اهتمامنا
في هذه المقالة بمساءلة المفاهيم السوسيولوجية والأنثروبولوجية المؤطرة
لموضوع النوع الاجتماعي نابع من قناعتنا بضرورة تحديد المضمون المعرفي
لمفهوم (الاختلاف التفاضلي بين الجنسين) الذي صاغته الأنثروبولوجية
الفرنسية فرنسوز إغيثيه (Françoise Héritier)، وتسليط الضوء على التقاطعات
الابستمولوجية التي تجمعه بمفهوم الهيمنة الذكورية. ونابع أيضا من قناعتنا
بضرورة ابتداع نص جديد بالعربية للمساهمة في محو البياض الذي يطال هذا
الموضوع، فالكتابات العربية حول المفاهيم المؤطرة للنوع الاجتماعي تظلّ
قليلة إن لم نقل نادرة. كما نهدف من خلال هذه المقالة عرض مفهوم الاختلاف
التفاضلي بين الجنسين والهيمنة الذكورية لمشرحة الفحص والتحليل والنقد.
وتبريرنا لذلك يجد نفسه في أن الحديث عن هذه المفاهيم هو حديث عن مفاهيم
محددة، إن لم نقل أنها معروفة وذائعة الاستعمال، إلى درجة أن العديد من
الباحثين في مختلف العلوم الاجتماعية، يستعملونها دون الوعي بالشروط
التاريخية والنظرية التي أفرزتها، لأنها أصبحت كما يقول بورديو Bourdio)
(بمثابة اللاشعور بالنسبة للبحث السوسيولوجي والأنثروبولوجي.
السياق البحثي: مفهوم الاختلاف التفاضلي بين الجنسين:جاء هذا المفهوم في طيات كتاب la pensée de la différence
للأنثروبولوجية الفرنسية فرنسواز إغيثيه1 (Héritier Françoise) ، تناول
هذا الكتاب قضايا ومواضيع مختلفة تمس بشكل مباشر البناء الاجتماعي للعلاقة
بين الجنسين، وعالجت فيه إغيثية جملة من الإشكالات الجوهرية من ضمنها: أسس
وآليات صناعة التراتب الهرمي بين الجنسين؟ وتساءلت فيه عن كيفية بناء
التراتبية بين الرجال والنساء ثقافيا، وكيفية استمرار هذه التراتبية ؟.
للإجابة عن هذه الإشكاليات، انطلقت فرنسواز إغيثيه من فرضية مفادها أن
الضعف الفيسيولوجي للمرأة، ورغبة الرجل في السيطرة ومراقبة عملية الإنجاب
عند المرأة، كلها عوامل مؤسسة لصياغة علاقات لا متكافئة تشرعن للرجل
الهيمنة والسيطرة على المرأة.
لمعرفة مدى وجاهة هذه الإشكالية ومدى قوة وصحة الفرضية المذكورة
سلفا، اعتمدت إغيثيه في دراستها لفهم وتحليل مصطلحات القرابة التي لوحظت
في واقع المجتمعات البشرية، على كشف الاحتمالات المختلفة والمنطقية
للتحالفات الزواجية والقبلية والاجتماعية التي تفرزها العلاقات القرابية
في مجتمع السامو (samo) الذي يتواجد ببوركينا فاسو.
فكر الاختلاف، ومفهوم "الاختلاف التفاضلي بين الجنسين" في علاقة أخ/أختإن علاقة (أخ/أخت) حسب إغيثية، علاقة تحمل في طياتها التمييز الحيفي
وعدم التكافؤ بين أشقاء من جنسين مختلفين. وإلقاء الضوء على هذه العلاقة
سيمكننا حسب إغثيه، من فهم الاختلافات والفوارق الاجتماعية على المستوى
الماكرو خصوصا في فهمنا لعلاقة (الرجل/المرأة)، لأن هذه العلاقة ما هي في
العمق إلا انعكاس لعلاقة (أخ/أخت).
لتوضيح أهمية هذه العلاقة ودورها في بناء الفوارق بين الجنسين، ولتبين
ديناميتها في أشكالها المختلفة. درست وقارنت إغيثيه كلا من النظام الأميسي
"crow" والنظام الأبيسي "Omaha". فتوصلت إلى نتيجة مفادها أن علاقة
(أخ/أخت) تتخذ شكلان مختلفان من حيث البناء. فنظام "crow" يقدم علاقة
(أخت/أخ) على أنها علاقة (أم/ابن)، لأن هذا النظام القرابي يجسد في جوهره
هيمنة أنثوية في العلاقة المركزية للأخوة. على عكس النظام الاجتماعي
السائد في "Omaha" الذي تتخذ فيه العلاقة الأخوية شكلا معكوسا تحمل في
جوهرها هيمنة ذكورية[1]. المعنى في هذا أن علاقة (أخ/أخت) علاقة مترسخة في
قلب كل المصطلحات القرابية المنظمة لشبكة القرابة بكل المجتمعات، إلا أن
هذه العلاقة تختلف باختلاف العوائد الاجتماعية والأبعاد الرمزية والثقافية
التي تميز كل مجتمع عن الأخر.
