أولاً: السياسات الإقليمية لتركيا والتغيرات الدولية تؤثر التغيرات الدولية على كل البلدان -بدون استثناء- وعلى توجيه
سياساتها الخارجية، إلا أن هناك تفاوتاً فى درجة التأثير بين بلد وأخر
بحسب انخراطه فى النظام الدولى وتحالفاته مع أقطابه، وكذلك على خلفية
الموقع الجغرافى للبلد المعنى وأهميته الجيو-سياسية. بهذا المعنى تعد
تركيا من الدول الأكثر حساسية تجاه تأثيرات التغيرات الدولية على سياستها
الإقليمية والخارجية، ويعود السبب فى ذلك إلى طبيعة موقعها الجغرافى على
مفترق الطرق بين الشرق والغرب، وإطلالاتها المتنوعة على شرق المتوسط
والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط. كما أن انخراط تركيا
الشامل فى الحرب الباردة، عبر دورها الفعال فى منع تمدد الاتحاد السوفيتى
السابق إلى البحار المفتوحة أو "المياه الدافئة"، جعل تركيا أحد نقاط
المواجهة الكونية التى دارت بين الاتحاد السوفيتى السابق وكتلته والولايات
المتحدة الأمريكية وتحالفاتها وفى مقدمهم تركيا. كان التحالف مع الولايات
المتحدة الأمريكية نابعاً بالأساس من التهديد الذى استشعرته تركيا من
الاتحاد السوفيتى
–وريث روسيا القيصرية-، وبحيث انبنى هذا التهديد على معطيات
تاريخية وجغرافية وليس على خلفيات أيديولوجية، إذ شكلت روسيا القيصرية
والحروب التى خاضتها مع الدولة العثمانية على مدار قرون التهديد الأساسى
للأناضول. ولم تنحرف الحكومات التركية المتعاقبة منذ تأسيس الجمهورية
التركية عام 1923 عن هذه القاعدة، بحيث توارت الاعتبارات الأيديولوجية خلف
حائط المصالح الوطنية التركية واعتبارات الأمن القومى فى مواجهة روسيا.
تعاقبت الحكومات على الدولة التركية لسبعة عقود امتدت منذ تأسيس الجمهورية
وحتى انتهاء الحرب الباردة عام 1990، واختلفت سياساتها الداخلية
والاقتصادية، إلا أن سياساتها الإقليمية والخارجية كانت تنسج على منوال
واحد.
أدى انهيار الاتحاد السوفيتى السابق، بعد انتهاء الحرب الباردة،
إلى نتيجتين متضاربتين من المنظور التركى، إذ أن ذلك الانهيار دشن نهاية
–ولو مؤقتة- للتهديد التاريخى الذى مثلته روسيا للأناضول، إلا أنه حمل فى
طياته تهديداً لمكانة تركيا الاستراتيجية فى خرائط السياسة الدولية. ومثلت
مرحلة التسعينات فترة من فقدان الاتجاه لتركيا على صعيد السياسة الخارجية
بسبب التأثيرات الدولية، ولعبت براعة الرئيس التركى السابق تورجوت أوزال
دوراً كبيراً فى إعادة اكتشاف وتعريف المصالح الوطنية التركية فى مناطق
جوارها الجغرافى، ولكن قدرة تركيا على ترجمة هذا الاكتشاف وتلك الرؤية
كانت محدودة لأسباب راجعة إلى موازين القوى الدولية والإقليمية. فى عصر
أوزال عصفت التغيرات فى البيئة الإقليمية لتركيا بتصوراتها السابقة عن
دورها لنفسها تحت العباءة الأمريكية، إذ أن انهيار يوغوسلافيا السابقة
زعزع الاستقرار فى البلقان، مثلما أدى استقلال جمهوريات آسيا الوسطى، ذات
الارتباطات التاريخية والثقافية واللغوية مع تركيا، إلى بعث مصطلح "العالم
التركى" من رقاده. لم تستطع تركيا تعزيز نفوذها فى البلقان إثر انهيار
يوغوسلافيا، لأن طموحات تركيا اصطدمت بمصالح المجموعة الأوروبية التى حالت
دون ذلك. ولم تستطع تركيا أن تؤثر كثيراً فى قواعد الحراك الداخلى
لجمهوريات آسيا الوسطى، لأن روسيا منعت تركيا من التمدد فى ما تعتبره
موسكو "حديقتها الخلفية". تحالفت تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية فى
حرب "تحرير الكويت"، لأن ظروفها الداخلية لم تكن تسمح بغير ذلك، على الرغم
مما نتج عن هذه الحرب من إقامة "مناطق آمنة" للأكراد فى شمال العراق، وهو
ما مثل تغييراً سلبياً إضافياً فى البيئة الإقليمية المحيطة بتركيا.
