حادث طريف شهدته ولاية نيبراسكا الأمريكية، ففي عام 2007 تقدّم سيناتور الولاية إيرني شامبيرس بدعوى قضائية إلى إحدى محاكم الولاية.
وجه الطرافة في القضية أن المدّعى عليه لم يكن شخصا آخر غير الله، الله بذاته وصفاته!
ومبرّرات الدعوى، كما يرى السيناتور إيرني شامبيرس، أنّ المدّعى عليه،
والذي هو الله، مسؤول عن الكثير من جرائم "الموت والدّمار والإرهاب" التي
لحقت ليس فقط بسكان الولاية، وإنّما أصابت البشرية جمعاء.
يصعب الاستخفاف بجرائم كهذه. غير أنّ القاضي مارتون بولك اهتدى في الأخير
إلى الحكم بعدم الاختصاص، بدعوى الطبيعة غير البشرية للإله، ولعدم وجود
عنوان قارّ لاستدعائه قصد الحضور، للتأكّد على الأقلّ من طبيعته، قبل البثّ
في قرار المتابعة أو إخلاء سبيله.
في هذه الدعوى القضائية الطريفة والمنافية لأبسط شروط العقل والمنطق، هناك
شيء على قدر كبير من المعقولية، وهو أنّ الله، وكما نتصوّره "شخصا" ينتقم
منّا ويحرّضنا على الانتقام له، هو بكلّ تأكيد إله خارج عن القانون، إن لم
يكن متورّطا في جرائم ضدّ الإنسانية.
وإذا لم يكن "الحلّ العقابي" ممكنا، طالما الإلهيات مجرّد تصوّرات، بل
الوجود نفسه هو تصوّرات، فلا يبقى أمامنا سوى "الحلّ الإصلاحي". ومقصود
القول أن نسعى إلى تعديل صورة الإله في وعينا وإدراكنا.
إله بلا فضائل:
إذا نحن استنرنا قليلا برؤية برتراند راسل، فسنلاحظ بأنّ الأديان تعاني من ثلاثة أعطاب تربوية نذكرها تباعا وتبعا لعرض راسل :
يتجلى العطب الأوّل في أنّ الفكر الديني يُضعف حسّ العدالة وينمّي لدى
الطفل غريزة الانتقام، تمثّلا لمشاهد الجحيم الأخرويّ، والتي يظهر فيها
الانتقام وكأنّه غريزة الله الأولى. يقول راسل : "جميع الذين يعتقدون
بجهنّم يجب أن يعتبروا العقاب الانتقاميّ جائزا"(1). وقد سبق لحنّا أريند
أن أوضحت بأنّ معسكرات الاعتقال النازية لم تكن سوى محاكاة لتمثلات صور
الجحيم الأخرويّ(2). ألا تكون الروح الانتقامية في السياسة الدولية الراهنة
امتداداً لاشعوريا لصورة الإله البدائيّ والمنتقم الذي لا يهدأ روعه إلا
بالأضاحي البشرية والقرابين الآدمية؟
يتجلى العطب الثاني في أن الفكر الديني بدل أن يُحرّر الإنسان من عقدة
الخوف من الموت، تبعا لأهمّ وعوده، فقد راح ينمّي الخوف من الموت ويستثمره
في الدعاية والتحريض على العودة إلى الملاذ الديني. وهكذا تكون الأديان،
حسب راسل، قد "أثبتت فشلها في تعليم كفاية الشجاعة"(3).
أمّا العطب الثالث فيتجلّى في أنّ الفكر الديني يُضعف الذكاء. وكمثال دالّ
على هذا العطب، فإنّ الخيال التربويّ للأديان عادة ما ينتهي إلى تكريس
هزيمة الرّجل المتعلّم أمام الجاهل، بل وحتى الأبله، الذي يكفيه ورعه لكي
ينتصر على أذكى المخلوقات. وكم كانت أمّتنا ضحية رهان خاسر على انتصار
الورع على الذكاء. يلاحظ راسل أن : "ليست هناك كلمة واحدة في الكتب
السماوية في مدح الذكاء"(4).
"الإله الدينيّ" يحرّض على الانتقام وينشر الخوف ويحابي الأغبياء، وهو
بذلك ينخر مرتكزات كلّ حضارة، سواء تعلّق الأمر بالغرب المأزوم أم بالإسلام
المهزوم.
قديما، وربّما من دون قصد، أماط عليّ بن أبي طالب اللثام عن المساوئ التربوية لـ"إله الأديان" حين قال (كما ورد في نهج البلاغة) :
"إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله
رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار".
قول بليغ.
لكن ألا تحيلنا عبادة الأحرار إلى صورة مختلفة للذات الإلهية؟
هذا لا يشبهني.. إذن هذا أنا :
هناك إله واحد، يقول الإسلام.
لكن هل يتحدّث الإسلام فعلا عن إله واحد؟
هل يتحدّث دائما عن نفس الإله؟
من الواضح أنّ القرآن يتحدّث عن صورتين متناقضتين للإله، وعلى الأرجح فإنّه يتحدّث عن إلهين مختلفين ومتناقضين.
