دراسات وما هي مشاهد المستقبل القريب في مصر؟
الآن عرفنا لماذا قامت وسائل
الإعلام، وأجهزة السياسة الخارجية الغربية بتعريف التغيرات العربية
الأخيرة ذات الطابع الجذري، باسم (الربيع العربي) Arab Spring مع العلم
بأن هذه التسمية تمت قياساً لما حدث في أوروبا الشرقية منذ عقدين، بعد
سقوط الاتحاد السوفيتي، تحت عنوان (التحول الديمقراطي) من خلال العودة إلى
الرأسمالية والاندماج في المنظومة الغربية. فقد اتضح الآن، أن وكالات
المعونة الأجنبية والمنظمات غير الحكومية في دول الإسكندنافيا والاتحاد
الأوربي والولايات المتحدة كانت تقوم خلال العقدين الماضيين بالإسهام في
تربية جيل جديد من (النشطاء)، وخاصة الشباب منهم، في مصر والبلدان العربية
الأخرى وسائر (العالم الثالث السابق)، بروح الليبرالية الغربية من خلال
التثقيف والتدريب العملي على التعامل مع تحديات السلطة والشرطة وأجهزة
العنف من جهة أولى، ومع مسائل الانتخابات والمشاركة السياسية من جهة
ثانية، ومع وسائل "التغيير السلمي" للأنظمة الحاكمة بالأساليب غير
المسلحّة، من خلال المظاهرات والمسيرات والاعتصامات والاضرابات.. الخ.وقد أصبح جيل الشباب (الليبرالي)
الجديد، يمتلك قدرا من الثقافة القانونية والسياسية الرفيعة، والقدرة
الكفاحية على التعامل الجسدي مع أجهزة الدولة، وقدرة رسم الإستراتيجية
والتكتيك.فجمع هذا الجيل بكل ذلك بين
أمرين: الثقافة النظرية، والخبرة والدربة، وباختصار، أصبح جيلاً مناضلاً،
أي راغبا وقادراً على التضحية من أجل ما يؤمن به.إن هذا الجيل هو الذي قاد وفكر
ونظّم لثورة 25 يناير، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؛ وليس صدفة أن أهم
(مجموعات) هذا الجيل، مجموعة قادها الشاب (وائل غنيم) مؤسس صفحة (كلنا
خالد سعيد)، ومجموعة "حركة 6 أبريل".وقد أعقب تفجير الثورة بواسطة
هذه الشريحة الشبابية، التحاق شباب التيارات الإسلامية، ثم شيوخها، فأصبحت
الثورة "برأسين" - إذا صح هذا التعبير.ثورة لها قيادة وفكر وتنظيمالحقيقة إذن أن ثورة يناير كان
لها قيادة ولها فكر وتنظيم، ولكن برأسين: قيادة "ليبرالوية" وفكر
"ليبرالوي" وتنظيم "إنترنتّي" مرن، من جهة أولى، وقيادة إسلامية وفكر
إسلاموى وتنظيم "مجسد" محكم، من جهة ثانية. وكما أشرنا، فإن الرأس الأول
تم بناؤه على مهل خلال سنوات بدفع من هيئات المعونة التابعة للاتحاد
الأوروبي والولايات المتحدة وبعض دول شمال أوروبا - بالتركيز على الجانب
القانوني لتعامل المواطن مع السلطة في جميع الحالات: حالات المشاركة
السياسية والانتخابات، وحالات التظاهر والعنف، وخاصة حالة التصادم بين
المواطنين (أو "المدنيين") وممثلي جهاز السلطة: من الشرطة ومن يقوم
مقامها، بالإضافة إلى التعامل مع القضاء بكافة درجاته.أما التيار "الإسلاموي" فقد
تكونت قياداته وفكره (السياسي)، وتصلبت تنظيماته المتشعبة، خلال سنوات،
عبر العمل الأهلي في مجالات الخدمة الاجتماعية وغيرها، وعبر العمل السياسي
من خلال (الإخوان المسلمين) ﻛ"معارضة رسمية وغير رسمية" للنظام السابق،
