الجيوش العربية: قمع الداخل ومهادنة الخارج
أضيف في 26 يونيو 2012
ثمة خيط غليظ
يربط بين اسقاط المضادات الجوية السورية للطائرة التركية والدور الذي يوم
به الجيش السوري في قمع الثورة الشعبية السورية، وبين دخول قوات الجيش
اللبناني مجددا إلى مخيم نهر البارد شمال لبنان وقتل عدد من أبنائه وجرح
آخرين وترويع سكان هذا المخيم المنكوب تاريخيا، وبين خطف المجلس العسكري
الأعلى في مصر للثورة الشعبية المصرية والانقلاب عليها من خلال الاعلان
الدستوري 'المكبل' لجميع للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية هناك،
فضلا عن الكثير من الممارسات الأخرى لجيوش عربية أخرى لم تجد غضاضة ولم
يساورها خجل في التصدي لشعوبها بالحديد والنار.
ذلك الخيط الجامع يحكي
قصة نشوء الجيوش العربية نفسها، ويميط اللثام ،من جديد، عن طبيعة المهام
الموكلة إليها وكذلك عن ما يمكن أن يطلق عليه تجاوزا العقيدة العسكرية
والفكرية التي تقوم عليها تلك الجيوش وتبني على أساسها استراتيجياتها
وتحكبك على قاعدتها تكتيكاتها، وتخصص لضمان فعاليتها تلك حصة الأسد من
الناتج القومي لبلدانها حارمة الناس من أبسط مقومات الحياة الانسانية
الكريمة ومن أن يعيشوا في مستوى لائق بالانسان العربي، الذي يبدو أنه فقد
أي أمل في تصحيح مسار تلك الجيوش، فانقلب على الأنظمة السياسية المشكلة
لها والمكونة منها.
أسود داخل الأوطان و'علوج' خارجها، أنذال في
التصدي لأعداء الشعوب وصناديد في قمع الشعوب عينها، يستقوون على من لا
يملك القوة ويستأسدون على الانسان العادي الأعزل، بينما يصول العدو بين
ثنايا الأوطان وأروقته برا وبحرا وجوا مخترقا نسيجها الاجتماعي ومنظومتها
القيمية والأخلاقية من خلال محاولات نشر ثقافة الاستهلاك وهدم الروح
المجتمعية للمواطن العربي، جبناء ومتخاذلون على جبهات القتال وشرسون حد
الوحشية في أقبية مخابراتهم الرطبة والمعتمة وفي شوارع المدن وبين الحقول
في القرى والأرياف المنتفضة.
نعم، قد باتت الحكاية معلنة، وقد تم رفع
الغطاء ولم تعد تجدي تلك القصص عن بطولات كاذبة هنا وأمجاد ملفقة هناك بعد
أن وضعت تلك الجيوش على محك انجاز مهمتها الأساسية المتمثلة في الدفاع عن
الأنظمة السياسية المهترئة التي أنشأتها، فمن يستطيع نسيان تاريخ الجيوش
العربية الملبد بغيوم تقطر تخاذلا عندما يتعلق الأمر بالذود عن حياض
الوطن؟ يد تقدم الشاي لجنود وضباط العدو في جنوب لبنان واليد الأخرى تبطش
بأبناء المخيمات في شمال لبنان وجنوبه ووسطه، يد تضغط على الزناد وتسقط
طائرة تركية عابرة ويد تضغط على مكبر الصوت وتقول سنرد في المكان والزمان
المناسبين الانتهاكات الاسرائيلية حتى لو عبرت طائرات العدو المقاتلة فوق
قصر الرئيس وقصفت أهدافا في عمق جغرافيا الوطن.
في غضون سويعات أوربما
دقائق تدمر جميع الطائرات الحربية في هذا البلد العربي، بينما تدك قواعد
الدفاع الجوي وتمحى من الوجود في بلد عربي آخر، وفي غضون ستة أيام يحتل ما
تبقى من فلسطين مضافا إليه أجزاء من أكثر من بلد عربي، بينما تتمكن تلك
الجيوش المهزومة عينها من ابقاء أنظمة مستبدة في سدة الحكم لأكثر من نصف
قرن من الزمن أو لنقل قرن من الزمن إذا أخذنا بعين الاعتبار لحظة النشوء
الحقيقية لتلك الجيوش، التي جاءت في سياق متتالية من إعلانات الاستقلال
الصوري، الذي لم يأت للشعوب إلا بوكلاء وضيعين للقوى الاستعمارية التي رسمت
وجه المنطقة على هواها قبل أن تسحب جيوشها الجرارة وتوكل مهامها لمجموعة
من أشباه الجيوش المحلية مهمتها الأساسية الحفاظ على ملامح ذلك الوجه
البغيض.