من جهة أولى يتحدّث القرآن عن الله باعتباره إله الأديان والأنبياء، ذلك
الربّ الذي يغضب ويبارك ويرعى ويعاقب ويوصي ويمنح الملك والإرث لمن يشاء
وينزعهما ممّن يشاء.
ومن جهة ثانية فإنّ القرآن يتحدّث عن الله باعتباره الإله الذي اصطلح عليه
ألان باديو باسم "إله الميتافيزيقا"(5)، أو إله الفلاسفة، ذلك الواحد
"الأحد"، المتعالي، المنزّه، المجرّد، الـ"غنيّ عن العالمين"، والذي "ليس
كمثله شيء".
هناك الآن ملاحظة دقيقة :
إذا كان نيتشه قد أخضع الإله الأوّل للموت الرحيم، فإنّ ألان باديو يلاحظ
بأنّ "موت إله الدين يترك مصير إله الميتافزيقا عالقا، طالما أنه إله لا
علاقة له بالحياة ولا بالموت".(6)
هذا يعني أنّ الطبيعة المزدوجة لإله الإسلام قد تمثّل فرصة لإنقاذ إله
الإسلام من الموت المحقّق، وذلك من خلال تغليب طابعه الميتافيزيقي على
طابعه الديني. وببساطة نقول : ينجو من الموت المتحوّلون، ويفلت من حكم
الصيرورة الصائرون.
أيصدق هذا القول أيضا على الإله؟
يقول نيتشه : "إننا لا نؤمن إلا بالصيرورة حتى في المسائل الروحية"(7).
لكن ما الذي تعنيه الصيرورة بالنسبة للإله؟
تقدّم لنا اللغة العربية جوابا دقيقا :
تعني الصيرورة تعديلا دائما في الصورة وتبدّلا في التصوّر.
وتلك مهمّة الذكاء البشريّ.
الصورة والصيرورة :
بين إله الأديان وإله الميتافيزيقا يعاني اللاهوت الإسلامي من ازدواجية في
القيم، تنعكس على سلوك المسلم وعلى وعيه وتجعله موصوفا بحالة الانفصام.
وهو انفصام ليس بسبب "صدمة الحداثة" كما يرى الكثيرون، وإنما هو انفصام
متأصّل في طبيعة اللاهوت الإسلامي منذ لحظة النشأة.
إنّ أيّ مجهود يبتغي الخروج من حالة الانفصام يحتاج إلى إعادة بناء صورة
الإله في الوعي الإسلامي. ومجمل ما أدّعيه في هذا المضمار أنّ الإسلام يتيح
لنا إمكانية إعادة تشكيل صورة متقدّمة لإله جديد لا ينقذنا فقط من مستنقع
الأصوليات المظلم وإنما أيضا من نفق العدمية المعتم.
سنعرض الآن اختباراً في شكل تمرين أوّلي، حيث ننطلق من أحد التصوّرات البسيطة للناس قبل أن نتدرّج وصولا إلى المقصود.
هناك على الأقل ثلاثة تصوّرات أساسية للذات الإلهية يتّفق حولها مسلمو اليوم بصرف النظر عن مستوياتهم الثقافية والاجتماعية :
1- الله لا تدركه الحواسّ.
2- الله لا يحتل حيزاً محصوراً في المكان.
3- الله لامتناه.
إذا تساءلنا الآن عن مصدر كلّ تصوّر من هذه التصوّرات، فيسهل علينا أن
نلاحظ بأنّ مصدر التصوّر الأوّل هو القرآن بوضوح اللفظ والعبارة.
لكننا لو تساءلنا عن مصدر التصوّرين الثاني والثالث حيث يظنّ المسلمون
بأنّ الله لامتناه وأنه لا يحتل حيزا مكانيا محدّدا، فإننا لن نجد في
القرآن ولا في أقوال الرسول، والتي اصطلح عليها المسلمون باسم "السنّة"،
أية عبارة تدلّ على ذلك التصوّر. ومع ذلك فليس يخفى أنّ الفكر الإسلامي، من
علم الكلام إلى الفقه والفلسفة والتصوّف، قد اتفق على أن الإله لامتناه
ولا يحتل حيزاً محدّداً في المكان. ويبقي السؤال مفتوحا حول مصادر الفكر
الإسلامي في هذا التصوّر والذي ليس له أيّ مصدر نصّي معلوم.
نترك هذا السؤال مفتوحا ونستخلص الآن ما نودّ استخلاصه :
لقد خضعت صورة الإله في الوعي الإسلامي لسنّة التطور، ما جعل صورة الإله
في أكثر مراحل الفكر الإسلامي ذكاء، تبتعد كثيرا عن صورة "الإله الديني"
لفائدة "الإله الميتافيزيقي". ألم يضطرّ شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه إلى
الاتفاق مع صورة الإله عند ابن رشد باعتبارها ثمرة ذكاء اللاهوت
الإسلامي؟(8)
ومع ذلك لا يمكننا أن نتغاضى عن انحدار بعض جوانب صورة الذات الإلهية في
الوعي الإسلامي اليوم، مقارنة مع ما كانت عليه في الوعي الإسلامي
الكلاسيكي.