مثلت السنوات الواقعة من التسعينات إلى نهاية القرن العشرين فترة
إعادة التعريف للمصالح الوطنية التركية وإنضاجها على أساس جديد لا يستغنى
عن التحالف مع واشنطن، ولكنه يفتح الآفاق أمام تركيا لاكتشاف فرص جديدة من
الحضور ومساحات التأثير فى جوارها الجغرافى. نبتت البذرة التى غرسها أوزال
وأينعت بعد رحيله بعقد كامل، فصحيح أن تركيا لم تنجح فى استثمار التغيرات
الجيو-سياسية فى البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى بسبب اصطدامها بقوى أكبر
حالت دون ذلك، أوروبا فى الحالة الأولى وروسيا فى الحالة الثانية، إلا أن
قدرتها على عدم التحقق فى هذه المناطق ترافقت مع فتح نوافذ جديدة للفرص
أمامها. ولعبت التطورات الدولية التى عصفت بالعالم منذ نهاية القرن
العشرين دوراً إضافياً فى التأثير على سياسة تركيا الخارجية والإقليمية،
إذ تفاقمت الصراعات الإثنية فى الجوار الأوروبى سواء فى البلقان أو منطقة
الأوراسيا، وبرزت الأصولية الإسلامية على الصعيدين الإقليمى والدولى. دفعت
كل هذه العوامل بتركيا بالمعنى الجيو-سياسى لأن تأخذ دور المركز الإقليمى
الصاعد. وجاءت أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 بعوامل استقطاب كونية
جديدة مثل انتشار الإرهاب المعادى للغرب، احتلال الولايات المتحدة
الأمريكية للعراق 2003، بتحديات جديدة لتركيا المرتبطة مؤسساتياً وهيكلياً
بالغرب، وذات الغالبية السكانية من المسلمين والتى تملك الطموح اللازم
للحصول على موقع أفضل فى خرائط السياسة الإقليمية والدولية. ترافق الطموح
كعامل ذاتى مع الفراغ الإستراتيجى فى المناطق المتاخمة لتركيا، وما نتج
عنه من احتياج أمريكى للأدوار التركية فى مروحة جغرافية واسعة تمتد من
آسيا الوسطى شرقاً وحتى البلقان غرباً، ومن البحر الأسود شمالاً وحتى
الشرق الأوسط جنوباً. مهدت هذه الاعتبارات الطريق أمام تركيا لتصبح "محور
الحسابات الجيو-سياسية، بسبب موقعها على مفترق طرق البلقان، شرق المتوسط،
القوقاز، آسيا الوسطى والشرق الأوسط بمشاكله العربية-الإسرائيلية" . سعت
تركيا فى هذه البيئة الإقليمية الملتهبة والدولية المضطربة إلى إعادة
تركيب سياستها الخارجية لتصبح متعددة الأبعاد والاتجاهات، فتبقى على
توجهها الأساسى نحو الغرب، ولكنها تنفتح فى الوقت نفسه على جوارها
الجغرافى وبضمنه الشرق الأوسط. أعطى "حزب العدالة والتنمية" لتركيا
سياستها الانفتاحية حيال الشرق الأوسط، مراكماً على ما خطط له تورجوت
أوزال وحزب "الوطن الأم" فى ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضى، لإعادة
تشكيل السياسة الخارجية حتى تصبح متعددة الأبعاد والمحاور. كان الطريق
شاقاً أمام عودة تركيا إلى المنطقة، إذ تضافرت الكوابح الداخلية التركية
مع قيود الالتزامات الدولية فى مزيج مدهش من العوائق، ولكن السياسة
الإقليمية التركية المدموغة بخاتم وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، خطت فوق
العوائق السياسية والحساسيات التاريخية لتعيد تركيا إلى جوارها الجغرافى
والحضارى بعد عقود من الغياب. ألغت السياسة الإقليمية التركية الجديدة تلك
الثنائيات التى استقرت فى الأذهان لفترات طويلة، وعلى الأخص ثنائية إما
التوجه غرباً أو التوجه شرقاً، بحيث بدا فى مراحل سابقة وكأن التوجه نحو
أوروبا والغرب يتطلب تنازلاً عن مد الروابط والجسور نحو الشرق. استعملت
السياسة الخارجية التركية "كسارة الثنائيات" بشكل عقلانى ومنهجى مستندة
إلى خيال سياسى استثنائى وطموح لا يعرف الكلل، ولكنها أسندت كل ذلك إلى
أساس واقعى يعكس وعياً عميقاً بتركيبة وهياكل المنطقة فأحرزت لتركيا أقصى
ما يمكن أن تحصل عليه فى ظل التوازنات الدولية والإقليمية القائمة. يعود
جانب كبير من المقبولية الشعبية والنخبوية التى تحظى بها تركيا في المنطقة
إلى النموذج الذى تقدمه من حيث الانفتاح على الغرب، والتناوب السلمى على
السلطة بين أحزابها السياسية والتقدم الاقتصادي الذى أحرزته تحت قيادة حزب
"العدالة والتنمية"، بحيث أصبحت الاقتصاد رقم 17 على العالم من حيث حجم
الناتج المحلى الإجمالى مع آفاق أوسع للنمو فى العقود القادمة ، وكلها
اعتبارات وعوامل ما كان لتركيا أن تحظى بها دون ارتباط عميق مع الغرب.