أما إذا أغوتنا قضية المهام التي تضلع بها الجيوش العربية
عموما وجيوش ما يطلق عليه دول الطوق على وجه الخصوص، وقررنا الإبحار في
المحيط الشاسع للأمثلة والنماذج التي من شأنها فضح الطبيعة القذرة لتلك
المهام ليس لجهة التعامل مع شعوبها فحسب، وإنما لجهة ' انجازاتها العظيمة'
على صعيد التعامل مع القضية الفلسطينة من منظور تعاملها مع أبناء الشعب
الفلسطيني في الشتات، والتي شكل مخيم نهر البارد أو ما تبقى منه وما آل
إليه على وجه الدقة فصلها الأخير، وذلك حين مارس الجيش اللبناني عقيدة
عسكرية لطالما أخلص لها ووجه مجددا فوهات بنادقه ومدافعه إلى صدور أهالي
المخيم العارية في مشهد يعيد إلى الذاكرة ممارسات جهاز الـ' 16' الأمني
الذي عاث منتسبوه، على مر التاريخ، فسادا وتنكيلا وقهرا لأبناء مخيمات
الفلسطينين في لبنان بطوله وعرضه وبشماله وجنوبه.
في الحالة
اللبنانية، مثلما هي حالات أخرى، تتعدد الذرائع والحجج والعقيدة القمعية
واحدة لا تتغير إلى درجة لم يعد المراقب للأحداث يكترث كثيرا معها لحيثيات
الميدان في ظل انكشاف ملامح تلك العقيدة التي يتفاخر بها الجميع في لبنان
من قوى سياسية وحكومات وحتى رؤساء خاصة وأن الرئيسين اللبنانيين السابق
والحالي قادمان من المؤسسة العسكرية عينها التي تحرص على ابقاء تلك العقيدة
في موقع القلب منها، حيث يمكن تدمير مخيم على رؤوس سكانه من وحي الضمير
الوطني والعسكري وفرض حصار فتاك على مجمل مخيمات لبنان وحرمان سكانها من
اللاجئين الفلسطينيين من أبسط مقومات الحياة والكرامة الانسانيتين بحجة
العامل الديموغرافي الطائفي مرة وبذريعة ما يسمى سلاح المخيمات تارة أو
،وذلك في أحسن الأحوال، بذريعة تغلل نسيج دخيل على النسيج الاجتماعي
السياسي لهذا المخيم أو ذاك.
في كل مرة يرتكب الجيش اللبناني إحدى
حماقاته اتجاه أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وبعد أن يكون قد
فعل ما فعل وصفا من صفا وإعتقل من اعتقل، يخرج علينا باسطوانة باتت مشروخة
تقول:' قد اتخذنا الاجراءات اللازمة للحيلولة دون تكرار أحداث المخيمات'،
لكن ما الذي يجرى في تلك المخيمات ويستدعي كل هذا 'التشبيح' في التعامل
الأمني والعسكري مع مدنيين عزل؟ وإذا كان الجيش اللبناني جيش دولة حقا،
فأين تلك الدولة وأجهزتها الأمنية والشرطية المعنية بمعالجة ما يرتكبه
الناس عادة من مخالفات تحدث ليل نهار في أي وقت وفي أي مجتمع؟ أم أن مرد
المسألة فقط إلى معادلة الاستقواء على ما يراه ساسة لبنان وما أكثرهم
الحلقة الأضعف أو الحلقة التي أضعفت عمدا وقصدا بقوة الحديد والنار.
ثم
عن أي مخاوف ديموغرافية طائفية يتحدث من استهوتهم هذه الذريعة وراحوا
يسوقونها بلا معنى مع علمهم بعدم صحتها لا لشيء إلا لأن فلسطينيي لبنان ومن
خلفهم منظمة تحريرهم وسلطتهم الوطنية قد بحت أصواتهم وهم يعبرون صباح
مساء وعلى مدار أيام سنيهم الأربع والستين في لبنان عن تمسكهم المطلق بحق
العودة، لا بل إن أحد رموز تلك السلطة أطل علينا بوجهه المحمر وشعره
الأبيض ليطالب في مغالطة سياسية تاريخية صارخة، إثر أحداث مخيم نهر البارد
الأخيرة، بعدم حرمان فلسطينيي لبنان من حق عودة يبدو أنه فقد المسؤول
الفلسطيني حيثياته وسياقاته التاريخية إذا أخذنا في الاعتبار أن الجميع في
لبنان يسعى جاهدا لتثبيت هذا الحق وليس إنكاره ولكل أسبابه كما هو معروف،
لكن لا يختلف إثنان في لبنان تحديدا على ضرورة عودة فلسطينيه إلى
فلسطينهم.
شكرا للمسؤول الفلسطيني صاحب الصوت المبحوح والعالي حد
الصراخ دائما، شكرا له على هذا الاستنتاج 'الخطير والرائع'، لكن السؤال
الذي يرتد إليه كالسهم هو: بماذا يفيد استنتاجه المقلوب هذا أبناء
المخيمات في بلد عربي مقبوض عليهم فيه من قبل أطراف عدة دفعة واحدة من
بينها الكيان الصهيوني ولبنان الرسمي وغير الرسمي وجزء من فلسطين الرسمية
وغير الرسمية ومن الأنظمة العربية القريبة منها والبعيدة أيضا.
باسل أبو حمدة