تاريخ التسجيل : 05/11/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2
15072012
الانتخاب الطبيعي في التطبيق
الانتخاب الطبيعي في التطبيق
قبل 150 عاما شرح الباحث تشارليز داروين (1809-1882)، في كتابه " اصل الانواع" كيف ان الكائنات الحية جميعا تتصل ببعضها البعض بالقرابة كلما عدنا بالتاريخ الى الوراء. إضافة الى ذلك تمكن من تفسير كيفية نشوء الانواع، بالذات من خلال ميكانيزم الانتخاب الطبيعي. اليوم اصبح العلماء قادرين على مراقبة ومتابعة الانتخاب الطبيعي.
إذا انتبهنا الى الكائنات المحيطة بنا سنجد انها مؤهلة للبيئة التي تحتويها تحديدا. وتشارليز داروين اوضح كيف ان جميع العوامل الممكنة التي تؤدي الى إنتشار الحيوانات واالنباتات او انقراضها او نشوء سلوكيات وافضليات جديدة، يمكن تفسيرها بمبدأ الانتخاب الطبيعي. الان تمكن العلماء من تحقيق كتالوج يحتوي على امثلة عن سرعة فعالية الانتخاب الطبيعي. في العديد من الاحوال يمكن لهذه الامثلة ان تتابع وتفسر اسباب التغييرات حتى المستوى الجيني.
احد الامثلة سمك guppy وهو نوع من السمك الصغير يعيش في المجاري المائية في جنوب ووسط امريكا اللاتينية. كقاعدة يملك ذكور هذا النوع من السمك مؤخرة كبيرة وملونة بألوان فاقعة، الامر الذي جعلتهم مرغوبين كسمك للزينة البيتية، ولكن ليس في كل مكان تملك الذكور هذه االالوان الفاقعة. في بعض المجاري المائية مثل مجرى Trinidad لايملك ذكور اسماك الغوبيين الواناً تثير الانتباه ، والباحثين توصلوا الى ان هذا الامر هو قاعدة عامة في المجاري المائية حيث توجد كائنات كثيرة تتغذى على السمك. السمك الذي يفقد لونه الفاقع يصبح مختفيا افضل بين بقية الوان الطبيعة التي تحيط به، في حين من لايفقد لونه يصبح طعاما سهلا ويسرع اختفائه من الطبيعة.
من اجل التأكد من صحة هذا التفسير قام الباحثين بإصطياد بعض الاسماك المتخصصة بأكل الاسماك واطلقوها في المجاري المائية التي تملك ذكور من الاسماك لها الوان فاقعة. تماما كما كان متوقعا اصبحت غالبية الاجيال الجديدة ، بعد بضعة ولادات، فاقدة للالوان الفاقعة. هذا الامر بسبب ان الذكور ذات الالوان الفاقعة قد جرى قتلها الامر الذي اخلى الساحة للذكور ذات الالوان الكئيبة لتقوم بتلقيح الاناث وتنقل جيناتها الى الاجيال القادمة وتسود. ليس من السهل تحديد اي الجينات على الضبط الذي تغير، ولكن العديد من المؤشرات تدلل على ان التغييرات عديدة وليست تغييرا جينا واحدا.
في حالات اخرى يمكن للانتقاء الطبيعي ان يقود الى نتائج سريعة ومفاجاة من خلال التأثير على جين واحد فقط.
صراصير الحقل من نوع (Gryllidae) تعيش في منطقة حوض المتوسط، جاءت الى مجموعة جزر هاواي في نهاية القرن الثامن عشر،. هذا الصرصور يتميز بغنائه الذي لاينقطع والمميز في ليالي الصيف. وبالمناسبة يجب الانتباه الى ان " غناء" هذا الصرصور يصدر عن احتكاك نتواءات على اجنحته ببعضها. على هذه الجزر تكاثرت الصراصير بحرية لعدم وجود اعداء طبيعيين الى ان جاء مهاجر اخر الى هذه الجزر هو الذبابة Ormia ochracea. الذبابة المُهاجرة تقوم بوضع بيضها في جسم الصرصور " المغني" الذي تجده من خلال حاسة سمعها الحساس. يرقات الذبابة يتغذون على محتويات جسم الصرصور قبل ان تخرج منه. والذبابة جاءت من امريكا الشمالية والمكسيك، وهناك كانت توجد انواع اخرى من عائلة هذا الصرصور كانت تقوم بالتكاثر فيه. في جزر هاواي التقوا بهذا الصرصار الذي لم يكن يعرف هذا النوع من الذباب من قبل ولذلك فهو لايملك اي دفاع بيلوجي او سلوكي ضده.