تضافرت مجموعة من العوامل الداخلية والإقليمية والخارجية لتدفع
تركيا نحو دور أنشط فى سياستها الإقليمية، إذ أن وصول حزب "العدالة
والتنمية" إلى السلطة عام 2002 بالتوازى مع التعثر فى مفاوضات الانضمام
التركى إلى الاتحاد الأوروبى بسبب خشية أوروبا من "هوية تركيا الإسلامية"،
والانقلاب الحاد فى موازين القوى بالمنطقة منذ احتلال العراق عام 2003،
اختلطت ببعض وشكلت خليطاً فريداً من الدوافع. وهكذا أصبح الانخراط التركى
فى الشرق الأوسط ضرورة مصيرية للحفاظ على مصالح الدولة التركية. هنا طرح
حزب "العدالة والتنمية"، تعريفاً جديداً للمصالح الوطنية التركية، بعد أن
كانت حسب قواعد اللعب التركية تقع فى دائرة اختصاص المؤسسة العسكرية.
والتعريف الجديد يتسق مع رؤية حزب "العدالة والتنمية" لهوية تركيا
ومصالحها الوطنية وبشكل يلحظ التغيرات في البيئتين الإقليمية والدولية. لا
تقطع السياسة الإقليمية التركية الجديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية
كحليف دولى وإستراتيجى، حتى ولو تصادمت معها فى بعض القضايا. ومثل انتخاب
باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية عام 2009 فرصة كبيرة أمام
أنقره لتمتين شراكة استراتيجية مع واشنطن تمتد خلال القرن الحادى والعشرين
، نظراً إلى حاجة كل من الطرفين للأخر ولكن وفق قواعد لعب مغايرة تسمح
لتركيا بهامش أكبر للمناورة الإقليمية.
يعد البروفيسور أحمد داود أوغلو وزير الخارجية الحالى المنظّر الأساسى
للسياسة الإقليمية التركية الجديدة. وهو مؤلف كتاب "العمق الإستراتيجى:
موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" ، الذى يعتبر الأساس لفهم المرتكزات
الانطلاقية لرؤية تركيا لنفسها ولجوارها ومن ثم تقديرها لدورها القادم.
بعد رؤيته المعمقة لوضعية بلاده فى السياستين الإقليمية والدولية يريد
داود أوغلو لتركيا أن تتخطى دور الدولة الحاجزة لطموحات موسكو طيلة الحرب
الباردة أو حتى الدولة الجسرية بين الشرق والغرب لتصل إلى الدولة ذات
العمق الإستراتيجى. وفق هذا المقتضى توظف السياسة الإقليمية لتركيا تحت
حكم "حزب العدالة والتنمية" الموروثات التاريخية والجغرافية لتركيا بشكل
مثالى، بطريقة تتجاوز العوائق التى حالت دون تبلور سياسة إقليمية تركية
فعالة فى الماضى. ويربط داود أوغلو بشكل جذاب بين العوامل الجيو-اقتصادية
والجيو-ثقافية والجيو-سياسية فى إطار يتوخى إعادة تحليل البناء
الجيو-سياسى لتركيا من جديد. يعتقد أحمد داود أوغلو أن "ثمة سياسات
متباينة يمكن لتركيا انتهاجها فى الشرق الأوسط، الأولى هى الابتعاد التام
عن الشرق الأوسط ومشكلاته، والثانية هى تطوير سياسات متناغمة مع سياسات
معسكر دولى ما، كسياستها خلال الحرب الباردة، انطلاقاً من تجنب تحمل مخاطر
المبادرة منفردة فى المنطقة، أما السياسة الثالثة فتقوم على النظر إلى
الشرق الأوسط من خلال مقاربة تركية خالصة مركزها أنقره" . من الواضح أن
تركيا اختارت السياسة الثالثة!.
ثانياً: الأسباب الدافعة لدور إقليمى تركى فى الشرق الأوسطيمكن تقسيم الأسباب الموجبة لدور تركى إقليمى فى المنطقة إلى أسباب
موضوعية وأخرى ذاتية، ويأتى فى مقدم الأسباب الموضوعية ذلك الفراغ الكبير
الضارب أطنابه في المنطقة نتيجة انهيار ما سمى "النظام الإقليمى العربى"،
خصوصاً عقب احتلال العراق عام 2003. ثم يأتى ثانياً عامل هام ضمن الأسباب
الموضوعية المسهلة لقيام تركيا بدور إقليمى وهو أن تركيا ترسم سياستها
الإقليمية بغطاء وتأييد من الولايات المتحدة الأمريكية، وباعتبارها فى وجه
من الوجوه ثقلاً موازياً للدور الإقليمى الإيرانى الذى لا ترضى عنه
أمريكا، حتى مع تأكيد تركيا المستمر أنها لا تتواجه مع إيران في المنطقة.