والعمل الدعوي من خلال الجماعات المسماة بالسلفية.وأما اليسار بكافة فصائله، بما
فيه اليسار العروبي، فلم تكن له "بيئة حاضنة" محليا أو عربيا أو دوليا،
والتي كانت من المفترض أن تقدم التمويل والمساندة والدعم التقني والتدريبي
والتثقيفي - وكانت النتيجة أن الحزبين الممثلين لليسار وهما "حزب التجمع
الوطني التقدمي الوحدوي" و"الحزب العربي الاشتراكي الناصري"، قد انهارا من
الداخل، ولم يكن لهما تأثير يذكر في توجيه الأحداث الخاصة بثورة يناير وما
بعدها.وللمقارنة، فقد كان اليسار
الاشتراكي يجد مساندة، في مراحل سابقة، من بعض دول المجموعة الاشتراكية؛
وكان اليسار العروبي - في فترة الستينيات خاصة- يجد الدعم من الدولة
المصرية الناصرية.هذا، ونود الإشارة، بصفة خاصة،
إلى البعد الثالث للعمل الثوري وهو "التنظيم"؛ فقد كان متوافرا بقوة لدى
الجانبين الرئيسيين في "فعل ثورة يناير": فقد كان وراء "الليبرالويين"
تنظيم محكم في العالم الافتراضي للفضاء السيبراني، على صفحات الشبكة
العنكبوتية، من خلال (مجموعات) موقع (فيس بوك) و(تويتر). وكانت صفحات
(المجموعات الشبابية) معقلاً للحشد والتعبئة، والتوجيه والتنسيق، والتخطيط
والإدارة والتنظيم، حتى تم الإعداد للثورة، وتنفيذها بنجاح.أما الجناح الآخر، وهو التيار
الإسلاموي والذي لحق بمبادرة "الليبرالويين" بعد فترة تأخر زمني قصيرة
نسبياً، فقد كانت له تنظيماته المحكمة، كما أسلفنا، ممثلة في جماعة
"الإخوان المسلمين" وفي جمعيات المجتمع الأهلي والدعويّ للسلفيين.ونقدم في هذا السياق ملاحظتين:1- إن شباب الليبراليين
(الليبرالويين بتعبير أصح، فيما نرى) والإسلاميين (الإسلامويين بتعبير
أصح، فيما نرى) - فجروا الثورة ولكنهم لم يشكلوا قوتها وزخمها، وإنما جاءت
القوة والزخم من الجمهور (الشبابي) ثم (الشعبي) الذي التف حول النواة
القيادية المزدوجة (ذات الرأسين) وشارك بفاعلية في أعمال التظاهر حتى تحقق
هدف إسقاط النظام.2- إن شباب الإسلاميين استندوا
إلى ظهير بالغ القوة، ماليا وسياسيا وتنظيميا، هو تنظيم الإخوان المسلمين
والمنظمات الدعوية للسلفيين؛ وفي المقابل فإن الشباب الليبرالي لم يكن له
ظهير، أو لم يكن ظهيره بنفس المستوى من القوة. ولذلك نجح التيار السياسي
الإسلامي في العمل السياسي الحزبي والممارسة الانتخابية بعد الثورة، بينما
فشل الشباب الليبرالي في تأسيس حزب أو الدفع بممثليهم إلى البرلمان.القوة الثالثةبين الليبراليين والإسلاميين
وقفت قوة ثالثة التحقت بتيار أحداث "الثورة"، وهي القيادة العليا للقوات
المسلحة، وكان نزولها إلى الميدان لتنفيذ ما يمكن اعتباره (انقلاب دولة)
في مواجهة رأس الدولة السابق، حيث طلبت من الرئيس المخلوع التخلي عن
السلطة، وحصلت على موافقته بعد تردد، وتولت السلطة و(إدارة الدولة) من
بعده على غير ما يرسمه الدستور النافذ حينئذ لانتقال السلطة في حال شغور
منصب الرئيس بصفة دائمة أو بصفة مؤقتة.وقد أدى نزول هذه القوة الثالثة
إلى (حماية) الثورة، مع حصرها ضمن حدودها القائمة لا تتعداها، وأدى من ثم