عام 1991 بدأ الباحثين يتابعون هذا الصرصار على جزيرة كاواي Kauai, حيث تناقص مجموع الصراصير بشكل دراماتيكي نتيجة هجوم الذبابة. عام 2002 سمع الباحثين صوت صرصار واحد ، لقد اصبحت الجزيرة صامتة. عندما يتوقف الصرصار عن الغناء يصبح من الصعب العثور عليه من قبل الذبابة والانسان على السواء، ولكن عام 2003 تم العثور على كمية كبيرة من الصراصير، غير انهم كانوا خرسان.
الاصوات عند ذكور هذا النوع من الصراصير تصدر من خلال إحتكاك مسننات موجودة على الجناح الامامي على مثيلتها في الجناح الامامي الثاني. في جزيرة كاواي فقدت الصراصر الخرساء هذه المسننات ولم تعد بقادرة على اصدار الاصوات حتى لو ارادت. بالمقابل لم تعد تستطيع الذبابة العثور على ضحاياها الخرسان، مما انقذ الخرسان وجعلهم وحدهم المؤهلين لانقاذ النوع من الموت. خلال عشرين جيل اصبح غالبية ذكور الصراصير خرسان، على الرغم من وجود بضعة مغنيين، حيث ان الصراصير التي تصدر اصوات كانت هي المرغوبة لدى الاناث.
عند دراسة الصرصور جينيا اكتشف الباحثون ان طفرة واحدة على جين واحد هي التي جعلت الصرصور لاينشأ لديه تسننات على جناحة الامامي. إضافة الى ذلك كانت هذه الطفرة على الجين الجنسي.
الجينيوم البشري يحتوي على 20000-25000 جين. وعلى الرغم من ان الباحثين على معرفة كافية نسبياً بمكان تموضع جينات محددة وشيفرات اخرى على الكروموسومات الا انهم يعلمون بوظائف محدودة لهم. ومع ذلك يمكن البرهنة على ان الكثير من هذه الجينات واقعة تحت ضغط الانتخاب الطبيعي عند انسان اليوم.
عند صرصار البحر المتوسط يوجد على الاقل نسختين مختلفتين للجين الذي يجعل ذكور الصرصار " خرساء": الجين الطبيعي الاعتيادي والجين الحاصل على الطفرة الجديدة. هذا الامر على الدوام كذلك عند التدقيق بالجينات على حدى. القاعدة ان كل جين موجود له العديد من النسخ، تنحرف قليلا عن بعضها. مثلا اذا اخذنا 1000 شخص، يمكن ان يظهر ان احد الجينات لديهم له خمسة نسخ مختلفة: قسم منها شائع والقسم الاخر نادر. كل شخص يحصل على نصف مكونات الحمض النووي من الاب في حين ان النصف الثاني من الام، وغالبا يتشابه النصفين. إذا لم يجري اي انتخاب طبيعي، سيكون التوزيع على اساس الصدفة المطلقة.
في السنوات الاخيرة جرى مقارنة بين د.ن.آ عند اشخاص من مختلف بقاع العالم. المفاجأة التي ظهرت ان التقسيمات الجينية المنتجة للنسخ المتعددة ليست على الاطلاق صدفة. قسم من النسخ الجينية يمكن الحصول عليها بسرعة ملحوظة وبتردد اكبر عما كان التوقع سابقا. يبدو الامر وكأنه جرت وراثتهم في ذات الوقت، ولذلك فالتفسير الوحيد المعقول ان جزء من الجينيوم يجري إعادة تشكيله على الدوام بواسطة الانتخاب الطبيعي.