ثالثاً تتمدد تركيا إقليمياً فى المنطقة بتكاليف سياسية أقل بكثير من
العائد السياسى الذى تجنيه، بحيث أن الجدوى الإستراتيجية من لعب هذا الدور
تكون متحققة تماماً فى حالة الشرق الأوسط. وتكفى هنا الإشارة إلى الدور
الإقليمى الإيرانى والذى استثمرت فيه إيران مالياً وأيديولوجياً لبناء
شبكة من التحالفات مع الدول والحركات والأحزاب السياسية لمدة ثلاثين
عاماً. المقارنة بين مساحات التأثير التى يملكها كل طرف تشى بأن تركيا
تتنافس مع إيران بأدوات جديدة ولكن بمدخل أقل تكلفة سياسية من إيران
بكثير. رابع الأسباب الموضوعية التى تدفع تركيا إلى لعب دور إقليمى فى
المنطقة يتمثل فى أن الشرق الأوسط هو المجال الجغرافى الوحيد فى جوار
تركيا الذى يمكنها فيه لعب دور إقليمى دون الاصطدام بقوى عالمية،
بالمقارنة بالقوقاز حيث النفوذ الروسى أو فى ألبانيا والبوسنة حيث النفوذ
الأوروبى. ويتمثل خامس الأسباب الموضوعية فى تلك الصورة الإيجابية لتركيا
عند شرائح عربية واسعة والترحيب غير المسبوق بدور تركى فى المنطقة لأول
مرة منذ قيام الجمهورية بسبب جاذبية "النموذج التركى". يتلخص السبب
الموضوعى السادس لدور تركيا الإقليمى فى توافر تاريخ مشترك بين تركيا
والعرب ووجود تقارب ثقافى وحضارى ومذهبى بين تركيا والدول العربية، وهو ما
لا يجعل تركيا عنصراً وافداً إلى المنطقة ويسهل قيامها بهذا الدور.
تقوم الدوافع الذاتية التركية للعب دور إقليمى فى المنطقة على أساس
المصالح الوطنية التركية، حيث تشكل الدول العربية سوقاً ممتازة للسلع
التركية التى تحظى فى المنطقة بتنافسية لا تحظى بها بالضرورة فى السوق
الأوروبية. وثانياً تشكل المنطقة العربية بما تملكه من احتياطات للطاقة
عامل جذب بأهمية استثنائية لتركيا، التى يتزايد الطلب فيها على النفط
والغاز لسببين أساسيين هما تعاظم قدرات الاقتصاد التركى وطموح تركيا لكى
تصبح معبراً لإمدادات الطاقة إلى أوروبا، وبما يعزز وضعيتها الإستراتيجية.
ثالثاً المصالح الأمنية التركية، لأن لعب دور إقليمى فى المنطقة يعنى
المشاركة فى تحديد الأجندة الإقليمية والوصول بخطوط الدفاعات التركية إلى
أبعد نطاق ممكن من الأراضى التركية، وتركيا كانت تاريخياً ضحية لعمليات
إرهابية سواء على خلفية سياسية مثل المشكلة الكردية أو المشكلة الأرمنية
أو على خلفية أيديولوجية مثل عمليات الجماعات الدينية المتشددة التى تنشط
فى دول جوارها الجغرافى. رابعاً يؤدى الدور الإقليمى المتزايد فى المنطقة
إلى تحسين كبير فى صورة تركيا لدى أوروبا، ويرفع رصيدها لدى الاتحاد
الأوروبى، الذى يتعنت فى قبولها عضواً بسبب الاعتبارات الثقافية والدينية،
باعتبارها صمام الأمان المتقدم على تخوم الشرق الأوسط المجاور جغرافياً
للاتحاد الأوروبى. خامساً لا يمكن إغفال التأثير الذى لعبه وصول حزب
"العدالة والتنمية" إلى السلطة فى تركيا على قيامها بدور إقليمى فى
المنطقة، صحيح أن الدور الإقليمى التركى يتأسس على اعتبارات موضوعية وعلى
خلفية المصالح الوطنية التركية فى المقام الأول، ولكن ذلك لا يمنع من دور
مساعد للخلفية الأيديولوجية التى ينطلق منها حزب "العدالة والتنمية" فى
توجيه سياسة تركيا الخارجية. حاول بولنت على رضا الخبير فى الشؤون التركية
لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية فى واشنطن أن يوفق بين
الاعتبارين فخرج بنتيجة مفادها أن "النواة الصلبة للرؤية الوطنية التركية
لدى غالبية كوادر حزب العدالة والتنمية هى خليط بين القومية التركية
والإسلام" . وإذ تعد "مسألة الهوية"، وهى مدركات الدولة لنفسها فى مواجهة
محيطها الجغرافى؛ من أهم العوامل فى رسم السياسة الإقليمية للدول الوطنية،
فمن الطبيعى أن تختلف مدركات هذه "الهوية" من حزب إلى أخر ومن فصيل سياسى
إلى غيره من الفصائل. وهذا الاختلاف يقود إلى اعتماد البرنامج السياسى
للأحزاب الحاكمة على رؤى بعينها فى القضايا المختلفة، ومنها طبعاً
السياسات الإقليمية. تأسيساً على ذلك لا يمكن اعتبار أن الدافع
الإيديولوجى "الإسلامى" هو المحرك الأساس لسياسة تركيا الإقليمية، بل
المصالح الوطنية والقومية، حتى لو امتزجت العوامل لأن هذا الامتزاج يوفر
أرضية أكثر مناسبة لتقرير السياسة الإقليمية الجديدة وحشد أوسع تأييد
داخلى لها.