إلى الحيلولة دون تحقق احتمالين أو (سيناريوهين) مفترضين آخرين: السيناريو
الأول هو الفوضى الشاملة في أتون صراع ممتد بين (الثورة) و(النظام) ودخول
القوات المسلحة طرفاً في هذا الصراع إلى جانب النظام نفسه؛ والسيناريو
الثاني انتصار أحد طرفي المعادلة انتصاراً كاملاً على الآخر: فإما أن
تنتصر الثورة انتصاراً تاماً، وتقضي على الوجود السياسي (وربما العضوي)
لشخوص ورموز النظام، كما تقذف بجميع مؤسساته دفعة واحدة في (مزبلة
التاريخ) مخلّفة فراغاً سياسياً هائلاً لا يعرف ما بعده.. وإما أن ينتصر
النظام على الثورة، بمساعدة القوات المسلحة على الثورة، مع دفع (ضريبة من
الدم) لا يعلم أحد مداها.ونظراً لأن نزول القوات المسلحة
إلى (الميدان) قد حال دون هذين الاحتمالين، فإنه يمكن القول إن "المجلس
الأعلى للقوات المسلحة" - المجلس العسكري- أصبح شريكا في الحدث الذي أصبح
اسمه (الثورة) وتشكيل ملامحه كما وقعت فعلاً، ومن ثم وقوع مسلسل الأحداث
كما وقع.وبهذا أصبح للثورة ثلاثة رؤوس
وليس رأسان فقط، وأخذ كل رأس يحاول توجيه الثورة في الناحية التي يريدها،
مع ميل أحد الرؤوس لمعانقة رأس أخرى في لحظة معينة، أو الابتعاد عنها
بدرجة لافتة في لحظة أخرى.فقد تعانق رأسا (المجلس العسكري)
و(التيار الإسلامي) قبيل وبعيْد (الاستفتاء الدستوري في 13 مارس 2011،
وظلا بدون افتراق حتى ما بعد الانتخابات التشريعية. ووصل الفراق بين
الرأسين الإسلامية والليبرالية لدرجة ما يشبه (الطلاق) أثناء ما سمي
بأحداث (محمد محمود) و(أحداث مجلس الوزراء) حيث ذهب الإسلاميون إلى
الانتخابات، ووقف (الليبراليون) في الميدان و(الشارع) ينادون: (يسقط..
يسقط حكم العسكر).وبعد اكتمال تكوين البرلمان
بمجلسيه، وبدء ممارسة نشاطه، وبدء عملية الانتخابات الرئاسية، تباعد
الرأسان الإسلامي والعسكري، وتقارب الرأسان الليبرالي والإسلامي فيما يشبه
"التحالف" غير المعلن في مواجهة (الرأس الثالث) أي (العسكري). وكان هذا هو
الحال أوائل مايو 2012 في غمار الأزمة السياسية الطاحنة حول الانتخابات
الرئاسية، وتشكيل اللجنة التأسيسية للدستور، والاعتصام في محيط وزارة
الدفاع... بعيداً عن الرؤوس الثلاثة
للثورة، هناك قوتان أخريان أو ثلاثة أقوى: الأولى هي بقايا النظام السابق،
وخاصة من بعض رجال الأعمال وبعض أعضاء المؤسسات النافذة كالشرطة
والمخابرات والحزب الحاكم والمجالس المحلية. وهؤلاء ليسوا طرفا مباشرا في
توجيه الأحداث، وربما استدعاهم (المجلس العسكري) بين الفينة والأخرى، أو
استحضرهم في صورة مباشرة أو غير مباشرة لأداء دور ما هنا أو هناك، ضمن
إستراتيجيته الخاصة لحصر (الثورة) في حدودها المقررة: تقنين إسقاط الرؤوس
العليا للنظام السابق، والحيلولة دون سقوط كلية.ولا يستبعد أن بقايا (النظام
السابق) - ممن جرى تسميتهم إعلاميا بالفلول - كانت تعمل بشكل مستقل، بعيدا
عن الصلة المباشرة بالمجلس العسكري- في لحظة أو أخرى، وربما كانت تستخدم
شريحة من شرائح النظام السابق، جرى تسميتها ﺑ(البلطجية) بمن فيهم "أطفال
الشوارع"، للقيام ببعض "الأعمال القذرة" التي لا يستطيع أحد غيرهم