هذا الاكتشاف الرئيسي يوضح بشكل مقنع كونية ما أطلقت عليه إغيثيه
"التكافؤ التفاضلي بين الجنسين La valence différentielle des sexes"2.
هذا المفهوم يعتبر ركنا رابع للأركان الثلاثة التي صاغها لفي ستراوس
(الزواج، التقسيم الجنسي للعمل، تحريم الجنس بين المحارم) ويعتبر المادة
اللاصقة والخيط الناظم الذي يضمن استمرار البنيات والمؤسسات الاجتماعية
التي ذكرها لفي ستراوس.
إن الاختلاف حسب إغثيه، مترسخ في الفكر الإنساني إلى درجة أصبح معه
ممارسة التمييز بين الجنسين ضرورة مجتمعية، لأن تمثلات الذكورة والأنوثة
المبنية داخل التعارضات التالية: يسار/يمين، أعلى/أسفل، رطب/جاف،
كبير/صغير. رجال/نساء أصبحت حسب إغتيه آلية لتقسيم المجتمع إلى فئات موجهة
للتفكير في عالم مجنس.
" الاختلاف التفاضلي بين الجنسين" و"الهيمنة الذكورية": تقاطعات وتقاربتإن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، هو ما المغزى النظري من استخدام إعيثيه
لمفهوم "الاختلاف التفاضلي بين الجنسين" كمفهوم مركزي بدلا من
مفهوم"الهيمنة الذكورية" الذي استخدم بشكل شائع في السبعينيات من قبل
الباحثين الأنثروبولوجين والسوسيولوجيين. ولماذا استخدمت مفهوم الهيمنة
ذكورية كمفهوم مرافق Connotation.
أعلنت فرنسواز إغتيه حسب جورج ديبي Duby " 3Georges، من خلال صياغتها
لمفهوم جديد قادر على فهم صياغة الفوارق الاجتماعية بين الرجال والنساء
بدلا من إعادة استعمال مفهوم الهيمنة الذكورية. عن رغبتها في الابتعاد
قليلا عن تقل البراديغم البنيوي، بتحفظها على صعوبة التغيير وتفضيلها
التركيز على خصائص البنى اللاواعية في التحليل، على اعتبار أنها مترسخة في
أدواتنا المفاهيمية والمعرفية. ففي خضم حديثها عن التفكير الاختلافي أبدت
إغثيه نظرة متشائلة (أي أنها جمعت بين التشاؤم والتفاؤل)، الجانب المتفائل
من نظرة إغثية يكمن في حديثها عن إمكانية تجاوز وضعية ألا تكافؤ بين
الجنسين، وفي حديثها عن دور وإمكانية تأثير الفاعلين الاجتماعيين على
تغيير البنية. والجانب المتشائم من نظرتها يتجلى في تشكيكها في إمكانية
تحقيق المساواة وتفكيك التمييز القائم بين الجنسين في المرحلة الراهنة،
نظرا لاستمرار تواجد بنيات اجتماعية قديمة وثابتة4.
أما سبب اعتماد فرنسواز لمفهوم الهيمنة الذكورية إلى جانب مفهومها
(الاختلاف التفاضلي بين الجنسين)، فهو من أجل توضيح الكيفية التي تتم بها
إعادة إنتاج الهوية الذكورية وأيضا من أجل توضيح التمييز الحيفي الذي
تتعرض له النساء في مجتمع يؤول التراتبية دائما لصالح الرجال.
أواصر التقارب والاختلاف بين المفاهيم:إن أول تقارب يمكن الإشارة إليه هنا، هو أن كلا الباحثين ينطلقان من
كون أن الهيمنة تحمل في طياتها تفوقا يؤول دائما لصالح الرجال.كما أن
مفهوم الهيمنة الذكورية يحمل في محاكاته للواقع معالم العنف والقمع
الممارس على النساء. فالفوارق الناتجة عن الهيمنة حسب كلا الباحثين هي
فوارق مبنية اجتماعيا، فهي تقول: "أن الهيمنة الذكورية موجودة ومنغرس في
طقوس رمزية و وهمية عند الذكور والإناث الأطفال، وتعمل بطريق واضحة وكأنها
أمر طبيعي وبديهي في كثير من ثقافات وحضارات مجتمعات عالمنا المعاصر"5.
بينما يقول بورديو أن الهيمنة خاصية كونية متجذرة في لاوعي الأفراد سواء
أكانوا ذكورا أم إناثا، رغم أنها تعلن عن نفسها كمعطى طبيعي، فهي تبقى في
الأصل بناء اجتماعي-تاريخي-ثقافي، تنتجه وتعيد إنتاجه مجموعة من المؤسسات
الاجتماعية6.