فلقد اتفق الفكر الإسلامي الكلاسيكي على أنّ الذات الإلهية غير معرّضة
للحوادث، وكان المسلمون يقصدون بذلك، أنّ الله ليس فقط منزّها عن الأحداث
الفزيائية وإنما لا تطرأ عليه أية انفعالات حادثة أو مشاعر طارئة.
أما اليوم فيعتقد عامّة المسلمين بأنّ الله معرّض يوميا لانفعالات حادّة،
وما على كلّ فرد مسلم إلا أن يساهم قدر استطاعته في المحافظة على "هدوء
أعصاب" الإله.
إنّ الخوف من إثارة غضب الله على الجميع بسبب أعمال استفزازية يقوم بها
البعض، هي أصل "العنف المقدّس"، منذ عصر القرابين البدائية، إلى الجهاد
والحروب الصليبية والإرهاب العالمي. إذ يلاحظ برتراند راسل أنّ استمرار
وجود قوانين جنائية تعاقب الأشخاص على أفعال لا تمثّل أيّ عنف أو ضرر لأيّ
كان، هو بمثابة امتداد لاشعوريّ لثقافة التضحية بأحدهم أو بعضهم لتفادي غضب
الله على الجميع.(9)
ألا يحقّ لنا أن نعتبر وجود قوانين جنائية في بلد مثل المغرب، تعاقب الناس
على عدم صوم رمضان، مجرّد تعبير اجتماعيّ يغلّف رواسب ثقافة بدائية تدعونا
إلى التضحية بالبعض لعدم إثارة غضب الآلهة على الجميع؟
دعنا نقرّر أيضا بأنّ الإرهاب العالمي هو تراجع في صورة الإله إلى زمن ثقافة القرابين.
نحو لاهوت لاديني :
في مساجلاته الاعتيادية عادة ما يبدي "العقل الديني" حماسة منطقية وقدرات
استدلالية وهو يحاجج على أنّ "الله موجود". وحين يقرّر أحدنا أن يناظر حجج
"العقل الديني" حول مسألة "وجود الله"، فإنّه يكون بذلك قد وقع في فخّ
مواجهة حجج لم ينتبه ابتداء إلى أنها لا تنتمي تقليديا إلى الخطاب الديني،
وإنما تندرج ضمن تقاليد الخطاب العقلاني الكلاسيكي.
فحين يستدلّ العقل الديني على "وجود الله"، بمنطق أن لا بدّ من علّة أولى،
ولكلّ قانون مشرّع بما في ذلك قوانين الطبيعة، ولكلّ هندسة مهندس بما في
ذلك هندسة الكون، فلن نبدو أكثر عقلانية في ردودنا عندما نراهن على الصدفة
والفوضى والكاووس، وهي افتراضات أقلّ إقناعا للعقل من فرضية النظام. وفي
كلّ الأحوال فأنطولوجيا الصدفة والفوضى والكاووس، حتى وإن كانت أصدق تعبيرا
عن الوجود، فإنها تظلّ أقرب إلى الحدس الشعريّ منها إلى البرهان والعقل
والمنطق. ما يقودنا إلى التعويل على ما يصطلح عليه ألان باديو باسم "إله
الشعراء"(10).
إلا أنّ الأولى بنا الانتباه والتنبيه إلى أنّ كافة الحجج العقلية
والمنطقية والبرهانية على فرضية "النظام الكوني" لا تقود بالضرورة إلى
"الإله الديني" وإنما تقود بالأحرى إلى "الإله الميتافيزيقي" : العلّة
الأولى، المحرّك الأوّل، واجب الوجود، العقل المطلق، إلخ.
على أننا عادة ما ننسى أمرا بالغ الأهمية :
ذلك أنّ محاولة الاستدلال على أنّ الله "موجود" أو أنه "غير موجود"، تخفي
فخّا لغويا يجدر الانتباه إليه، لا سيما حين نكون عقلانيين ناطقين باللغة
العربية.
فباحترام خصائص اللغة العربية، نستطيع أن نقول :
لا يمكن أن يكون الله موجودا طالما أنّ صفة موجود هي اسم مفعول، ما يعني
أنّ إصرار الخطاب الديني على القول بأن الله "موجود" يمثل إخلالا بالمبدأ
الإلهي والحكم مبدئيا باغتيال الإله برصاصات طائشة أو بنيران صديقة.
سنحترم الآن ذكاء اللغة العربية وسنحترم مميّزات الأنطولوجيا الإسلامية، ونقول :
الله غير موجود ولا يمكن أن تنطبق عليه صفة الموجود، لماذا؟
لأنه هو الوجود عينه.
أظنّ أنّ الحاجة إلى تصوّر جديد للوجود هي ما يبرّر صيحة مارتن هايدجر حين قال : وحده إله جديد قادر على إنقاذنا؟