تنفيذها، بما تستلزمه من جرأة و"قدرة احترافية".. وظهر هؤلاء، كقوة أخرى،
في تيار الأحداث في ميدان التحرير بعد انتصار الثورة مباشرة، وفي
(ماسبيرو) وفي أحداث (محمد محمود) و(مجلس الوزراء) ثم في (مذبحة بورسعيد)
المروّعة ضد شباب (ألتراس) النادي الأهلي.وقد يرى البعض شواهد على (غزل
متبادل) وربما غير مرئى، ربما يصل إلى حد إقامة نوع من "التنسيق غير
المقصود" - التناسق بتعبير أصح- بين المجلس العسكري والطرف المزدوج لبقايا
النظام السابق وشريحة البلطجية وأطفال الشوارع، ولو من خلال غض البصر من
جانب المجلس العسكري عن تحركات "الطرف المزدوج الخفي" - "الطرف الثالث"
وفق التسمية الرائجة- مادام أن هذا الأخير ينفذ، بوعي أو بدون وعي- جزء من
مهمة معينة لصالح إستراتيجية (المجلس). وهذا ما قد يراه البعض حصل في
"أحداث ميدان العباسية" و"محيط وزارة الدفاع" منذ فجر السبت 28/4/2012 حتى
صبيحة الأربعاء 2/5/2012 حيث سقط نحو عشر وفيات ومئات المصابين.وتبقى قوة أخيرة (خامسة أو
سادسة) في المشهد السياسي المصري، حار النار في تسميتها، بين "الأغلبية
الصامتة" و"حزب الكنبة"... إلخ، ونسميها نحن تسمية مؤقتة: الجماهير. وهذه
هي الكتلة التي ترجح كفة أطراف التوازن، بطريقة تبادلية وبشكل حاسم، عبر
الزمن. فقد كان ميلها إلى جانب (الثورة) ذات الرأسين خلال الأسبوع السابق
على انتصار الثورة يوم 11 فبراير 2011، هو العامل الحاسم في ذلك الانتصار،
عبر خروجها إلى الشوارع وتقاطعات السكك الحديدية وأمام بعض أقسام الشرطة
والمقار الأمنية، وشتى أشكال التحركات العارضة التي اختلط في بعضها الحابل
بالنابل (الثوار والبلطجية) وخاصة في المواجهات مع جهاز الشرطة، والمؤسسة
الأمنية عموماً.وبعد ذلك كان دور (كتلة
الجماهير) حاسماً في الميل لصالح الإسلاميين (من "إخوان" و"سلفيين") اثناء
انتخابات مجلس الشعب، التي أفرزت أغلبية إسلامية واضحة... وعلى امتداد المسار اللولبى
للأحداث، وقفت (الجماهير)، تتحدث بصمتها البليغ، أو بصوتها المتقطع، في
(الشارع)، طوال الوقت، غير عابئة في أحوال كثيرة بتحركات "الثوار"، بدعوى
"وقف الحال"، وحاولت جميع الأطراف أخذ هذه الكتلة الجماهيرية إلى جانبها،
لحسم الصراع لصالحها.فإلى أين..؟تبدو لوحة الصراع السياسي في مصر
ناطقة بالاحتقان، وربما بلون الدم في بعض مقاطعها، وغامضة في جميع
الأحوال، كلوحة "سيريالية" من لوحات فنان عالمي محترف، من وزن "بيكاسو".فالتياران الرئيسيان للثورة
(مناضلان) بالفعل، وكما أثبتت الأحداث، من حيث الطابع "الكفاحي" في
الاستماتة من أجل الدفاع عن وجهة نظره الخاصة. والتيار الإسلامي بشقّيه
(الإخوان والسلفي)، معروف بصلابته العقائدية وقدراته التنظيمية والحركية
العالية، كما أن (التيار الليبرالي) كشف عن قدرات فكرية وثقافية وحركية
وتنظيمية عالية، حيث تربى في مدرسة المنظمات غير الحكومية للاتحاد
الأوروبي وبعض الدول الغربية الأخرى، طوال عشرين سنة، على مدى جيل سياسي
أو جيلين، وكان أحدثهما الجيل الذي فجر الثورة كفعل منظم صبيحة الخامس