بعض النسخ الجينية تقدم لصاحبها افضلية ملاحظة. كقاعدة لانعلم هذه الافضلية المرتبطة بكل نسخة، والتي جعلت النسخة تبقى من ضمن الخيارات، ولكن من الممكن ان تكون ، مثلا، زيادة مقاومة عوامل البيئة السلبية. النسخ الجينية الذي يبرهن الواقع التجريبي انهم جعلوا صاحبها افضل من غيره من حملة النسخ الاخرى، تكافئ بالانتشار السريع في اكبر عدد من الاجيال اللاحقة، وخلال هذه العملية سيقومون " بالتعلق" بخصائص من نسخ اخرى يأخذونها معهم. لهذا السبب يبدو وكان الجينات، ولحد معين، متشابكة مع بعضها. اكثر مايدهش في هذه المقارنة ان هناك تغييرات هائلة تجري على الجينوم البشري. من الواضح انه على الاقل ربع كمية الجينات البشرية واقعة تحت تأثير انتقاء طبيعي فعال. بمعنى اخر، يمكن القول اننا نقف امام عملية تغيير ثوري على نوعنا البشري في المستقبل القريب.
البعض يعتقد ان البشر فوق قوانين الطبيعة ولاتمسه قوانين الانتقاء، بفضل تحسن مستوى الظروف المعيشية والطب، الذي يقوم بإنقاذ العديد من الاحياء كانوا سيموتون في فترة مبكرة لو تركوا لرغبة القضاء والقدر. من المحتمل ان هناك شئ مختلف يتعامل معه الانتقاء الطبيعي الان. من المحتمل اننا في الطريق للتلائم مع انواع جديدة من الاطعمة او لربما سيجري الاختيار على قاعدة كيفية تفاعل اجسامنا مع الانواع المختلفة من الادوية. من السخرية ان معرفتنا للجينوم البشري في حدودها الدنيا، بحيث اننا قادرين على التعرف على الميكانيزم الذي يتحكم بالانتخاب الطبيعي لدى الصرصار في حين من الصعب معرفته لدينا.
في الطبيعة نجد العديد من المناطق الصغيرة التي انعزلت بسبب تغييرات محلية مما ادى الى انقطاع الاتصال بين الكائنات في المنطقة المنعزلة وبين بقية افراد النوع. مثل هذه الامثلة تقدم لنا امثلة باهرة على الانتخاب الطبيعي الذي لاشك فيه، ومن هذه الامثلة الاسماك العمياء في المغارات المغلقة التي عثر عليها في المكسيك وامريكا واستراليا وعُمان واسرائيل ومنها نوع: Garra barreimiae, Astyanax mexicanus. انواع اخرى توجد في بيئات مفتوحة كاعماق المحيطات المظلمة حيث لاداعي للون او للبصر مثل Fangtooth fish, في حين نجد بعض الكائنات الاخرى توجد في مناطق جغرافية خاصة لايوجد فيها مايهددها وبالتالي لاحاجة للبصر مثل السلمندرا Typhlomolge rathbuni. الاسماك التي المعروفة لنا في المناطق المفتوحة اصبحت في المناطق المظلمة عمياء، لاختفاء الحاجة للاختيار على اساس الرؤية. البصر لم يعد افضلية، وانما على العكس القدرة على البقاء على الحياة بدون بصر هو الافضلية التي جرى اختيارها.
على جزيرة Lanzarote والواقعة في المحيط الاطلسي، وهي جزء من مجموعة جزر الكناري، اكتشف العلماء حيوانا جديدا يسموه Speleonectes atlantida, وهو يعيش في نفق تحت البحر، نشأ بنتيجة انفجار للبركان مونته كورونا قبل 20 الف سنة. اللهب المتدفق سال من فوق البركان وتدفق الى البحر وعند ملامسته للماء تصلب وشكل نفق او ماسورة ضخمة. هذا النفق المسمى Túnel de la Atlántida, يعتبر الاطول من نوعه وطوله 1500 متر. الفقارية التي عُثر عليها طولها 10-20 مللم وهي عمياء تماما، في حين تملك انتين خارج من رأسها وتملك العديد من الشعيرات الحساسة. بفضل اطرافها المخلبية تجمع الكثير من الطعام وتستخدمها ايضا للهجوم على ضحاياها التي تكبرها بالحجم الى الضعف. هذا الحيوان يذكرنا بحيوان اخر اسمه Speleonectes ondinae, وهو الوحيد الذي يعيش قرب جزر الكناري، وينتمي الى ذات العائلة، في حين ان هناك 20 نوع اخر تعيش في الكاريبي، مما يعني انهم امتلكوا اصلا مشتركا قبل 200 مليون سنة ، حيث بدأت القارات بالانفصال عن بعضها.