التدويل : التنافس العالمي علي النفوذ والثروة في المنطقة العربية
د. وليد محمود عبدالناصر منذ فجر التاريخ وحتي لحظتنا الراهنة، تمثل المنطقة العربية، وفي القلب
منها مصر، مثار اهتمام القوي الدولية، التي تتنافس على مد نفوذها فيها، عبر
شبكات متعددة من العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية. يأتي ذلك لأسباب
جيو استراتيجية ترتبط بالموقع الجغرافي المتميز، والمتحكم في العديد من
البحار والمضايق، وقناة السويس، ومختلف طرق المواصلات، ومسارات التجارة
الدولية. كما أن المنطقة تعد مدخلا يتيح لهذه القوي النفاذ إلى مناطق أخري
في إفريقيا وآسيا للسيطرة عليها، أو ممارسة النفوذ والتأثير في دولها. ومن
ناحية أخري، فلدي هذه القوي أسباب اقتصادية تتعلق بالموارد والثروات
الطبيعية من معادن نفيسة ونادرة، وأراض صالحة للزراعة، ومواد خام ضرورية
للصناعة، وموارد سمكية تحتوي عليها هذه المنطقة.
وقد شهدت المنطقة، خلال مرحلة الحرب الباردة، ما جري وصفه في بعض الأدبيات
"بالاستعمار الجديد"، وفي أدبيات أخري بتحالفات استراتيجية، أو أحلاف أو
محاور سياسية بين دول من المنطقة ودول خارجها. وتزامن مع ذلك كله ترتيبات
عسكرية أو أمنية، أو منح امتيازات اقتصادية لدول خارج الإقليم، أو اتفاقيات
خاصة باستغلال موارد طبيعية، أو ثروات معدنية، أو متصلة بضمانات
لاستثمارات أجنبية، أو لزيادة حجم تبادلات تجارية.
وفي فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، استمرت العديد من هذه الممارسات،
وإن بمسميات وأشكال جديدة ومختلفة، في عصر وصف بأنه الطور الأكثر تسارعا،
وربما توحشا أيضا، لظاهرة العولمة. وقد تزامن مع التقدم غير المسبوق في
تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات تطور نظريات وممارسات، تنم عن صراع
للثقافات والأديان، خاصة بين الغرب من جهة، وكل من العرب والمسلمين من جهة
أخري.
تتميز العلاقات بين المنطقة والإطار العالمي الذي يحيطها في المرحلة
الحالية بعدة ظواهر لافتة للنظر. أولي هذه الظواهر هي ازدياد، بل تضاعف،
عدد اللاعبين الدوليين المعنيين بالمنطقة العربية والراغبين في إيجاد مواطئ
قدم بها، وتطوير مصالح معها، وتنوع الانتماءات الجغرافية والأيديولوجية،
ودرجة التطور الاقتصادي لهؤلاء اللاعبين، ومن ثم تنوع الاحتياجات التي
يطلبونها من المنطقة العربية. الظاهرة الثانية هي اتساع مجالات الاهتمام
العالمي بالمنطقة وما فيها، وعدم اقتصار هذا الاهتمام على عدد محدود من
الموضوعات، واختلاف ردود فعل دول المنطقة تجاه هذا النهم الخارجي. كما
يلاحظ كثافة دخول أطراف إقليمية غير عربية على الخط، ضمن هذه الدول الطامحة
لأوضاع متميزة في المنطقة العربية، وذلك على خلاف مع كان قائما على مدي
التاريخين الحديث والمعاصر للمنطقة.
التنافس بين القوى التقليدية والقوي الجديدة: ويمكننا تقسيم هذه القوى الدولية المتنافسة إلى ما يمكن تسميته بقوي
تقليدية وقوي جديدة، مع التأكيد مقدما على الطابع النسبي لهذه المسميات.