والعشرين من يناير 2011 ليفاجىء (الشرطة) في يوم عيدها، بما لم يتوقعه أحد.وبرغم الانشقاقات، حافظ ذلك
التيار على وحدته العامة وعلى فاعليته، انطلاقا من صلابة نواته الداخلية
المكونة من عدة أجزاء تلتقي دون رابط تنظيمى محكم، مثلها في ذلك مثل تنظيم
"القاعدة" بعد ضربات 11 سبتمبر 2001- والتشبيه مع الفارق، بطبيعة الحال.ونشير هنا، بصفة خاصة، إلى
الطابع (النضالي) للتيار الليبرالي، وقوته الفكرية بل والعلمية، في حقول
المعرفة الاجتماعية، وخاصة الاقتصاد والسياسة والسوسيولوجيا والتاريخ،
برغم عموميتها، واقتصارها حتى الآن على "الكليات" دون "الفروع" والتفاصيل،
وقلة رموزها الممثلة، وفقر إنتاجها الثقافي المنشور. ونتوقع، من ثم، أن
هذا التيار الليبرالي سوف يتسع دوره أفقيا، ويتعمق رأسيا، خلال الفترة
القادمة، وسوف يحافظ على علاقاته الوثيقة مع منظمات المجتمع المدني غير
الحكومية في أوروبا والولايات المتحدة، لضمان مصدر للتمويل، ولو جزئيا،
والمساعدة الحركية و"اللوجيستية" والإعلامية.وباختصار، سوف يكون التيار
الليبرالي فاعلاً سياسياً قوياً، وسوف يخلق منظماته الاجتماعية والسياسية
الخاصة، كما سوف يتغلغل في منظمات وأحزاب أخرى قريبة منه، ويعمل تحت
رايتها (مثل "حزب الدستور" و"حزب الجهة الوطنية" و"الوفد" و"الغد") لتحقيق
أكبر قدر من الفاعلية، ولو على حساب استقلاليته أحياناً. أما التيار
الثاني، أي التيار السياسي الإسلامي، فسوف يظل لاعباً قوياً، بل أقوى لاعب
سياسي على مسرح الأحداث المصرية في المدى القصير والمتوسط.ومن المتوقع أن تلتقى التيارات
الفرعية الممثلة حاليا لبقايا النظام السابق، و"الأغلبية الصامتة"، ومؤيدي
المجلس العسكري الحالي، فإما أن تنصهر معاً، أو تكتفي بالتنسيق العام،
ولكنها في جميع الأحوال ستشكل كياناً سياسياً يصعب تجاهله كرقم أساسي في
المعادلة السياسية المستقبلية تحت راية "الوسطية السياسية والفكرية".ويبقى اليسار الاشتراكي والعروبي
والناصري هو الغائب الأكبر في حسابات المعادلة السياسية المصرية، مما لا
نستطيع التكهن بحدود دوره المستقبلي، بقدر معقول من الدقة، ولكنه على
الأرجح سوف ينهض من كبوته ليعاود مسيرته السياسية النضالية في ضوء
الإخفاقات المتوقعة للتيارات الليبرالية والإسلامية والوسطية، مستفيدا من
عدم تلوث يديه في بعض مشاهد الانتقال المؤلم بعد الثورة، مما قد يسمح له
بانتشال المجتمع المصري من أزمته المستحكمة على كافة الصّعُد "الوطنية -
القومية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والثقافية.**********
القسم الثاني
ثورة 25 يناير ومسارها المتخيَل
(رؤية استرجاعية)
انطلاقا من الإطار الذي حاولنا
رسمه لخريطة القوى السياسية المواكبة لثورة 25 يناير، يبدو لنا أنه قد
يكون من المفيد القيام بنوع من "التمرين الذهني" الذي يستهدف تقديم رؤية
متخيلة (بأثر رجعي) لما قد يكون حدث في تلك الأيام الخوالي المجيدة في
أواخر يناير وأوائل فبراير من عام 2011.لعله يمكن القول إنه بمجرد وقوع
بدايات أحداث ثورة 25 يناير، بدأ مسلسل لم ينته يوم 11 فبراير 2011..