ثالثاً: تركيا وتوازنات القوى فى الشرق الأوسط جسد وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى السلطة فى تركيا لحظة تاريخية
تبلورت فيها قطاعات واسعة من طبقة رجال الأعمال الجدد من المستوى المتوسط
والصغير يتحدرون من الأناضول فى شرق تركيا، وهؤلاء ذوى ميول وطنية محافظة
ولهم مصلحة مادية فى الانفتاح على الشرق الأوسط لتسويق منتجاتهم ذات
الميزة النسبية المتدنية فى الغرب، على العكس من الشركات التجارية التركية
الكبرى المتمركزة فى الغرب التركى مثل صابانجى وكوش -أصحاب المصلحة فى
تغليب الارتباط بالغرب المتطور خدمة لمصالحهما الاقتصادية. تمثل هذه
الطبقة الصاعدة القوة الاجتماعية الدافعة لحزب "العدالة والتنمية" الذى
يسعى لإشراكها كى تلعب دوراً أكبر فى الاقتصاد والسياسية التركية إلى جانب
طبقة كبار الاقتصاديين الأتراك التقليدين ذوى الميول العلمانية على النمط
الأتاتوركى، وبالتالى تعديل التوازنات الداخلية التركية من القاعدة إلى
القمة وبطريقة تراكمية. ويعنى ذلك –فى وجه من الوجوه أن الحراك الدائر فى
تركيا على توجيه دفة السياسة الداخلية يتأسس فى جوهره على مكون
اقتصادى-اجتماعى-مناطقى، فى حين يظهر على السطح فقط أن المكون
السياسى-الأيديولوجى هو المحرك الوحيد للتجاذب الداخلى فى تركيا. تتخوف
المؤسسة العسكرية مما يسمى "العثمانية الجديدة" لأن "استعمال القوة
الناعمة التركية فى الشرق الأوسط من شأنه تهديد الهوية الكمالية العلمانية
فى تركيا" ، ولكن المفارقة تكمن فى أن حزب "العدالة والتنمية" ينتهج
توازناً دقيقاً فى سياسته بالداخل تجاه منافسيه المحليين محاولاً بناء
توافقات داخلية واسعة، على الرغم من أن "بناء التوافقات لم يكن أبداً
سهلاً فى تركيا" . ويجد التوازن التراكمى الدقيق فى سياسة تركيا الداخلية
امتداده فى سياسة تركيا الإقليمية، حيث تدير تركيا سياستها بطريقة مركبة
تجاه الأركان الثلاث للقوة فى الشرق الأوسط: إيران وإسرائيل ودول
"الاعتدال العربى". ومثلما لتركيا مصالح وقواسم مشتركة مع الأطراف الثلاث،
فلها أيضاً أهداف لا تتفق بالضرورة مع كل من هذه الأركان الثلاث، وهو أمر
مفهوم ومشروع فى السياسة الإقليمية. وتشهد الديناميات المتحكمة فى علاقات
تركيا بهذه الأطراف على براعة تركية فى قراءة المعطيات ومن ثم تحييد
التناقضات والخروج بأفضل النتائج الممكنة من منظور المصالح الوطنية
التركية. ربما يكون استعراض العلاقات التركية مع عناصر القوة الثلاث فى
الشرق الأوسط ضرورياً للإجابة عن سؤال أى الاعتبارات يحسم السياسة
الإقليمية التركية: المصالح الوطنية أم الدوافع الأيديولوجية؟.
العلاقات التركية مع إيرانتشهد العلاقات التركية-الإيرانية راهناً علاقات تعاون اقتصادى جيدة،
وتتوسط تركيا فى أزمة الملف النووى الإيرانى بين طهران والغرب، ولكن دون
أن يرقى ذلك التعاون الاقتصادى والوساطة الدبلوماسية إلى مستوى التحالف
بين البلدين. يملك البلدان قواسم مشتركة واضحة، فكلاهما دولتان غير
عربيتان تحيطان بالدول العربية من الشمال، لكلاهما مصلحة مشتركة فى لجم
الطموحات الكردية ضمن حدودهما السياسية. ومع المصالح المشتركة الناجمة من
الموقع الجغرافى وتشابه مصدر التهديد (الأكراد)، يمكن ملاحظة تنسيق محدود
الفعالية بين تركيا وإيران فى ملفات القوقاز وآسيا الوسطى. وعلى العكس من
الساسة تبدو إمكانات واعدة لتعاون اقتصادى كبير بين أنقره وطهران، من طريق
مد الغاز الإيرانى إلى "خط نابوكو" عبر الأراضى التركية إلى أوروبا. وإذ
تشكل السوق الإيرانية أحد الركائز المهمة للصادرات التركية فى الشرق
الأوسط، فإن تركيا تستثمر أيضاً فى قطاع النفط الإيرانى، وخصوصاً حقل بارس
الجنوبى. وفى مقابل مجموعة القواسم المشتركة فهناك أيضاً كوابح تعيق
–موضوعياً- تطوير هذه العلاقات، إذ يخوض البلدان منافسة تاريخية على
الزعامة الإقليمية منذ خمسة قرون. تتصادم المنظومة القيمية لكلا النظامين،
وتتعارض التحالفات الدولية لكل منهما، وتختلف الأدوات التى يستخدمها
الطرفان فى المنطقة: تركيا تستثمر قوتها الناعمة، وقوتها الاقتصادية
وانفتاحها على الغرب لمد النفوذ، أما إيران فتفرض حضورها عبر منازلة
إسرائيل وتبنى حركات المقاومة واصطدامها بالولايات المتحدة الأمريكية. وفى
حين تعود تركيا إلى المنطقة بترحيب دولى وإقليمى نسبى، إلا أنها لا تملك
التحالفات التى تفرض الإيقاع مثل إيران.
