا أنَّ كلَّ فعلٍ عنيف أو كلَّ قول عنيف أو حتى كلّ فكرةٍ عنيفة تشكِّل عقبةً أمام تقدُّم العمل اللاعنفي. فإذا ما لجأَ بعضُ الناس إلى العنف، على الرغم من التحذيرات المتكرِّرة، فيجب علَيَّ أنْ أرفضَ تحمُّـلَ أيةِ مسؤولية عنها، إلاَّ المسؤولية التي تقع لا محالةَ على كل كائن إنساني لقاء أفعال إنسان آخر. ولكنْ إذا ما وُضِعَت جانبًا أيةُ مسألةٍ تتعلَّق بالمسؤولية، فإنني لا أريد أنْ أخاطرَ، لأي سبب كان، في تأجيل العمل إلى حين، هذا إذا كان | |
|