وبمجرد نجاح (بروفة) الانتفاضة يوم 25 يناير، صعدت (قيادة تعددية)
للانتفاضة، تولت الحشد والتنظيم والتعبئة طوال الأسبوعين التاليين، بدءً
من جمع الأنصار، مروراً بتأمين الميادين، واقتحام نقاط التركيز، وانتهاءً
بجمع القمامة من أماكن التظاهر الكبرى وخاصة ميدان التحرير.هذه القيادة، أدركت منذ اللحظة
الأولى لنجاح (يوم القيامة الأول) أنه بالإمكان تحقيق النجاح النهائي،
وخاصة بعد بدايات التفاف الجماهير الأسطوري وسقوط المؤسسة الأمنية في يوم
واحد هو يوم الجمعة 28 يناير.وبعد خطاب حسني مبارك الأول يوم
3/2، ثم موقعة الجمل يوم 4/2، كانت (القيادة) تزداد يقيناً بإمكانية
النجاح وخاصة بعد الانهيار الرسمي لجهاز الشرطة وصعود المجلس الأعلى
للقوات المسلحة كقوة كبرى (غير معترضة على الثورة). ثم كانت (القيادة) -
قيادة الانتفاضة- تزداد إصراراً كل يوم على ضرورة تحقيق هدفها دون نقصان:
هدف إسقاط النظام، بدءً من هدف مباشر وممكن جدّاّ، يتضمنه الشعار: (الشعب
يريد إسقاط الرئيس). ويبدو أن "قيادة الانتفاضة" قد جمعت شخصيات شابة
متعددة المشارب، وأنها كانت تعقد اجتماعاتها بصفة مستمرة، عدة مرات كل
يوم، لتدارس الموقف، وتبادل الرأي والفكر، وإعداد تكتيك اللحظة القادمة.ولابد أن (قيادة الانتفاضة) قد
كانت أمامها ملفات فكرية وسياسية، أعدت بسرعة من واقع خبرة سنوات مضت في
إطار حركة المجتمع المدنى، إيجابية كانت أو سلبية: خبرة "حركة كفاية"،
خبرة "حركة 6 أبريل" منذ إضراب عمال غزل المحلة عام 2009، خبرة بعض
المنظمات الحزبية الناشئة وخاصة "حزب الجبهة الديمقراطية"، و"الجمعية
الوطنية للتغيير" مع د. محمد البرادعي.. وخبرة مواقع التواصل الاجتماعي في
الحشد، مثل صفحة (كلنا خالد سعيد) لوائل غنيم.. إلخ.. إلخ.ولابد أنه كانت هناك ملفات أعدها
شباب مثقف من هيئات التدريس في بعض الجامعات المصرية، بما فيها الجامعة
الأمريكية، والشباب من قادة بعض جمعيات المجتمع المدني التي عملت في مجال
الدعم القانوني والمساندة القضائية للحركات الاحتجاجية خلال السنوات
الخمسة الأخيرة السابقة على يناير 2011. ولابد أن الملفات المعروضة على
عجل فوق مائدة النقاش المحموم، أيام الانتفاضة الدموية، كانت تتضمن خبرات
وتجارب سياسية أجنبية، تضمنت دروساً ثمينة في مجال (التحول أو الانتقال
الديمقراطي) في غمار العنف المفاجىء الممتد لأيام وأسابيع وشهور، على غرار
تجارب دول أوروبا الشرقية التي حققت تغيير النظم بوسائل متنوعة منها العمل
السياسي السلمي، كما حدث في المجر (بقيادة حركة المنتدى المدني
الديمقراطي)، والعمل السلمي المدعوم أجنبيا وغربيا على مدى سنوات - كما
حدث في بولندا بقيادة حركة التضامن العمالية وزعيمها ليش فاليسا، والعمل
العنيف دمويا مثل حالة رومانيا ضد شاوشيسكو.. بالإضافة إلى تجارب أخرى مثل
إندونيسيا عقب وفاة سوكارنو، وما خلفه سقوط سوهارتو من حطام حتى استقرت
أحوالها على المسار (الديمقراطي)، وتجارب بعض دول أمريكا اللاتينية التي
تحولت - بالعنف "الثوري" أو "الانتفاضي" - نحو مسار (ديمقراطي معين) كما
حدث في شيلي بعد بينوشيه.ولابد أن استحضار الخبرات
والتجارب، المصرية والأجنبية، قد تم بكل قوة وعنفوان على مائدة قادة