لا تعنى عودة تركيا إلى توازنات المنطقة التصادم مباشرة مع إيران، أو
الاستمرار بنمط العلاقات مع إسرائيل على غرار العقود السابقة، وهو ما يعنى
ضرورة تموضع تركيا بصورة مغايرة تسمح لها القيام بأدوارها الجديدة
المرغوبة منها ذاتها والمطلوبة دولياً. هنا لا بد من ملاحظة أن تركيا لن
تؤيد ضربات عسكرية ضد إيران لحل أزمة ملفها النووى، لأن ذلك سيرتد على
تركيا ومصالحها فى المنطقة، فى الوقت الذي تعارض فيه تركيا امتلاك إيران
لقدرات نووية لأن ذلك سيحسم التنافس التاريخى على الزعامة بين تركيا
وإيران لمصلحة الأخيرة. لذلك تتوسط تركيا فى الملف النووى الإيرانى
باعتبارها "المرجعية الإقليمية" الأولى فى المنطقة، وهو ما يساء فهمه فى
أحيان كثيرة من الأطراف العربية. كما أن عودة تركيا إلى معادلات النفوذ فى
العراق وسورية تعنى –حكماً- خصماً من أدوار إيران هناك، ولكن بطريقة ناعمة
وتراكمية وليس على نحو تصادمى مباشر. يبدو الصراع على النفوذ بالشرق
الأوسط والرغبة فى التمدد الإقليمى قدراً مستمراً للعلاقات
الإيرانية-التركية، على الرغم من بعض الفترات التاريخية التى شهدت
العلاقات فيها تقارباً بين البلدين، ولكن دون أن يرقى هذا التقارب أبداً
إلى مستوى التحالف الثنائى بين البلدين الجارين.
العلاقات التركية مع إسرائيلتعانى العلاقات التركية-الإسرائيلية حالياً من تداعيات أزمة "أسطول
الحرية"، ولكن مع استمرار التعاون الاقتصادى والعسكرى بين البلدين. يمتلك
البلدان قواسم مشتركة أبرزها توحد الحليف الدولى لكليهما، أى الولايات
المتحدة الأمريكية وتاريخ ممتد من التعاون بدأ مع قيام دولة إسرائيل وحتى
الآن، مثلما يملك كلاهما أقوى القدرات العسكرية فى المنطقة. ومع توافر
القواسم المشتركة تعد
التغيرات فى البيئة الإقليمية عاملاً يكبح تطوير العلاقات
التركية-الإسرائيلية التى تشهد بعد انتهاء الحرب الباردة منافسة على
الزعامة الإقليمية فى منطقة شرق المتوسط. لم تكن العلاقات
التركية-الإسرائيلية ثابتاً استاتيكياً، بقدر ما كانت تعبيراً عن اصطفاف
إقليمى-دولى فى مواجهة اصطفاف دولى أوسع. اعترفت تركيا كأول دولة إسلامية
بإسرائيل باعتبار ذلك من موجبات التحالف التركى-الأمريكى، الذى استهدف
أساساً مواجهة الاتحاد السوفيتى السابق. ومع انضواء تل أبيب تحت المظلة
الأمريكية أثناء الحرب الباردة، فقد ترسخت العلاقات التركية-الإسرائيلية
فى مواجهة تحالف دولى وبالاصطفاف فى تحالف أخر. ولكن مع سقوط الاتحاد
السوفيتى السابق فقد تغيرت الديناميات التى تربط تركيا بإسرائيل لتصبح
معادلة العلاقات متمثلة فى قوتين واقعتين فى شرق المتوسط، تتشاركان فى
خاصيتين محددتين هما: السقف الدولى الواحد، ومجاورة كلاهما لنفس الدول
العربية المعادية (سورية والعراق). لذلك فقد استمرت العلاقات
التركية-الإسرائيلية على وتيرة عالية، ولكن ليس باعتبارهما جزءاً من تحالف
دولى فى مواجهة تحالف أخر. ومع احتلال العراق عام 2003 بدعم وتأييد اللوبى
الصهيونى فى واشنطن، تغيرت التوازنات فى المنطقة مرة أخرى، حيث خرجت تركيا
والدول العربية خاسرة جراء ذلك الاحتلال. ومع تبدل الموازين أكثر فى
المنطقة وصعود النفوذ الإيرانى فى العراق والمنطقة وانفتاح سوريا على
تركيا، لم تعد تركيا محاطة بدول معادية مثلما كانت فى السابق، وبالتالى
انهار ركن أساسى فى القواسم المشتركة لكل من تل أبيب وأنقرة. كبحت
المنطلقات الأساسية لحزب "العدالة والتنمية" من تطوير العلاقات
التركية-الإسرائيلية وترافق ذلك مع التغير فى الديناميات التى تتحكم فى
هذه العلاقات، بحيث أصبح الابتعاد التركى المحسوب عن إسرائيل ملبياً
للمصالح التركية العليا، وليس لمصالح حزب "العدالة والتنمية" فقط. أصبحت
واشنطن تدرك حاجتها إلى تركيا أكثر بكثير عما قبل، حيث تحتاج واشنطن إلى
تركيا لتأمين انسحابها من العراق، وتعتاز أمريكا إلى أنقرة فى الملف