التقارب الثاني: هو أن كلا المفهومين، يحملان صيغا اقرارية تقر بشكل
صريح بثقل وقوة البنيات الاجتماعية. فإذا كن قد أشرنا سلفا إلى إقرارية
إغثية بقوة البنية وصعوبة تكسيرها في المرحلة الراهنة، فإن بورديو الذي
يشتغل من داخل "التحليل المادي للاقتصاد السلع رمزي"analyse matérialiste
de l’économie des biens symbolique"7، يقر بثقل النظم الرمزية التي تعطي
الأولوية دائما للمذكر على حساب المؤنث في جميع المجتمعات. فبورديو يرى أن
النظرة "الفالونرجسية" و"الكوسمولوجية الأندرو مركزية" تعمل كأنظمة
ومخططات توجه تصور وفكر وحركة المجتمع8. بمعنى أن الواقع الخفي أو
"اللاشعور البنيوي" لازال يعيد نفسه في المجتمعات الغربية في أشكال
تعبيرية جديدة، لأن التمييز بين الجنسين ليزال حاضرا في الدولة
الموضوعية l’état objectivé وفي كل الأجزاء المجنسة من العالم الاجتماعي
وفي الجسد والطباع9.
يظهر من خلال هذا التحليل بأن بيير بورديو قريب جدا من تعريف النظام
الرمزي الذي اشتغل به ليفي ستراوس، وقريب أيضا من تحليل الذي صاغته
فرنسواز إغيثيه. لذلك فالانتقادات التي وجهت لبورديو في مسألة ثقل وقوة
البنيات الاجتماعية، خصوصا من طرف كاميل لاكوستCamille gardian Lacoste هي
نفس الانتقادات التي وجهت للبنيوية مع ليفي شتراوس الذي اعتبر المجتمع
(نسق ونظام تابت لا يتغير بصورة مباشرة وإنما يلحق التغير ببعض العناصر
التي يتألف منها دون البعض الأخر وذلك بصرف النظر عن ما يربطه هذه البنى
من نظام تضامن البنية الكلية)10.
الانتقادات ركزت على عدم اعتراف بورديو بدور الفاعلين الاجتماعيين في
تغيير البنية التي تجعل من الأفراد مجرد ألعاب بسيطة يتصرفون انطلاقا من
بنيات تتجاوزهم. تقول كاميل لاكوست بأن بورديو أهمل التغيرات والتحولات
التي عرفها مجتمع القبايل باعتماده في دراسته للهيمنة الذكورية
على الإثنوغرافية السابقة "للمجتمع القبايلي" ونخص بالذكر هنا "سوسيولوجيا
الجزائر" 1958 والإجتثات 1964. مما يعني أن بورديو استطاع أن يشرح بوضوح
كيفية إعادة إنتاج أنماط الهيمنة، لكنه لم يفسر بوضوح كيف تتم عملية
الهيمنة الذكورية وما هي الاستراتيجيات الفاعلة التي تنتجها الجهة الفاعلة
للدفاع عن مصالحها الرمزية. إذن نظريته تبدو قادرة على شرح كيف يمكن
للبنية أن تعيد تشكيل نفسها من خلال مجموعة من المؤسسات، دون أن تفسر لنا
الكيفية التي تشكل وتكوين بها البنية نفسها دون أن تتغير.
التقارب الأخير بين كل من فرنسواز وبورديو، يظهر في تحليلهما لحركة
المجتمعات الغربية الحديثة انطلاقا من حركة المجتمعات الشمولية. فكل من
فرنسواز وبورديو خصص حيزا داخل دراسته ليسلط الضوء على الكيفية التي يتشكل
بها اللاوعي القضيبي androcentrique في المجتمعات الشمولية، وذلك لتمكين
القارئ الغربي من موضعة objectiver سمات بنية هذه المجتمعات واعتبارها
شيئا ضروريا يستوجب فهمه واستيعابه لفهم المجتمعات الغربية. وهذا ما حاولت
فرانسواز رصده من خلال دراستها لمجتمع السمو Samo ببوركينافاسو وبقولها أن
هناك بعض الثوابت الفكرية التي تكرس مبدأ دونية النساء في جميع المجتمعات.
انطلاقا مما سبق يمكن القول بأن كل المفاهيم ( الهيمنة الذكورية،
التراتب الهرمي بين الجنسين، التمييز بين الجنسين، التكافؤ التفاضلي بين
الجنسين) التي تؤطر هذا الحقل العلمي هي مفاهيم متعادلة équivalents من
حيث المبنى والمعنى والإجرائية. ويمكن استخدامها بلا مبالاة
indifféremment لأنها تقودنا عند نهاية التحليل إلى نتيجة واحدة على الرغم
من اختلاف مشارب المقاربات النظرية التي صيغت فيها .إلا أن سبب شيوع مفهوم
الهيمنة الذكورية حسب جورج ديباي 11يكمن في البساطة اللغوية لهذا المفهوم
لأنه يفهم على الفور ومن قبل الجميع كما أن هذا المفهوم نال تغطية إعلامية
كبيرة بسبب ردود الفعل التي خلافها لدى الحركات النسائية.