الانتفاضة الثورية المصرية، في جو محموم حافل برائحة البارود والدم، على
هدير الجماهير التي تتزايد عدداً، وتتكثّف تحركاتها نوعيا كل يوم، وكل
لحظة، بدون انقطاع على الإطلاق.ولابد أن الحوار على مائدة
الثوار قد شمل طرح البدائل، والاختيار من بينها، وخاصة بديل التنازل
الجزئي أمام طرح السلطة ممثلة في اللواء (عمر سليمان) في حواره مع الأحزاب
الرسمية - ولابد أنه قد تم رفض نهج (خُذْ وطالب) عبر التنازلات الجزئية-
وأنه قد تم التصميم العنيد على الاستمرار في تحقيق الانتفاضة حتى نهايتها
الوحيدة المقبولة: إسقاط الرئيس شخصياً. وهذا ما كان.وصحيح أن عقد القيادة الانتفاضية
قد انفرط تدريجيا وسريعا، في آن معاً، عقب نجاح الهدف المباشر الكبير،
ولكن هذا لا ينفي احتمال وجود مثل تلك القيادة التي تحدثنا عنها، ووجود
الحوار على موائدها المضمّخة برائحة الدم والبارود، في بعض الشقق السكنية
والمكتبية الملاصقة لميدان التحرير، أو بعض مقاهي الانترنت.. وكان وجود
مثل هذه القيادة الواعية يعني تبلور (برنامج للعمل) طوال الانتفاضة، وأن
عملية التبلور شاركت فيها قيادات شابة محنكة من خبرة النضال السياسي
والقانوني للمجتمع المدني، وخبرة الحشد والتعبئة "الإنترنتّية" لقادة بعض
مواقع التواصل الاجتماعي، وخبرة البحث العلمي والتدريس الجامعي في أقسام
التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية.. وقد انصهرت كل هذه
الخبرات على موائد الحوار، ومن خلفها، ومن أمامها، لتصنع من خيوطها نسيجاً
برنامجيا متماسكا، وإن لم يكن مفصّلا بالقدر الكافي، فقد كان يكفي وضع
(خطة عمل) لكل يوم من أيام الانتفاضة، سعياً إلى هدف (إسقاط الرئيس).وكان يكفي أن يتم الحوار المعمق
- المحموم مع ذلك- وأن توضع الخبرات التاريخية المحلية والأجنبية من
الباحثين والأساتذة الشباب على المائدة، لتساعد الممارسين في اتخاذ
القرارات السريعة الصائبة في الوقت المناسب بالضبط.وإذن فقد كانت هناك قيادة، وكان
لديها "إرشاد فكري" وكان لديها "تنظيم" مناسب للمهام الحركية المفترضة.
وهذا أمر منطقي تماماً، إذ يستحيل أن يتحقق الإنجاز التاريخي لثورة يناير،
دون أن توجهه قيادة، ويرشده فكر ما، ويسانده جهد تنظيمي متين.. وغن كان
يتعين التسليم بان ثورة أو "انتفاضة" 25 يناير لم يكن وراءها قائد
"كارزماتي" معين، مثل جمال عبد الناصر في حالة ثورة 23 يوليو 1952، قائد
يوجه دفة الثورة، ويلهم ويلهب الجماهير، ويحث الخطى في اتجاه الأهداف
المحددة، برغم الأخطاء والثغرات.ولعل الأحداث التي شهدتها مصر في
مايو 2012 مثلا - في ميدان العباسية ومحيط وزارة الدفاع- تثبت أن قيادة
الانتفاضة - بالمعنى الذي ذكرنا، ما تزال قائمة، برغم تفككها، وما تزال
تحمل بصمات القدرة والإصرار التي أثبتت نجاحها ساحق في وقت سابق.وهذا ما نراه الآن وما رويناه بطريقة "استرجاعية" لأيام تاريخية مضت... إنها رؤية لا ندعي أنها تستند
إلى معلومات موثقة.. ونحن ندعو قادة الانتفاضة الثورية المصرية لتسجيل
يومياتهم كما وقعت، للتاريخ..! ولكنا نزعم أن رؤيتنا هذه ليست نتاج لعملية
(استبطان ذاتي) بعيد عن الواقع، بل هي محصلة تأمل لما يجري من حولنا، ولما