النووى الإيرانى، مثلما تريد دوراً تركياً فى تحسين صورة أمريكا فى
المنطقة، وكلها أمور فائقة الأهمية لإدارة أوباما ولا تستطيع إسرائيل أن
تفعل فيها الشئ الكثير فى الواقع. هنا بالتحديد المغزى الجيو-سياسى الأعمق
لحادثة "أسطول الحرية"، وهنا بالتحديد الخسارة الحقيقية لإسرائيل أمام
تركيا لأن تل أبيب لم يعد لديها مروحة من الاختيارات مثلما كان وضعها منذ
عام 1948 وحتى يوم القرصنة على السفن المدنية التركية فى المياه الدولية
فى 31 مايو 2010، بل أضحت خياراتها محدودة جداً فى الواقع. ستستمر
العلاقات التركية-الإسرائيلية، ولكن تركيا لم تعد شريكاً إستراتيجياً
لإسرائيل، ناهيك عن أن اسرائيل لم تعد بالضرورة الشريك الوحيد لواشنطن فى
المنطقة. وبالمقابل فإن ابتعاد تركيا عن إسرائيل نسبياً لا يعنى عداء
مستحكماً بين الطرفين أو قطيعة مع الغرب، ولكن إعادة تموضع تحتمها المصالح
الوطنية التركية وليس الدوافع الأيديولوجية لحزب "العدالة والتنمية".
العلاقات التركية مع محور "الاعتدال العربى"صعدت الصورة الإيجابية لتركيا فى الرأى العام العربى صعوداً كبيراً فى
السنوات الماضية ، بحيث زاد الاهتمام بتركيا وزادت معه كمية المعرفة بهذا
البلد. وبالرغم من التحسن الكبير فى صورة تركيا ومكانتها فمازالت العلاقات
العربية-التركية فى وضعية لا تسمح بالمضى إلى الأمام. ويعود السبب فى ذلك
إلى أن الترحيب اللفظى بعودة تركيا إلى المنطقة وزيادة التبادل التجارى
بمعدلات جيدة بين هذه الأطراف، ليسا كافيان وحدهما للوصول إلى تعديل جذرى
فى العلاقات يرقى بها إلى مستوى التنسيق والتحالف. ينتمى كل من تركيا
ومحور ما يسمى "الاعتدال العربى إلى معسكر دولى واحد، ويملك الطرفان
تاريخاً من التعاون يمتد إلى أيام الحرب الباردة وحتى الآن ويتشابهان فى
الهوية الطائفية، ولكن كلاهما ينظر إلى العلاقات مع الطرف الأخر على خلفية
توقعات صعبة التحقق. يتوقع محور "الاعتدال العربى" من تركيا أن تشكل
موازناً أمام إيران فى المنطقة، وهو ما يتصادم مع رؤية تركيا لدورها
وطبيعته ومع مصالح تركيا الاقتصادية والأمنية مع إيران. ينظر محور
"الاعتدال العربى" بالمقابل إلى تركيا بوصفها منافساً على الزعامة
الإقليمية، وتتخوف دوائر نافذة فى هذا المحور من تأثيرات ما تسميه
"الدوافع الايديولوجية" لحزب "العدالة والتنمية" على علاقات التوازن
السياسى الداخلى فيها. ومع النظرات المتشائمة والتوقعات غير الواقعية تبقى
ميزة أساسية كامنة لتطوير العلاقات التركية مع محور "الاعتدال العربى"
متمثلة فى وجود امكانات لتعاون اقتصادى كبير بين الطرفين: تركيا
بإمكاناتها الاقتصادية المعلومة، والسعودية بإمكاناتها النفطية الضخمة،
ومصر بموقعها الجغرافى وقدراتها البشرية التى تمكنها من التحالف الاقتصادى
مع تركيا.
رابعاً: الخلاصة1- تعرف تركيا توازناً دقيقاً بين اعتبارات مختلفة، ولذلك تتشابه
سياستها الداخلية مع سياستها الإقليمية من حيث كونها سياسة تراكمية تراعى
اعتبارات التوازن بين أهداف متعارضة، ففى الداخل هناك توازن دقيق بين حزب
"العدالة والتنمية" من ناحية وخصومه من ناحية أخرى، وهو ما يحد نوعاً من
إندفاعة تركيا الخارجية. صحيح أن الموازين تتعدل بمرور الوقت لصالح حزب
"العدالة والتنمية"، لكنه يتبنى سياسات داخلية تستهدف تغيير البنى
المناوئة عبر عقد تحالفات أوسع، وليس بطريقة الضربات القاضية التى تعرفها
دول الشرق الأوسط. ذات الشئ ينطبق على علاقات تركيا الإقليمية مع كل من
إيران وإسرائيل ومحور الاعتدال العربى، هناك قواسم مشتركة مع كل من هذه
الأطراف ولكن هناك كوابح في الوقت ذاته. توسع تركيا على خلفية نظرية
"العمق الإستراتيجى" من قدرات تركيا فى هذا المضمار، وتبنى سياستها على
أسس وخلفيات تاريخية واقتصادية وثقافية وسياسية فى اتجاه متعدد المحاور
والأبعاد.