وتضم القوي التقليدية بداخلها نوعين من القوي. فهناك أولا قوى الاستعمار
الأوروبي التقليدي، ممثلة بصفة خاصة في بريطانيا وفرنسا، وإن كانت كلتاهما
تندرج في الكثير من الأحيان في سياق سياسات الاتحاد الأوروبي. ويشمل
الاتحاد 27 دولة، منها دول ليس لها تاريخ استعماري في المنطقة العربية، مثل
دول الشمال الأوروبي، ودول كان لها تاريخ صداقة حميمية مع بعض الدول
العربية، مثل اليونان، ودول ثالثة كانت لها علاقات قوية مع بعض دول
المنطقة، عندما كانت تحت نظم حكم مختلفة، مثل حالة الدول التي كانت منتمية
في السابق للكتلة السوفيتية، حتي نهاية الحرب الباردة.
أما المكون الثاني للقوى التقليدية، فيتمثل في كل من الولايات المتحدة
الأمريكية والاتحاد الروسي، فكل منهما كان يتم تصنيفه، حتي نهاية الحرب
الباردة، ضمن القوي الدولية الجديدة المهتمة بشئون المنطقة، مقارنة بقوى
الاستعمار التقليدي. أما بعد نهاية الحرب الباردة ودخول أطراف دولية جديدة
على الخط في دائرة الاهتمام بشئون المنطقة العربية، والسعي للعب دور فيها
وبناء مصالح معها، فقد صارت الدولتان تصنفان ضمن مجموعة القوي التقليدية.
أما القوى الجديدة، فهي متعددة ومتنوعة الانتماء والأهداف، ويغلب على عدد
كبير من هذه الدول ما يمكن أن نطلق عليه "الطابع الآسيوي" من الصين،
واليابان، وكوريا الجنوبية في شرق آسيا، ومرورا بماليزيا وبقية دول الآسيان
في جنوب شرق آسيا، ووصولا إلى الهند وباكستان في جنوب آسيا. وتشمل القوى
الجديدة دولا من أمريكا اللاتينية، خاصة البرازيل، رغم أنها ليست الدولة
اللاتينية الوحيدة المهمة بالمنطقة، كما تشمل دولا إفريقية مثل جنوب
إفريقيا.
وكل ما تقدم بالطبع لا يشمل القوي الإقليمية، وهي دول الجوار التقليدي،
خاصة مثل إيران وتركيا وإثيوبيا، أو المستجدة مثل إسرائيل، والتي لعبت -
ولاتزال تلعب - أدوارا لا يستهان بها لتعظيم مكاسبها، ومد نفوذها، وبسط
تأثيرها قدر الإمكان قي المنطقة العربية، وهو الأمر الذي تضاعف وتصاعدت
مظاهره مع تراجع النظام الإقليمي العربي، وإن بدرجات متفاوتة، على مدي
العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة.
شبكة العلاقات الاقتصادية: لا شك في أن المشترك بين كافة هذه القوي الخارجية، التقليدية والجديدة على
حد سواء، في هذه اللحظة التاريخية، هو المطامح ذات الطابع الاقتصادي،
والتي يمكن أن نقوم بتقسيمها إلى عدة مجالات، ما بين تجارة واستثمارات
وتكنولوجيا، وجذب العقول المؤهلة بهذه الدول إليها، وتأمين مدخلات من
المواد الخام والموارد الطبيعية.
فمن جهة، تتنافس كافة هذه القوي الدولية بلا استثناء في السعي للحصول على
نصيب متزايد من أسواق واسعة وواعدة، وذات قوي شرائية متصاعدة من حيث التوسع
في حجم الطبقة الوسطي ونصيبها من الدخل والثروة. هذه الطبقة مرشحة للمزيد
من التوسع والتمكين، إذا سارت الأمور في مسارها الطبيعي، في ضوء معطيات
"الربيع العربي". وفي هذا السياق، تسعي القوي الدولية لزيادة حجم وتنويع
صادراتها إلى الدول العربية. من ناحية أخري، تنقل هذه القوي بعض
استثماراتها إلى الدول العربية، خاصة تلك التي تشكل تصنيعا لمراحل لم تصبح
ضمن الأكثر تقدما، ضمن الدورة الاقتصادية للعملية التصنيعية، أو تلك التي
تشكل عبئا على الدول المصدرة لها، بسبب السياسات العمالية أو المعايير
البيئية بها، أو غير ذلك من معوقات تحول دون استمرار هذه الاستثمارات في
بلدانها الأصلية.
وفي الإطار ذاته، فإن تلك الأطراف الخارجية تخطط من أجل تصدير التكنولوجيا
الخاصة بها إلى الدول العربية، بما يرتبط بذلك من نقل المعرفة، ومن خدمات
تدريبية مستمرة، توجد صلات متواصلة، وتضمن تفاعلا مؤسسيا بين هذه الأطراف
الخارجية والدول العربية. يتركز نشاط تصدير التكنولوجيا بصورة خاصة على
التكنولوجيات الخاصة بالبنية التحتية، ومجالات تحتاج إليها غالبية
المجتمعات العربية التي تتميز بالفقر المائي، مثل تحلية المياه. وهناك أيضا
نشاط واضح في مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة، مثل الطاقة المولدة من
الرياح، ومن الطاقة الشمسية، وكذلك بالطبع الطاقة النووية، بالرغم من
التراجع، الذي نظنه مؤقتا بشأنها، والذي حدث نتيجة حادث التسرب النووي من
مفاعلات "دايئيتشي فوكوشيما" اليابانية.
تتطلع هذه القوي الدولية أيضا إلى الحصول على حصة مضمونة، أكبر حجما وأكثر
وزنا مما تحصل عليه حاليا، من موارد المنطقة العربية المتنوعة ما بين
مصادر طاقة تقليدية، من نفط، وغاز طبيعي، ومعادن متنوعة مما تحمله الأرض أو
المياه، وأراض صالحة للزراعة وغير مستغلة في بعض الدول العربية مثل
السودان، ومصادر للثروة السمكية والبحرية، لا تزال غير مستغلة على النحو
الأمثل، كما هو الحال في موريتانيا مثلا.
موقع المنطقة في شبكة المواصلات والتجارة الدولية: تتميز المنطقة العربية بالإطلال على أو التحكم في الكثير من أهم شرايين
المواصلات وطرق التجارة الدولية، وفي المقدمة منها بالطبع قناة السويس في
مصر، بالإضافة إلى البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب. وهو ما ظهر بوضوح في
قدر الاهتمام الدولي بمسألة مكافحة القرصنة قبالة السواحل الصومالية، نظرا
لما مثله ذلك من مخاطر جمة وجدية على طرق التجارة الدولية وتأمينها. فقد
شكل التضاعف غير المسبوق في تكلفة التأمين على التجارة الدولية بسبب هذا
الوضع تهديدا حقيقيا على انسياب التجارة الدولية. كما شكك في قدرة النظام
الدولي على حماية وتأمين أحد أهم الطرق التقليدية الثابتة للتجارة منذ نحو
قرن ونصف قرن عبر قناة السويس. ومن هنا، جاء الحرص على العمل للحيلولة دون
تمكن تنظيم القاعدة، أو التنظيمات المحلية المتحالفة معه في اليمن، من فرض
السيطرة على المناطق الساحلية، خاصة في جنوب اليمن، نظرا لأهميتها وخطورتها
على سلامة الملاحة البحرية عموما.
لقد استفادت الأطراف الإقليمية والدولية، أو على أقل تقدير بعضها، من
التجربة الصومالية، ووعته وطبقته في الحالة اليمنية، بدرجة أو بأخري، في
ضرورة أن ترتبط عملية بلورة استراتيجية لمواجهة الخطر المتعلق بتهديد
التجارة الدولية وأمنها بتسوية سياسية على الأرض، وداخل الدولة المعنية.
وحتي إن كانت هذه التسوية لا تتصف بالضرورة بالعدالة والإنصاف المطلقين، أو
حتي المطلوبين شعبيا، فإن هدفها هو إيجاد صورة ما من صور الوحدة الوطنية،
تمكن من الاتفاق على رئيس دولة وحكومة ائتلافية، على أرضية صيغة "لا غالب
ولا ومغلوب" اللبنانية المنشأ أصلا. يكون في مقدمة مهام وأولويات هذه
الحكومة التصدي لخطر انتشار نفوذ وسيطرة تنظيم القاعدة على بعض المناطق،
وإنهاء حالة "فراغ القوة" الموجودة على الأرض. وهو ما بات يعرف الآن في
الأدبيات السياسية بـ "النموذج اليمني" في السياق الأعم لظاهرة "الربيع
العربي".
تدعيم شبكات نقل المعرفة: يمتد نشاط القوي الخارجية أيضا إلى قطاع حيوي ومهم لكل دولة وأي مجتمع،
وهو التعليم، بمكوناته من المراحل المدرسية والجامعية والدراسات العليا،
بالإضافة إلى البحث العلمي بمختلف تنويعاته، وتعدد مستوياته، وأنشطة
التطوير التكنولوجي المترتبة عليه. وقد بدأت القوي الدولية الساعية لمد
نفوذها في المنطقة العربية تتنافس فيما بينها في اختيار أفضل الكوادر
البشرية الموجودة لدي الدول العربية بهدف جذبها للدراسة أو التدريب لديها،
وربما للاحتفاظ بها لتملأ أوجه النقص لديها من الموارد البشرية المؤهلة
تأهيلا عاليا، وذات القدرات الفنية والإدارية المتقدمة.
وهناك وجه آخر لهذه السياسات، يتمثل في عرض الكثير من هذه الأطراف خدماتها
في مجال تطوير منظومة التعليم، خاصة التعليم العالي، والبحث العلمي في
البلدان العربية. وهو ما يدلل عليه ويشهد به هذا التزاحم غير المسبوق، خلال
السنوات الأخيرة، بين هذه الأطراف الخارجية على إقامة الجامعات الخاصة
بها، أو الإسهام في إقامة أو تزويد برامج ومشروعات لجامعات وطنية أو أهلية
في الدول العربية، مع التركيز على معاهد التدريب الفني والتعاون التقني في
المجالات العلمية التطبيقية، بما بات يعرف بالعلوم الطبيعية، والعلوم
الرياضية، والعلوم الجامدة.
ولا يخفي على أحد بالطبع ما توجده المشاركات الخارجية في أنشطة تطوير
التعليم والبحث العلمي من صلات ثقافية، وليس فقط علمية أو بحثية، بل قد تصل
إلى ما يسمي بصلات معنوية بين النخب المستقبلية في تلك البلدان العربية من
شباب اليوم وهذه الأطراف الخارجية. وهي صلات ترتبط بشكل أو آخر بأشكال
الانتماء أو الولاء، ولو غير الإرادي، من جانب المنتمين لهذه المؤسسات
الأكاديمية أو البحثية من أبناء الدول العربية تجاه الأطراف الخارجية ذات
الصلة، والتي تكون في هذه الحالة بمثابة الجهات "الأم" علميا، وربما أيضا
ثقافيا ومعنويا.
العلاقات الأمنية - العسكرية: ورابع الأبعاد في رؤية الأطراف الخارجية للمنطقة العربية وسعيها لتحقيق
مصالحها بها، وربما أولها لدي الكثيرين، هو البعد العسكري/ الأمني الذي
يكتسي بأبعاد جيو استراتيجية. ويمتد هذا البعد بجذوره في أعماق تاريخ
المنطقة بتواصل لم ينقطع على مدي الأزمنة المختلفة، وإن اختلفت طبيعة القوي
القائمة به من مرحلة إلى أخري. وتبقي أهمية البعد الأمني/ العسكري واضحة
في علاقات القوي الدولية التقليدية بالمنطقة. يستوي في ذلك موقف الولايات
المتحدة، وروسيا الاتحادية، كما يبدو واضحا من مواقفها من الحالة السورية،
والدول الأوروبية عبر آلية العمل العسكري لحلف شمال الأطلنطي (الناتو)، كما
ظهر في الحالة الليبية ومرشح، بدرجة أو أخري، للتطبيق في الحالة السورية.
وهناك أنماط مختلفة للتنسيق الأمني عبر الناتو، سواء بشكل ثنائي مع كل
دولة عربية على حدة، أو بشكل جماعي، كما حدث عبر تبلور آلية الحوار
الأطلنطي/ المتوسطي. وتبدو الجهود الأمريكية، التي جرت منذ انتهاء الحرب
الباردة لتعزيز وجودها العسكري وتنسيقها الأمني داخل المنطقة العربية،
واضحة من خلال تضاعف عدد القواعد العسكرية الأمريكية تحت مسميات مختلفة.
وقد عملت الولايات المتحدة على تشكيل مناخ متقبل لهذا الوجود، من خلال
الترويج لضرورات أمنية تستوجب ذلك من منظور الدول المستضيفة لهذه القواعد.
أما القوى الجديدة، على تنوعها، فتبدو حتي الآن غير معنية بشكل مباشر
بالوجود الأمني والعسكري. وإن كان ذلك لا ينفي استثناءات على هذه القاعدة،
قد تكون مؤشرا على توجهات مستقبلية لتلك القوي الدولية الجديدة، أو مجرد
حالات منفصلة لا يقاس عليها. وأحد أبرز الأمثلة على هذا الاستثناء هي حالة
القاعدة العسكرية اليابانية في دولة جيبوتي العربية، والتي تم اتخاذ قرار
إنشائها على خلفية تطور ظاهرة القرصنة الدولية قبالة السواحل الصومالية،
ومخاطرها على الملاحة والتجارة الدولية، وما مثله ذلك من تهديد مباشر
للمصالح اليابانية، خاصة الاقتصادية، علما بأنها الحالة الأولي بعد الحرب
العالمية الثانية التي تقيم فيها اليابان قاعدة عسكرية خارج حدودها.
التحالفات والترتيبات السياسية: لا ينفصل البعد السياسي، ونقصد به أنماط التحالفات التي تسعي القوي
الدولية ذات المصالح والتطلعات في المنطقة العربية لإقامتها، عن الأبعاد
السابق ذكرها جميعا. وهنا، يكون الحديث أساسا عن ترتيبات وتفاهمات ومحاور،
ولكن الأوراق تبدو أشد اختلاطا، حيث نجد أن الدولة العربية قد يكون لديها
أكثر من آلية "حوار استراتيجي"، أو آلية "تشاور سياسي"، أو آلية "لجان
مشتركة" مع أكثر من طرف خارجي. وفي أحيان عديدة، تشمل هذه الآليات أطرافا
تتناقض في مصالحها، وهي بالتأكيد جميعا متنافسة فيما بينها بدرجة أو أخري.
يصدق ذلك حتي ولو كانت هذه الأطراف تقف في خندق واحد، أو ضمن ائتلاف واحد
على الصعيد الدولي، كما هو الحال - على سبيل المثال - بين الولايات المتحدة
الأمريكية من جهة، ودول الاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، واليابان من جهة
ثالثة.
وقد انعكست جهود إنشاء المحاور، التي تضم أطرافا خارجية مع أطراف عربية،
على الأوضاع السياسية الإقليمية ودون الإقليمية داخل الوطن العربي. فعلى
سبيل المثال، بدا واضحا أن ثمة ملامح تبلورت لقيام محور سياسي بشأن الأزمة
الليبية، ومن بعدها الأزمة السورية، بين الدول الغربية مجتمعة، ممثلة في
حلف الناتو من جهة، ومجموعة الدول الخليجية العربية، أو على الأقل الدول
الأكثر تأثيرا في إطاره، من جهة أخري. يأتي ذلك في ظل انشغال الأطراف
الرئيسية الأخري، وصاحبة الأدوار القيادية تاريخيا وتقليديا حتي الماضي
القريب في المنطقة العربية، إما بشئونها الداخلية، بهدف توحيد صفوف الداخل،
تمهيدا للانطلاق من جديد، أو بالمرور عبر مراحل انتقالية بعد تعرض هذه
الدول لعاصفة "الربيع العربي"، وما حملته من تحولات وتغيرات.
كما أن الدور الإقليمي لهذه الدول، حتي قبل اندلاع "الربيع العربي"، كان
قد تراجع، أو صار يسير في ركاب هذا الطرف الدولي أو ذاك، أو هذا الائتلاف
الدولي أو ذلك، أو ارتبط بأطراف إقليمية غير عربية في تحالفات جاءت أحيانا
على حساب أطراف عربية أخري.
العلاقات الثقافية: أما البعد السادس والأخير في تنافس القوي الدولية في المنطقة العربية، فقد
لا يبدو واضحا أو مهما للبعض، وأقصد هنا تحديدا البعد الثقافي. وهو بعد
نراه شديد الأهمية، خاصة على المدي البعيد، كما نراه مرتبطا، ولكنه ليس
مماثلا، بالبعد الخاص بالتعليم والبحث العلمي، والتدريب المهني، وتطوير
الموارد البشرية بشكل عام.
ونجد في هذا السياق أن ميزانيات الترويج لثقافات وغيرها من مصادر القوة
الناعمة لهذه الأطراف الدولية في المنطقة العربية قد تضاعفت على مدي
السنوات الأخيرة. كما تم توسيع وزيادة دائرة المشروعات المكرسة لبرامج
التبادل الثقافي أو الفني، أو ما يسمي ببرامج التبادل الإنساني، والتي تنظم
برامج زيارات لدولها للكوادر من الشباب، والنساء، والإعلاميين، والصحفيين،
والأكاديميين، والباحثين، وغير ذلك من قوي مؤثرة حاليا، أو ذات إمكانية،
أو فرصة للتأثير المستقبلي في صناعة توجهات الرأي العام داخل كل دولة
عربية، أو على الصعيد القومي العربي.
وقد تزامن مع ذلك التطور اللافت للنظر حرص تلك الأطراف الخارجية على فتح
مراكز ثقافية لها في مختلف العواصم العربية، بل وفي مدن مهمة خارج العواصم،
وكذلك في الدخول في شراكات ثقافية مع الدول العربية التي تملك إسهامات
حضارية وثقافية، شكلت عطاء وإثراء للإنسانية في مراحل تاريخية مختلفة،
وهنا تبرز بلا شك الحالة المصرية كنموذج.
وتهدف هذه الجهود إلى محاولة التأثير في تشكيل العقول والتوجهات، بما يمهد
الطريق للميل للتحالفات السياسية، ولقبول بناء المصالح الاقتصادية،
والعلاقات التعليمية والعلمية والبحثية، وربما أيضا للترتيبات التعاونية
الدفاعية أو الأمنية، مع هذا الطرف أو ذاك، على قاعدة من الفهم الثقافي
المشترك، والتعرف المتعمق على الآخر، مما يجعل هذه الروابط أكثر صلابة
وقابلية للاستمرار والديمومة.
خاتمة: تشكل العلاقات ما بين المنطقة العربية والأطراف الخارجية الفاعلة فيها
خريطة شديدة التعقيد. ولا تخلو هذه الشبكة من العلاقات من الصراع والتنافس
بين أطراف خارجية قوية لها مطامحها التي تراها كل منها مشروعة، من وجهة
نظرها لأمنها القومي ومصالحها الوطنية. ولكن ذلك لا يعني أن هذه الشبكة
المعقدة من الفعاليات تعمل بمعزل عن الديناميات الموجودة داخل الإقليم
العربي.
كما لا يعني أن ما ذكرناه "قدر" لا مفر منه، ولا مناص عنه، بل إن إرادة
الأطراف العربية، فرادي وجماعات، لها دورها تجاه مخططات الأطراف الخارجية،
وتحديد المواقف منها، في ضوء مصالح الأطراف العربية، بل وتحديد مدي نجاح أو
فشل هذه المخططات في المقام الأول. وكلما توحدت الإرادات العربية المنفردة
على أرضية مصالح الشعوب العربية الحقيقية، كانت قدرتها أكثر على التأثير
في مخططات الأطراف الأخري، وفي تطويعها لتتوافق مع المصالح العربية والأمن
القومي العربي.
تعريف الكاتب:كاتب مصري
الجمعة أكتوبر 26, 2012 1:47 pm من طرف تابط شرا