نتصور - في ضوء ذلك- أنه لا بد قد وقع.وقد يتساءل سائل، على سبيل الاستقصاء المقارن: هل وقع مثل ذلك في الانتفاضات العربية الأخرى؟ونحاول الإجابة على ذلك بالقول
إن الرحيل السريع والمفاجىء ﻟ(زين العابدين بن علي) قد أعفى الثوار
التونسيين من مشقة الجهد لوضع برنامج عملي محدد للانتفاضة.ولكن المحقق أن الثوار الشباب في
اليمن، كانت لهم - وما تزال- قيادة وبرنامج. وربما كذلك في البحرين، أما
الحالتان الليبية والسورية فأمرهما واضح، وإن كان مختلفا جدا عن المسار
المصري- التونسي- اليمني، وقد رأيناه رأي العين على شاشات بعض القنوات
الفضائية..!**********
القسم الثالث
رؤية لمشاهد المستقبل القريب
في ضوء تحليلاتنا السابقة لأوضاع
ثورة 25 يناير في مصر، يمكن أن نتصور المشاهد أو (السيناريوهات) المتوقعة
التالية في المدى القريب والمتوسط، أي خلال 3- 4 سنوات.أولا السيناريو "اللبناني"، إذا
صح هذا التعبير. ففي ضوء العجز عن تشكيل "توافق مجتمعي" حقيقي وقابل
للصمود نسبياً، فإن من المتوقع حدوث حالة من السيولة السياسية ذات الطابع
التنافسي علي غرار ما يسمى في أدبيات علم الاقتصاد، علي المستوى النظري
البحت، بالمنافسة الصافية والكاملة Competition Pure & Complete حيث
لا يمكن التنبؤ بسلوك الأطراف، ويدخل الجميع في حرب تنافسية شرسة ضد
الجميع.إنها حالة من "عدم الاستقرار
المزمن" تحت راية الديمقراطية التمثيلية القائمة على الانتخابات النيابية،
وتشكيل حكومات من ائتلافات الأغلبية، متغيرة عبر الزمن، دون قدرة على حل
المعضلات الأساسية للمجتمع، داخلياً وخارجياً. وهذه هي حالة لبنان منذ
استقلاله عن فرنسا عام 1943، قبل وبعد "الحرب الأهلية"، أي قبل 1973 وبعد
1989- حتى الآن.ثانيا: سيناريو "المعجزة أو
(السيناريو التركي)، ويشير ذلك إلى احتمال تحقق معجزة تكوين "تيار رئيسي"
main- Stream يتوافق من خلاله الجميع، ولو من خلال التراضي على حكم فريق
سياسي معين يتمتع بتأييد شعبي واسع، على غرار الحالة التركية في ظل حزب
العدالة والتنمية خلال السنوات العشرة الأخيرة. ولذا يمكن تسميته
بالسيناريو (التركي) ولو على سبيل التجاوز في الدقة.ثالثا: سيناريو "المشهد
الإقصائي"، من خلال نجاح التيار الإسلامي في توحيد نفسه، والصعود إلى
صدارة المسرح، تشريعيا وتنفيذيا، وتولي مهمة (إدارة البلاد). وسوف يكون
هذا النجاح رهنا بإقصاء القوى الأخرى وإعادة صياغة أو (هندسة) المجتمع وفق
رؤية إيديولوجية محددة. وهذا هو ما يمكن تسميته بالسيناريو (الإيراني)،
على سبيل التجاوز أيضا.فإلى أين المسير..؟ على طريقة لبنان العربي، أم تركيا أم إيران؟ أم سيكون لنا طريق خاص في الفترة القادمة.؟ لسنا ندري..!ولنلاحظ هنا أننا استبعدنا
(سيناريوهات الشرّ أو الكارثة)، لتأكدنا من عدم واقعيتها في الحالة
المصرية الراهنة، وتتلخص في مشهدين بديلين:* مشهد "الاقتتال الأهلي" - أو "الوقوف على شفير "الحرب الأهلية".* مشهد الفوضى المؤدية إلى استدعاء وقوع "انقلاب عسكري".ولا نرى حظا لأي من هذين المشهدين الكارثيّين، فلا يبقى إلا أن نتوقع حدوث أيّ من المشاهد الثلاثة أو الأربعة الأخرى.ولننتظر لنرى..!