2- حبس تركيا داخل أطر أيديولوجية يحجب الرؤية الصحيحة لدورها
وموقعها ويمنع تالياً فرص التنسيق والتحالف معها لمصلحة الطرفين العربى
والتركى. ينسى من يضع تركيا فى خانة المتحالف مع الأعداء، كما كان الحال
عليه لدى تيارات يسارية وقومية عربية طيلة العقود الماضية، أن التحالف مع
واشنطن والناتو كان ضرورة جغرافية من المنظور التركى فى ضوء تجربة الحرب
الباردة والتهديد التاريخى الذى مثلته روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتى
السابق من بعدها للأراضى التركية. تركيا الآن ليست واجهة لدول عظمى فى
المنطقة، إنها بالأساس دولة إقليمية نافذة، لها مصالح وطنية تتوخى تحقيقها
عبر تحالفات دولية وإقليمية، بحيث توسع تركيا من هامش مناورتها فى ظل
التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية وهو درس ينبغى أن تدرسه الدول
العربية المتحالفة مع واشنطن بالعناية الواجبة. وعلى المقلب الأخر فإن وضع
حزب "العدالة والتنمية" فى تركيا فى خانة "الحزب الشقيق" للتيارات
الإسلامية، والنظر إلى تركيا من منظار أيديولوجى يوظف نجاحات هذا الحزب فى
تركيا كمادة للتجاذبات السياسية داخل المجتمعات العربية يتناسى أن السياسة
الإقليمية لتركيا تحت حكم حزب "العدالة والتنمية" تتحرك على خلفية مصالح
تركيا الوطنية أولاً وهو أمر يحسب لهذه السياسة وليس عليها، مثلما يتناسى
الفوارق الكبيرة بين حزب "العدالة والتنمية" فى تركيا من ناحية وغالبية
الأحزاب العربية المنتمية للإسلام السياسى من ناحية أخرى، وبحيث لا يستقيم
عقد المقارنة بينهما أصلاً. وبالتالى يؤدى ذلك التوظيف السطحى والمباشر
للتجربة التركية إلى الهبوط بالنموذج الفريد الذى تقدمه تركيا، كقوة تحديث
رئيسية فى المنطقة، إلى مستوى التجاذبات السياسية العربية البينية، وهو ما
من شأنه أن يوسع الفجوة بين النظام العربى الرسمى وتركيا، وبالتالى يمنع
فرص التنسيق بين الطرفين العربى والتركى. تماماً من حيث لا يحتسبا يلتقى
النقيضان، إذ يغلب كلاهما الاعتبارات الأيديولوجية على عوامل التقييم
الموضوعى للتجربة التركية.
3- بالرغم من اختلاف نظرة التيارات السياسية فى العالم العربى
إلى تركيا، يجب الوصول إلى توافق سياسى عام مفاده أن تركيا حقيقة إقليمية
واقعة، وأن التجربة التركية تقدم نموذجاً سياسياً يستحق التأمل والتفاعل
معه بإيجابية وليس فقط إظهار التأييد أو المعارضة الأيديولوجية.
4- يتقدم عامل المصالح الوطنية على عامل الأيديولوجيا فى توجيه
السياسة الإقليمية لتركيا، خصوصاً بفضل امتلاك السياسة الأقليمية التركية
ومخططها أحمد داود أوغلو لرؤية عميقة تخص موقعها الجغرافى - السياسى
وتعظيم استثماره، وصيانته عبر الملاحظة الدقيقة للتغيرات فى البيئتين
الإقليمية والدولية.
5- إرساء التنسيق بين السياسات العربية والتركية على قاعدة المصالح
المشتركة، ربما يساهم فى تعديل التوازنات الشرق أوسطية الراهنة وبما يعيد
الرقم العربى جزءاً من معادلتها. هناك صراع دائر فى المنطقة بين الأطراف
الإقليمية غير العربية على النفوذ، وتشترك تركيا فى هذا الصراع بوضوح.
ولكن هناك أيضاً صراع موازى هو الصراع على تركيا ذاتها بين إيران وإسرائيل
بغرض التأثير فى خيارات تركيا، وفى كلا الصراعين تبدو الدول العربية غائبة
عن الفعل. فإذا كان العرب راغبون بالفعل أن يصبحوا رقماً فى المعادلات
الجديدة فى الشرق الأوسط، عليهم الانخراط فى الصراع على تركيا، وجذبها
إليهم بطريقة علمية على خلفية المصالح الوطنية للطرفين.
- مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية.