** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الكرخ
فريق العمـــــل *****
الكرخ


عدد الرسائل : 964

الموقع : الكرخ
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب Empty
05062012
مُساهمةنقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب

نقد "أقنعة" الاستبداد



في مشروع الأستاذ الجابري



متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب



عبد الله المعقول



1 – استشكال:


من الواضح –في نظر الأستاذ عبد الله العروي-
أن "وعي الذات –في الإيديولوجيا العربية- إذا كان بالأساس وعيا للغرب، فهو كذلك
وعي للماضي. إن تعريف الذات، بالنسبة للعرب، هو بالدرجة الأولى، تقرير استمرارية التاريخ
القومي" حيث "يلجأ الناس مضطرين إلى الماضي ليؤكد لهم هويتهم، حين تعود الأصالة
مجرد سعي يغذيه الحنين، فتصبح مرادفة للاستمرارية التاريخية: هويتنا هي ما خلفه لنا
أسلافنا"[1].
ليس هذا القول معياريا مشدودا إلى ما ينبغي أن يكون والتحمس له، بل هو وصف لواقع: واقع
بحث العرب عن حصون في الماضي بدافع الإحساس بالفارق الهائل بين تقدم الآخر (= الغرب)
وتأخر الأنا، بدليل أن المثقف العربي، على اختلاف مرجعياته، لم يكف عن طرح السؤال النهضوي
المعروف: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب والمسلمون..؟ وبالتالي "كيف ننهض، كيف
اللحاق بالركب (= الحضارة الحديثة)"[2].
سلطة هذا السؤال نابعة –أساسا- من كونه سؤالا مؤسسا لتيارات الفكر العربي الحديث منذ
القرن التاسع عشر، لذلك لا يصح النظر فيه من دون استشكاله: إنه، إذن، سؤال إشكالي ماكر،
إذا جاز التعبير، من جهة حمله لسلطة الإثبات والنفي على نحو يتم فيه تضخيم الأصل
(= الحل) وإفقار ما سواه بالضرورة: لا شك أن مضمون السؤال المذكور يختزل اتجاهات فكرية
مختلفة، لكنه يحمل القاسم المشترك الموحد على مستوى الموضوع/الهاجس (= الإحساس بالتأخر
وما في معناه) وطريقة التفكير كما يرى بعض الدارسين. لقد مارس عبد الله العروي منذ
وقت مبكر نقدا إيديدولوجيا للإيديولوجيا العربية المعاصرة لأهداف منها: "تمحيص
الدعوات الإصلاحية والإنقاذية"[3]
التي يعج بها العالم العربي على الصعيد الثقافي، فتوصل إلى نتيجة رئيسية (إلى جانب
نتائج أخرى)، من خلال نمذجته الثلاثية المعروفة، مفادها أن النماذج الثلاثة المنتقاة
(= الشيخ –الزعيم السياسي- داعية التقنية) تتعرف على ذاتها وعلى الآخر (= الغرب) بواسطة
مقولات ذهنية فاشلة أو غير مطابقة للواقع، وبالتالي، وبما هي كذلك، فهي عاجزة وغير
مؤهلة لتغييره تغييرا إيجابيا داخل التاريخ المعاصر، وهذا يقتضي –من جملة ما يقتضيه-
وعيا ملائما يعرف كيف يمارس النقد والإنجاز المبدع[4].
هل يعني ذلك أن تصحيح العلاقة مع الذات ومع الآخر مشروط بالنظر إلى هذه العلاقة في
ضوء التاريخ ومن خلال وعي نقدي منفتح على الإنجاز؟ وهل أنتجت الثقافة العربية الحديثة
مواقف تعبر عن هذا التصحيح؟



ينظر المثقف السلفي حواليه، ويشمئز من هول
الانحطاط بالمقارنة مع الآخر (رغم كفره ولائكيته وانحطاطه الأخلاقي وما إلى ذلك في
نظره) فيجعل، بمنطقه الخاص، من مسألة الوجود مسألة روحية وفاء لعقيدته (نتذكر هنا قولة
الأفغاني المشهورة: كل مسلم مريض دواؤه في القرآن)، والمثقف الليبرالي يتمركز، بنوع
من السذاجة الفكرية[5]
حول مبادئ الفكر الأوروبي بدعوى عقم التراث ودعوى ضرورة التجديد، أما المثقف التوفيقي
فلا ينتج إلا خطابا تلفيقيا ترقيعيا قد يقدم على فعل كل شيء ما عدا الحسم الذي يقتضي
–بطبيعته- منظورا تاريخيا. قد تبدو هذه المواقف متباينة سطحا، متوحدة عمقا: تختلف على
صعيد منطوق الخطاب وتتوحد في فهمها (أو تصورها) للتاريخ كزمن خطي محكوم بأصل وغاية،
الأصل المكتمل هو النموذج العربي الإسلامي (بالنسبة للسلفي)، أو النموذج الأوروبي
(بالنسبة لليبرالي…). أو الجمع بينهما (= بالنسبة للتوفيقي)؛ والغاية هي النهوض أو
اليقظة أو التقدم. يصبح "الأصل"، تبعا لذلك، طريق النجاة والنهضة –أو ما
في معناها- هي النجاة بعينها. ربما تحيل سلطة النجاة نفسانيا على ثقل الإحساس بالخوف
(ومشتقاته) من نيران الجحيم (أليس التأخر التاريخي جحيما –على الأقل- في نظر المثقف
الحق!؟) إلى حد يضعف الرقابة العقلية، ليهيمن خوف العقل بدل عقل (= كبح الجماح) الخوف.
ترى أين الإشكال في ما تقدم؟ يكمن الإشكال في غياب "النهضة" (وما في معناها)
كإشكال؛ بسطت أكثر من اللازم فكان الفشل المضاعف: العجز عن تجاوز الذات التاريخية…إلخ،
وعن استيعاب مفهوم "الآخر". لو تم استشكال مفهوم "النهضة" لانتفى
تصور وإمكان إنجازها بمجرد الاحتماء المندفع بـ"أصل" ما. منذ القرن التاسع
عشر رأى زعماء الإصلاح أن تأخر العالم الإسلامي واقع، ولما كان القرآن ما ينفك يدعو
إلى العمل الصالح، ولما كان الواقع لا يرتفع بالنفي، فإنه لا بد من التدخل التأويلي
كما وضح ذلك بطريقة رائعة الأستاذ عبد الله العروي في كتابه مفهوم العقل (وبالضبط من
خلال تحليله لمفارقة محمد عبده)؛ يقول عن الشيخ عبده: إنه يسعى جاهدا إلى "فك
الارتباط في التقرير- السؤال (= لماذا تأخر المسلمون؟)، بين الإسلام والتأخر، وهذا
الهدف هو ما يجعل منه شيخا بالمعنى الاصطلاحي"[6].
لا شك أن الشيخ –على الرغم من اجتهاده وتأويلاته- لا يمكنه أن يقرأ الأصل كتاريخ، بل
يقرأ –انسجاما مع عقيدته- التاريخ كأصل يسد مسد قوانين الصيرورة.



لا شك أن للسياسي سلطته على خطاب دعاة الإصلاح.
رأى بعضهم أن الاستبداد –في تاريخ الإسلام- ليس تهمة فقط، بل واقعا أيضا، فدافع بكل
قوته عن كون الإسلام لم يعرف سلطة دينية (على غرار سلطة الكنيسة في تاريخ أوروبا)[7]
، ورأى البعض الآخر خلاف ذلك، إذ أن التقدم غير مضمون من دون فصل الدين عن الدولة
(= فرح أنطون مثلا)، وهو ما يفتح الباب لاشتغال مفاهيم منها مفهوم "المواطنة".
سقنا هذا النموذج بغرض إبراز هيمنة المنظور السياسي على الفكر العربي[8]
من جهة، وضيق الاهتمام بالثقافي من جهة أخرى، وضرورة التحديث الثقافي (تبعا لذلك)،
من جهة ثالثة، في ساحة الفكر العربي المعاصر.



2 – التحديث الثقافي:


يعترف أنصار مشروع التحديث الثقافي بأزمة
الفكر العربي المعاصر لكونه فكرا غير عقلاني (= الجابري) وغير تاريخي (= العروي)، وبالتالي
غير قادر على تنظيم مواجهة تقطع مع نظام التقليد بكل سلطه. من هنا تشرط النهضة وما
في معناها لا بثورة في المجتمع العربي، بل بثورة في العقل (أو الذهنية) العربي ذاته،
ومن هنا تجرأ عبد الله العروي على القول: "إن مهمة المثقفين العرب الآن ليست بالدرجة
الأولى في الاستيلاء على السلطة، وإنما في السيطرة على المجال الثقافي الذي أهمل منذ
عقود وترك بين أيدي السلفيين، وأن أضمن سبيل للإخفاق السياسي هو إهمال المعركة الإيديولوجية"[9].
لا شك أن هذه القولة لها وجاهتها ومبرراتها، ففضلا عن الاتساع المتزايد للفجوة بين
"الأنا" والغرب، وعن كون التحرر السياسي ليس هو التحرر الإنساني الكامل
(= نتذكر هنا ماركس)، فإن الثورة السياسية ذات الأهداف التقدمية والمنطق الفكري التقليدي
تؤدي، لا محالة، إلى انبعاث القوى التقليدية[10]
وإحيائها لما يجب أن يظل ميتا، وإلى استمرارية أزمة اللاتطابق بين المجتمع والمفهوم
كما وضحها الأستاذ العروي بقوله: "اللامطابقة تشير بالضرورة إلى اللاتكافؤ. المفهوم
المطابق لمجتمعنا (أو للمجتمع الصيني أو اليوناني أو الروماني التقليدي…إلخ) غير مكتمل،
والمفهوم المكتمل المطابق لنمط المجتمع الحديث غير مطابق كليا لمجتمعنا. هذا واقع،
لا يرتفع إلا بعد تحقيق ما نصبو إليه من تقدم ونمو، أي من ابتعاد عن النمط التقليدي"[11]؛
سياسيا يغيب "المجال السياسي" بحضور "القبيلة" وما في معناها،
وثقافيا ينتهك التخريف حرمات العقل، ويهيمن "الثابت" على "المتحول"،
واقتصاديا تغيب العقلنة[12]
والعصرنة بفعل هيمنة اللاعقلنة كما تعكسها قيم الريع والاستهلاك واللاتخطيط (= البذخ-"الكرم"-الترف…إلخ
هذا على مستوى الفرد والدولة…)..



هكذا يستبد التأخر التاريخي بالعالم العربي من كل
ناحية وعلى جميع المستويات. الوعي المنظم بهذه الإشكالية قمين برفعها إلى مستوى
"الحل" النظري الملائم للواقع. ومعناه أن الخطاب العربي مطالب بإنتاج نظرية
نهضوية ملائمة. طرحت النهضة –وهي ترتبط ارتباطا جذريا بمفهوم التغير[13]-
أول ما طرحت كاسم لا كمسمى، كشعار لا كإنجاز، ككلام لا كواقع؛ هكذا تاه الخطاب العربي
في الممكنات، وحار في الظرفيات (لذلك تناساها)؛ إذ ما أجمل التلذذ بالأحلام! وهذه إحدى
"نقائض العقل العربي" كما يسجل الأستاذ الجابري وهو يفكك الخطاب النهضوي
العربي. لقد اختار النقد الإيبستمولوجي (لقد رأينا العروي اختار النقد الإيديولوجي
للإيديولوجيا) لخطاب مشروع النهضة كما تصوره وبشر به رجال الجيل السابق[14]
وغيرهم، ومن النتائج الرئيسية التي انتهى إليها تفكيك الأستاذ الجابري أن الخطاب العربي
المذكور بحكم بنيته، أي معوقاته الداخلية، خطاب فاشل تتمثل عثراته كما يلي: "الخطاب
النهضوي العربي، الخطاب المبشر بـ"النهضة" و"الثورة" و"الأصالة"
و"المعاصرة"… خطاب توفيقي متناقض، محكوم بـ"سلف""[15].
هذه الخصائص (= التوفيقية –التناقض أو غياب البناء العقلاني- الاستلاب أو سلطة الأصل/النموذج)
يتعرف فيها الخطاب العربي على نفسه مهما كانت توجهاته (السلفي-الليبرالي-الماركساوي-التاريخاني…)
المعرفية والإيديولوجية. معنى ذلك أن تحليل الأستاذ الجابري يعيد الكثرة إلى الوحدة،
فنماذج الخطاب تكاد تتوحد على مستوى آليات التفكير، من هنا ضرورة الخطوة المقبلة:
"إن الحاجة تدعو اليوم(…) إلى تدشين "عصر تدوين" جديد تكون نقطة البداية
فيه نقد السلاح.. نقد العقل العربي"[16].
خاتمة –كهذه- مغرية: من جهة أنها تطوي صفحة وتفتح أخرى، تطوي صفحة تحليل بدا منمذجا
مشخصا للداء، وتفتح صفحة مشروع يبدو حفريا منقبا عن الدواء: مشروع نقد العقل العربي..



2-1-مشروع لا بد منه:


قلنا سابقا إن مشروع النهضة –وما في معناها-
ما زال ينتظر التحقيق. معنى ذلك أن الواقع شيء والخطاب النهضوي شيء آخر. هنا تكمن مفارقة
عقل يتلذذ بقراءة الواقع في الحلم (= النهضة-الثورة-المجتمع المدني-حقوق الإنسان…إلخ)؛
فيجنح، خارج الوعي التاريخي، إلى قلب الأزمنة وعدم إدراك مواطن التغير، من هنا لا حرج
إذا صار "البعث" في الشعرية العربية (= البارودي-شوقي…إلخ) تقويضا كليا لعصر
"الانحطاط"[17]
أو نهضة شعرية، وأصبح الشيخ عبده وأمثاله مفكرين نهضويين خارج منطق المفارقات كما وضحه
بدقه عبد الله العروي في كتابه "مفهوم العقل"…إلخ[18].



هكذا إذا صح القول بأن عصر النهضة (ق.
19م) عندنا لم يكن عصر فكر ومساءلة وإنجاز مطابق للإيديولوجيا، فإنه يمكن تمطيط هذا
الحكم بالقول: إن الزمن الثقافي العربي السائد يكاد يكون فارغا، إذ من يجرؤ على القول
–وهو جاد- إن إبستمي الثقافة العربية الحديثة مؤسس على نقد واع ومسؤول للأنا وللآخر
مهما كانت صوره بدافع حب الإنتاج. يمكن التمثيل لذلك بسهولة تامة كما فعل الكثير من
المثقفين المعاصرين. اعتبر أدونيس –مثلا- أن الخطاب القومي فاشل بحكم ارتباطه –دون
فحص عميق لمسبقاته- بأسطورة النهضة[19]
وتقيده البالغ بمقتضى السياسة. أما الخطاب الماركسي –رغم مواجهته للمتعاليات في بعض
صورها- إذ يناضل (على الصعيد العربي) ضد الغيبية والوثوقية والعقدية بواسطة سلطة التمذهب
(= جعل الماركسية عقيدة) والتأليه، يوظف الماركسية، وهي مشروع نقدي[20]،
بما يخالف جوهر الماركسية. هل هذه الصورة مفتعلة؟ أو تعبر عن واقع لا يرتفع بالنفي
وبالحلم أو التمني؟ يتعلق الأمر –عموما- بفكر ممحون يقدم صورة غير صحيحة لواقع استبد
به –وما زال- الركود والجمود على التقليد. هذا هو الجواب الواضح لأقطاب الفكر العربي
المعاصر من أنصار (أو دعاة) التحديث الثقافي (في المغرب) بشكل خاص.



ليست هذه الصورة العامة مصطنعة، بل تعد تعبيرا
أمينا عن واقع فكري لا يخلو من تفاعل المفارقات ونحوها. لذلك لا نستغرب ردود فعل المفكرين
المغاربة المعروفين وهم يشخصون الملابسات والأسباب ويكشفون عن مظاهر الأغاليط الفكرية
التي لم يعد من الممكن السكوت عنها أو توضيحها –مجهريا- دون تقديم البديل المنشود المحمل
بثقل الهم المكتوم، هم فكر رافض لفكر "حالم" لم يعرف كيف ينتج نظرية جديرة
بالمساهمة في تغيير الواقع المرفوض على أحسن حال، من هنا نستطيع فهم نبرة كلام العروي
حين صرح قائلا: "ما كنت لأكتب في الموضوع (= مفهوم العقل) لو عدنا نعني بالعقل
في آن ما نعتقد ونقول، ما نفعل وننجز، كان ذلك حلم زعماء الإصلاح، ولا يزال إلى يومنا
هذا حلما غير محقق"[21]،
يكاد محمد عابد الجابري يشاطر العروي (وأمثاله) الهم نفسه. عقل "النهضة"
-على النحو الذي رأينا سابقا- ضعيف بالنسبة لذاته –أعني أوج عطاء السلف- وبالنسبة للآخر-
مصدر الإحساس بالفارق المذكور، هل كان من الممكن –والحال كذلك- أن يكون وضع "النهضة"
على غير صورة الانحطاط المزدوج!؟ إذا كان الجواب بالنفي، يصبح التساؤل عن مشروعية السؤال
الآتي –الذي طرحه الأستاذ الجابري- غير ذي معنى، والذي عبر عنه، بطريقة استكشافية،
بالصيغة "الماكرة" التالية: "هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل
لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟"[22].



قد يرى القارئ (وهذا حقه) أن السؤال واضح
والحكم عليه بـ"المكر" –المستعمل هنا خارج المعنى القدحي- ملتبس أو في حاجة
إلى بيان لرفع ما قد يبدو عليه من "قلق العبارة". فهم مقبول يتقيد بظاهر
الأمور. بيد أني أرى العكس (باعتباري قارئا). لا شيء أشكل علي، وأنا أقرأ مشروع الأستاذ
الجابري، أكثر من "طبقات" دلالة هذا السؤال/اللغم المنحاز إلى إرادة التحول[23].
لذلك أعتبره (= السؤال) "ماكرا" ليس من المنظور "الأخلاقي المباشر"،
بل من المنظور الفلسفي إذا جاز التعبير؛ إنه يعبر، بمنطوقه ومفهومه، عن موقف فلسفي
يؤسسه الوضوح الغامض: يبدو أن اشتغال الجابري بالفكر الفلسفي (وعليه) محكوم –على صعيد
الأسلوب- بجعل العمق سطحا مفهوما (قد يسمى هذا الأسلوب بالسهل الممتنع) وواضحا، وهو
ما يعكس حسن تمثل المقروء على وفق خياره ومشاغله وقدرة فائقة على تشييد قراءة قوامها
جدلية الهدم والبناء؛ ولا شك أن كل بناء يحمل جدة وطرافة وإضافة. من هنا غموضه وغرابته
والاعتراض عليه[24]
لاعتبارات علمية (= موقف الأستاذ طه عبد الرحمان مثلا…) حينا و"غير علمية (=مغرضة)
حينا آخر (هل يكفي أن يتهم البعض الجابري بالشوفينية لمجرد الإشادة بابن رشد..! لتأسيس
حوار علمي؟!). ولذلك أيضا يعد السؤال المذكور رحم الموقف الفلسفي، وإذا تم النظر إليه
معزولا عن الطرح الفكري الشامل تولد الاعتقاد بوجود طرح متطرف أو بتفكير "عدمي"
يقول بالبناء من عدم، بناء النهضة –لا على أساس- بل من خلال عقل ناهض جديد. هل تظهر
عبارة السؤال غير ما تبطن؟ من تمعن فيها جيدا يستنتج جملة أمور منها:



ـ "العقل" المطلوب هو عقل المراجعة
الشاملة، وليس عقل المحو نقيض فعل الاستفادة والإثبات والتأسيس على أصل ما.



ـ لو كان الثابت المعرفي المتحكم في الطرح
المذكور هو: "الخلق من عدم" لانتفت مشروعية السؤال من أساسها، بحيث لا يعود
هناك مبرر للتساؤل عن ماهية الترابط بين "النهضة" و"العقل". ولكن
ما دام الأمر متعلقا بحضور سلطة المبدأ المعرفي: "لا شيء من لا شيء" في تفكير
الجابري جاز –من جهة أولى- التصديق بالسؤال المذكور، وتقررت –من جهة ثانية- الفائدة
التأسيسية لفرضية ضرورة انتظام النهضة في تراث هو تراثها الذي يعيد إلى الذات[25]
الثقة بقدراتها وبآليات الانخراط من الداخل في صنع التاريخ (= الحداثة والتقدم..) واستحق
الأمر –من جهة ثالثة- مشروع بناء ثقافة عربية حديثة يولي كبير الاهتمام بـ"نقد
العقل العربي" كعمل فكري يدافع بقوة –منذ أوائل الثمانينيات على نحو فعلي- عن
وجوب وضع العقل العربي-الأداة المنتجة للخطاب موضع سؤال لا هوادة فيه.



2-2-النقد حدود وانتقاء:


متى يصير الفكر العربي عقلانيا وديمقراطيا؟
سؤال يحيل على الدافع والغاية من التأليف. وهو يعد مؤسسا لرؤية مشروع "نقد العقل
العربي". إذ يوضح حضور الهاجس الإيديولوجي (يعبر الجابري صراحة عن انحيازه إلى
العقلانية والديمقراطية) يؤكد استحالة الحديث عن القراءة البريئة وعن المعرفة الكاملة
وعن الحقيقة المطلقة، وعن كل ما من شأنه الإيهام بتعالي الذات القارئة عن وجودها التاريخي.
هذه أمور أصبحت اليوم من البديهيات. بيد أن ما يهمنا منها هو القول بأن قراءة الأستاذ
الجابري للعقل العربي لا يمكنها أن تكون إلا منحازة انحيازا ليس مجانيا ما دام محكوما
بالمعقولية والوعي النقدي، الوعي الذي يعي بكامل الوضوح أنه إيديولوجي، إذ أن إنتاج
فهم عن الماضي يصدر عن حاجة (أو حاجات) في الحاضر، وهذا ما لا تصرح به القراءة المزيفة
المقلوبة (= القراءة الإيديولوجية غير الواعية)[26].
لا يشرط الوعي النقدي خيار القراءة (= الذات) بمعزل عن تصورها للآخر، أي للغرب، مما
يجعل من "النسبية" موجها قويا للتفكير في معظم الأحيان؛ لما كان الأمر كذلك
من الضروري أن يختلف خطاب الجابري عن أطروحة العروي، بل يمكن القول إنهما يختلفان في
ما فيه يتفقان: موضوع الاتفاق أن التأخر أي تخلف العرب عن ركب الحضارة الحديثة برمته
تهمة وواقع لا يمكن أن يرتفع من دون تحديث ثقافي شامل يختلفان في أسسه وكيفية تشييده
معرفيا (بشكل خاص). يسعى مشروع الأستاذ العروي المنحاز –صراحة- إلى التاريخانية إلى
تصفية الحساب مع "التراث" وكل مظاهر التأخر التاريخي[27]
بغرض إنتاج حداثة عبر الانخراط الكلي في الفكر الكوني، أي ما يسميه بالمتاح للبشرية
جمعاء. أما استراتيجية الأستاذ الجابري فهي تعتبر أن الحداثة ليست سلعة خاضعة لمنطق
الاستيراد،بل إنها تعد بمثابة كيفية وجود تحتاج إلى تأصيل و"تبيئة". بعبارة
أخرى المفكر فيه هنا هو ضرورة وصل حداثة اليوم (الممكنة) بحداثة التراث. المطلوب إذن
هو الحداثة الموصولة وليس المعزولة، حداثة الانتظام في التراث الأصلي وليس حداثة القطيعة.
يتعلق الأمر، إذن، بفكر يتحرك تأصيليا كلما تحرك نقديا في اللحظة التي يتوخى فيها نقلنا
(بمعنى التحويل) من حالة "كائنات تراثية" إلى حالة "كائنات لها تراث"
تتصل به وتنفصل عنه. مسألة الاتصال والانفصال في هذا الفكر تفيد الاشتغال المسؤول من
خلال "جدول أعمال" ينظم التفكير على وفق مطالب التطور وطبيعة الفضاء التاريخي،
وهو ما يفسر الفكرتين الآتيتين:



أ – فكرة الحدود: يقول السيميائي الإيطالي المشهور أمبرتو إيكو (U.ECO)
"اللانهائي هو الذي لا يملك حدودا"[28]
مبرزا بذلك أن التأويل –المطلوب في نظره- له حدود بالضرورة، أي أنه (= التأويل) ينطلق
من نقطة معينة ويتجه نحو نهاية محددة، وإلا كان متسيبا يهيم في كل واد. لا شك أن مشروع
نقد العقل العربي منذ جزئه الأول "تكوين العقل العربي"(1984) إلى جزئه الأخير
"العقل الأخلاقي العربي"(2001) مرورا بالجزء الثاني "بنية العقل العربي"(1986)
والجزء الثالث "العقل السياسي العربي"(1990) يعتبر مشروعا ضد التسيب الفكري
الذي يطبع الفكر العربي إن على مستوى المنهج أو على مستوى الرؤية: لا يقبل المشروع
المذكور –لكونه نقديا- خطاب "الثابت" الذي يكرس فكرة المصالحة بين الأزمنة
كما لا يقبل أطروحة "المتحول" المتطرف في تحمسه لكل جديد وافد كائنا ما كان.
من هنا لا بد من الاحتكام إلى مقتضيات الوعي التاريخي درءا لكل لبس أو سؤال مزيف. تبعا
لذلك هل يجوز –عندنا- التنظير لما بعد الحداثة في وقت لم نعش فيه عصر الحداثة؟ وهل
من المنطق مجاراة الغربيين وأمثالهم في نقد العلم وهو الغائب عنا؟..إلخ. لا يمكن أن
يجيب ناقد العقل العربي بغير النفي وإلا تاه في "عقل" الممكنات أو ما يبدو
له على أنه من الكماليات.



يترجم الاعتراض على أشباه ونظائر السؤالين
المذكورين على نحو عملي واضح في خطاب الأستاذ الجابري. وعليه نجد وعيا عارفا بما هو
أصلح وأنفع لسؤال لا يمكن أن يكون إلا تاريخيا هادفا، سؤال: ما العمل؟ من هنا نفهم
ارتباط هذا الخطاب بأوج عطاء السلف (أو ما يتصور كذلك) ممثلا في محطات فكرية محددة
مثل الرشدية والخلدونية.. من جهة أولى، ونستطيع –من جهة ثانية- تفسير عدم توظيف محطات
أخرى تفهم في إطار إعادة النظر في "العقلانية" الكلاسيكية مثل النيتشوية
والتفكيكية (دريدا مثلا)…إلخ. هذه مسألة تبدو للقارئ سهلة الرصد والتفسير. وتبقى مشروعيتها
أو عدم مشروعيتها موضوعا آخر.



ب – فكرة الانتقاء: إذا تقرر ما سبق صار
الاعتراض على مسألة الانتقاء غير ذي موضوع. يعد الانتقاء عموما بمثابة معيار كوني،
بمعنى أن الإنسان لا يمكنه أن يقول كل شيء في لحظة يريد فيها أن يقول أمرا بعينه، هذا
بالإضافة إلى كون معرفته (= الإنسان) تظل مشروطة ومتناهية بالضرورة.



ربما كان الانتقاء في مشروع الأستاذ الجابري
وظيفيا خاضعا لمقتضيات الخطة ومتعلقات الهدف (أليس الانحياز إلى "البرهان"
ضد "العرفان" انحيازا إلى العقلانية التي هي بمثابة "أعز ما يطلب"
في العالم العربي…؟إلخ). وهو ما يجعله من قبيل العنصر المبني بجهد مخصوص وليس من قبيل
العنصر المسمى أو الادعاء الباطل. لو كان الأمر عكس ذلك لما كان انتقاء منتجا أسهم
من خلال إضافات واضحة في تجديد النظر إلى "خارطة" التراث العربي الإسلامي
وكتابة تاريخه من جديد، وأثار أسئلة النقد وفضوله –في المشرق والمغرب- إن اعتبارا به
أو تطويرا له (وهذا ما يستجيب لحب الإنتاج بدل التلذذ بالنقد..) أو اعتراضا عليه أو
كشفا لحدوده. ولا شك أن "الحدود" من صميم الحياة؛ وحده الموت متطاول لا حدود
له في هذا الإطار.



بين فكرة الحدود –بهذا المعنى- وفكرة النسبية
شجرة نسب لا تنكر. لا يرفض ذلك إلا داعية المطلق. يجب هنا ألا ننسى مسألة المرجع أو
المتاح الفكري للبشر، لكي نتجنب التعسف والإسقاط. لقد وعى ابن رشد (520هـ-595هـ) أهمية
رؤية الحدود وهو يفكر في العلاقة بين الدين والفلسفة، أي بين الشريعة والحكمة. لكل
منهما مجاله. لذلك يقول –لا بالتوفيق بينهما- بل بالفصل على أساس عدم التعارض. هكذا
قال ابن رشد قولته المشهورة في كتابه فصل المقال: "الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت
الرضيعة(…) وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة"[29].
مصدر الاثنين واحد هو "الحق"، وغرضهما أيضا واحد: الفضيلة. لكن الفصل بينهما
يقتضيه الاختلاف في المجال والمنهج أو المسلك. هذه أمور تعد مثار خلاف ونقاش بين المختصين.
بيد أن ما يهمنا من الالتفات –هنا- إلى هذا الفيلسوف الكبير هو الوصول إلى طرح التساؤل
الآتي: ما المانع من إبراز "حداثة" الرشدية بالمقارنة مع أقرانها ومعاصريها
وكثير من المحسوبين على الفكر في أيامنا؟ وبالمقابل هل وعي فيلسوف قرطبة للحدود يسمح
بجعله من "أتباع" أو مجايلي "إنشتاين" قبل إنشتاين!؟. لنعد إلى
المقصود في هذا المقال. هل خرجنا عن الموضوع. يكون الأمر كذلك لو كان قصدنا إظهار شيء
آخر غير الاحتكام إلى الوعي التاريخي باعتباره ضرورة قصوى. إذ لا يعي التغير من تأطر
فكره بالمطلقات. من هنا يمكننا القول دون حرج: يستحيل أن ينهض الموقف الفلسفي لخطاب
"نقد العقل العربي" خارج هذا السياق: لا بد من خلخلة سلطة "المطلق"
وربما إذا جاز (بتعبير الجابري نفسه) وصف هذا الموقف من خلال أحد منجزاته قلنا: إنه
موقف ضد الاستبداد –على طول الخط- بجميع رموزه وصوره؛ الفلسفة في أصلها كفاح؛ منذ كانت
ورجالاتها –الذين أصابتهم محنة النضال- يعملون من أجل تحرير الإنسان (نيتشه-ماركس-اسبينوزا-فرويد…إلخ)
بغرض جعله قيمة وذا قيمة. أسهم المفكرون العرب والمسلمون –بهذا القدر أو ذاك- في العمل
على تحقيق "حرية الإنسان" كإنسان، وذلك بمحاولة بعضهم فضح ترويض الإنسان
بجعله موضوعا بلا ذات، أو "وجودا" من دون حرية أو قيمة.



تحرير الإنسان –على صعيد الثقافة- يقود إلى
تعرية طبائع الاستبداد المتسلط على النفوس والأبدان، وربما العكس صحيح. ذلك –في اعتقادنا-
هو البعد الفلسفي الذي يؤطر مشروع الأستاذ الجابري، المشروع الذي يتخذ من "المقاومة"
هدفا له.



2-3-الداخل والخارج:


قد يكون كل ما ذكر سابقا مرتبطا أكثر بالحياة
(= العلاقات) الخارجية للمشروع الضخم: نقد العقل العربي. ومعناه أن التفكير لا يتم
إلا من خلال "ثقافة". هذه مسألة تكاد تكون بديهية[30].
ما يهم موضوعنا هنا هو ما يمكن تسميته بالحياة الداخلية للمشروع. الحياة التي من مظاهرها
التكامل والانسجام وعدم التناقض، من هنا يسهل إدراك خيوط الإحالة الداخلية في فكر الجابري
بشكل عام. من يعتبر هذا الأمر تافها لا يرى مبررا للوقوف على مواطن التدرج والترتيب
وإحالة اللاحق من المؤلفات على السابق منها، وبالتالي تصبح مسألة العطاء لا وزن لها.
عكس ذلك يبدو لنا أن استمرارية العمل الفكري هامة في حد ذاتها بالنظر إلى الواقع الصعب
الذي "لا يكبر في أرجائه غير الكفن" بعبارة شعرية بليغة لأدونيس. لتوضح مسألة
الاستمرارية بالملموس ودون إطناب: يتعلق المؤلف الأخير من سلسلة "نقد العقل العربي"
بجهد يسد فراغا موجودا في المكتبة العربية. إنه كتاب "العقل الأخلاقي العربي"[31]
الذي يدشن النظر في الفكر الأخلاقي عند العرب كما عكسته نظم القيم. موضوع الكتاب، إذن،
هو العقل العملي (حسب اصطلاح الفلاسفة) أي العقل المدني (حسب اصطلاح القدماء الجزء
الأول من العقل المدني يتعلق بالأخلاق (= تدبير النفس)، وجزؤه الثاني يتعلق بالسياسة(
+تدبير المدينة))؛ هنا السياسة "فرع من علم الأخلاق أو تتويج له، وبالتالي فالموضوع
هو: كيف كان العرب (وبالأخص المفكرون) يرون أن تمارس السياسة لتحقق الهدف الأخلاقي
الإنساني المطلوب منها، وهو السعادة والخير للجميع؟ الكلمة هنا، إذن، لحكم القيمة"(ع-خ،
20). أما موضوع كتاب العقل السياسي العربي فتمثل في السياسة كما وقعت بالفعل وما تعلق
بها من محددات وتجليات. يلاحظ –ببساطة تامة- أن العلاقة بين الموضوعين هنا ليست علاقة
عموم بخصوص تعين تفصيل اللاحق للمجمل في السابق، وليست علاقة احتواء تفيد أهمية المحتوى
(= الأول) ودونية المحتوى (=الثاني) أو العكس، كما أنها –أيضا- ليست علاقة تضمن يصير
بموجبها "العقل السياسي" أصلا متضمنا لما سواه سواء كان أخلاقيا أو معرفيا
مجردا (= تكوين العقل العربي –بنية العقل العربي). وحدها علاقة الإضافة والإنتاج قائمة
هنا. وهو ما يدمر البناء الخطي ويرسي البناء الحلزوني (= يستلزم مقتضيات منهجية معينة)
القائم على الإغناء والتعميق والإنتاج التفاعلي الداخلي والخارجي. ومعنى ذلك:



ـ من جهة أولى حضور عنصر "الهندسة"
في التأليف كما سنوضح لاحقا.



ـ من جهة ثانية أن مشروع نقد العقل العربي
لا يحتويه جزء واحد من الأجزاء الأربعة المنجزة فيه بحيث يسد موضوع الواحد منها مسد
مواضيع غيره، بل إن لكل عمل أهميته الخاصة بالنظر إلى قيمته اللازمة (= الداخلية) أو
المتعدية (= رد فعل القارئ).



يلاحظ أن العقل الأخلاقي جاء "كخاتمة"
لسلسلته المشروع المذكور. وهذا ينسجم مع بعض تقاليد التأليف الفلسفي. يصرح المؤلف بذلك
قائلا: "التأليف الفلسفي قد كان ينتهي دائما بالبحث في الأخلاق(…) من أرسطو إلى
ديكارت (الذي وضع لنفسه أخلاقا مؤقتة في انتظار كتابة أخلاق دائمة ولم يكتبها)"
وكانط (كتب في العقل المجرد والعقل العملي) وسارتر (الذي حاول أيضا أن يتوج عمله الفلسفي
بالكتابة في الأخلاق)[32].
معروف أن تقاليد التأليف شيء، وماهية موضوع كائنا ما كان شيء آخر. تأسيسا على ذلك لا
تنتفي أهمية مبحث الأخلاق حتى وإن أخر الاشتغال عليه، بل يمكن القول في سياق موضوعنا
بأنه تجوز قراءة العقل الأخلاقي باعتباره مقدمة لنقد العقل العربي، وذلك بالنظر إلى
كون سؤال: كيف ينبغي أن أعمل وما يتفرع عنه (موضوع الأخلاق) ملازما لسؤال كيف ينبغي
أن أفكر، وكيف يجب أن يكون تكوين العقل.. والخطاب العربي المعاصر ليتم التفكير الملائم
لأسئلة الواقع وآفاق تغييره. غامرنا بطرح هذه الفرضية دون استدلال (في هذا الوقت) بغرض
الدعوة إلى قراءة مشروع المؤلف من الداخل دون تعسف أولا، وإلى العمل على تأريخ أعماله
ثانيا، وإلى التأسيس على هذا المشروع بمعرفة "حياته" وحسناته وعثراته ثالثا،
وإلى الاهتمام بقيمة "العقل الأخلاقي" رابعا، وإلى أن المؤلف لا يخطط لمساره
منذ "البدء" خامسا؛ وهذا ما صرح به (الجابري) مرارا[33].
لو حصل العكس لكان صاحب مشروع نقدي داعية مؤطرا بمنطق الربح والخسارة، أو صاحب
"تكتيك" سياسي تستهويه المصلحة الخاصة فينفعها وينتفع بها. لكن ثمرة العمل
الفكري الشاق المتواصل، في هذا الباب، أساسها جمرة الاكتواء بالسؤال الفلسفي. ولا شك
أن عشاق الفلسفة أبدا عطاش إلى ماء المعنى، وما الحفر يرويهم والأغوار باستمرار يفتح
بعضها بعضا. الفرضية السابقة تحتاج في نظرنا إلى تأمل يسترشد بما يمكن تسميته
"بالتناص الداخلي". لا تهمنا هنا نظريات التناص
L’intertextualité.
فقط ندعو إلى الانتباه إلى ذلك الترابط الفكري بين مؤلفات الجابري عبر منظور جديد.
يقول بارث: "ولا بد من إدراج النصوص اللاحقة فيما يسمى بتناص النصوص: فمصادر نص
من النصوص لا توجد سابقة عليه فحسب، بل لاحقة به كذلك"[34].



الاسترشاد بمفهوم التناص على هذا النحو يستحيل
قيامه خارج تدمير مفهوم السلطة التقليدي. وهذا موضوع آخر يتطلب استحضار فوكو ودولوز
وأمثالهما. نكتفي هنا بالقول إن قولة بارث تسهم في نفي العلاقة السلطوية الآلية للتناص:



(يؤثر في)


نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب Image001 سابق لاحق (= نص)،


وفي إثبات العلاقة التفاعلية كما تتجلى في الشكل
الآتي:



نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب Image002نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب Image003 نص لاحق نص سابق (لا أهمية هنا للمواقع).


العلاقة الأخيرة قد تبدو غريبة (وبخاصة في
النصوص غير الأدبية)، ولكنها مع ذلك تحث على إعمال نظر جديد في التأريخ والتأويل (ليس
هنا مجال التمثيل لها)، وتدعو إلى الانتباه إلى الحوار الداخلي وروابطه عوض الاهتمام
بالحوار الخارجي الصريح أو الضمني[35]
وتحميله ما لا يطيق، كأن يتم تغليب النسق الثقافي (وهناك أنساق أخرى تاريخية وعلمية…إلخ)
أي "الما سلف" الثقافي[36]
–بتعبير بارث- على الخطاب الذي يفقد –من جراء ذلك- أصالته وأهميته.



3 – من أجل فضح "الاستبداد" المقنع.


"الموقف المؤسس لمشروع الأستاذ الجابري
ضد الاستبداد –على طول الخط- بجميع رموزه وصوره". حكم أطلقناه –سابقا- من دون
استدلال. قد يعتبره البعض دعوى باطلة أو تعميما مغرضا (ربما أصبح التلذذ بالنقد في
عصرنا "موضة"!) لاعتبارات منها –مثلا- أن المفكر المذكور لم يفكر بشكل مباشر
في "طبائع الاستبداد" (= نتذكر هنا الكواكبي)، ولم ينخرط بقوة في كشف مساوئه
(نتذكر هنا روح القوانين لمونتسكيو) انخراطا واضحا، وهو ما يعتبر –في منظورنا- موقفا
يفتقد الصواب ويحرص على أن يرى التشابه أكثر من الاختلاف، لذلك لا يمكنه أن يكون إلا
ضعيف النظر بتعبير نيتشه[37].
من هنا ندعو –بالمناسبة- إلى قراءة المشاريع الفكرية العربية قراءة "عاشقة"
تصبو إلى التأويل المنضبط المنتج في ضوء البحث عن حقيقة تظل باستمرار هاربة. لو فكر
الجابري في "الاستبداد" كعنصر مباشر في السياسة أو الحكم وكفى، لنسف مشروعه
من الأساس. إذ لا يمكن أن يشتغل فكر الجابري خارج "قانون" العلاقة. ربما
من يقرأه بإمعان يكتشف أن قوله بالانفصال لا يتأتى إلا بعد الوقوف على الاتصال. هل
يعني ذلك أن الانفصال تعالق؟ (الانفصال عن التراث بالانتظام في أحسن محطاته –الانفصال
عن العرفان بالتعالق مع البرهان المتصالح مع البيان- الانفصال عن "العلمانية"
كتعبير والاتصال بها –بدرجة أو بأخرى- من خلال العقلانية والديمقراطية…إلخ). كل خطاب
يتأطر بذلك لا بد أن يدرك خديعة السطح أو الظاهر. ويبحث عن العمق بغرض جعله سطحا. وهكذا
تنهض حيوية إدراك الخيوط الخفية بين الأشياء والظواهر والقضايا. لا يمكن أن يكون
"الاستبداد" هنا مجرد عنصر قوي منعزل هناك، واضح هناك.. إنه "لعبة"
بنية، إنه –بعبارة أخرى- واقع، والواقع –بالضرورة- مسرح الكثرة، فهو ليس سياسة فقط،
أو ثقافة فقط، أو سلوكات وأعمالا فقط…، بل هو كل ذلك وزيادة. يقول فوكو: "ليس
للسلطة جوهر، بل هي إجرائية، ليست عرضا، بل إنها علاقة: وعلاقة السلطة هي مجموع علاقات
القوى التي لا تخترق القوى الغالبة أكثر من اختراقها للقوى المغلوبة"[38].
السلطة بهذا المعنى وظيفة تمارس في إطار علاقة تقتضي مجموعة أطراف، أي تقتضي لغة الحياة،
أي لغة "الصراع" والاحتكاك بدل لغة الحق. الاستبداد بهذا المعنى هو سلطة
تضافر السلط. لتوضيح ذلك نكتفي بالإشارة إلى أن الاستبداد مأخوذ بالمصالح وبالمآرب،
أي بكل ما يضمن حياته[39]،
من هنا يغيب الإنسان كإنسان، ويستهدف تأطير الحياة بما يكرس له الحياة ولكن بطريقة
"مراوغة" خادعة تغلف لغة الحياة (= المصلحة/حب التسلط..) بلغة الحق [- المعرفة
–القيم الأخلاقية- التظاهر بخدمة الفضيلة الدينية…إلخ – الترويج الممنهج للشعارات الخلابة
(= حقوق الإنسان – مصالح الرعايا…إلخ)] بتعبير دولوزي. هل نستنتج –تبعا لذلك- أن
"المظاهر" و"الأقنعة" من مقومات الاستبداد الجوهرية؟ أو أنه يستطيع
تأطير غليان الواقع
نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب Image004نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب Image005واحتكاك السلط [ = الأعلى الأسفل ] من دونها أو بعيدا عن "سلطتها"؟


كيف الوصول إلى تحقيق الحياة التي يستحقها
الإنسان العربي؟ ربما هذا هو السؤال المركزي الذي يحكم فكر الأستاذ الجابري برمته.
وهو إذ يحيل على المستقبل يدرك تمام الإدراك أن الإنسان العربي لا يمتلك قيمة حياته
ولا يعيشها. وعيه بذلك هو الطريق السليم إلى التحول والتحرر. لكن هل يمكن ذلك بغير
تربية وثقافة؟ لا شك أنه من المستحيل نفي الاستبداد وتقويضه بعقل الاستبداد. أدرك الأستاذ
الجابري –عبر وعيه النقدي- أن الاستبداد منظومة علاقات، لذلك يجب على الخطاب الواصف
والكاشف والمحلل أن يكون علاقيا، وأن يفطن إلى تعدد المستويات وعلاقاتها المعقدة: المعرفي،
والسياسي، والديني، والأخلاقي…إلخ. في إطار سلطوي تؤسسه مجموعة من الأفعال والمحددات
الظاهرة أو الخفية مثل: العنف والإقصاء والتكفير والتمويه والتشريع (النظام معين)…
إلخ. هل نضيف شيئا جديدا إذا قلنا إن "نقد العقل العربي" وضع على رأس مهامه
تعرية الأسس المعرفية والإيديولوجية والأخلاقية لمثل هذه "الأفعال" والقضايا؟



تجنبا للإطالة سنكتفي بتوضيح ذلك بإيجاز
شديد من خلال ما يلي:



3-1-الاستبداد سلط:


لا شك أن الاستبداد واحد بالتعريف متعدد
بالصور. هو في جميع الأحوال تسلط، لكنه –لكونه يتكلم لغة الحياة كما رأينا- لا يتسلط
على الأبدان والنفوس والعقول بالطريقة نفسها، وإنما يتجلى بأشكال مختلفة وفي جبهات
متعددة عبر ألاعيب خادعة تموه على "السلطة المقاومة" [أو التي يفترض أن تكون
كذلك ] وذلك وفق استراتيجية "النفاق"، أو على الأصح إخفاء النفاق. هنا يتم
توظيف ما هو "إنساني" ضد الإنسان، أي يتم استخدام الأخلاق –مثلا- ضد الأخلاق:
يلجأ المستبد إلى المطلق (= مثلا أكذوبة خليفة الله في أرضه إبان العصر العباسي…إلخ)
وإلى القيم الأخلاقية (=الخير – العدل – الشر – التقوى – المساواة…إلخ) ليحتمي بها
ويروج لها باعتبارها وسيلة وليست غاية، وسيلة إلى توحيد الجماعة وتأطير المخيال على
نحو يجعله (=المخيال الخاص بالفرد والجماعة) محكوما، شعوريا أو لا شعوريا، بأسطورة
المستبد العادل ونحوها. لماذا يغيب الوعي بالتناقض هنا؟!



من هذه النقطة وغيرها يصبح الخيار الفكري
لمشروع "نقد العقل العربي" كامل المصداقية والمشروعية و"الراهنية".
عندما يتدخل النقد الإبستمولوجي بغرض تعرية الأسس المعرفية والإيديولوجية للخطاب التراثي
(الممتد بالضرورة في الحاضر حسب منظور الجابري) فإنه يبرهن على محدوديته وتاريخيته
وبالتالي يخلخل سلطته[40].
واضح أن النقد المذكور يركز على التشكيلات المعرفية، يكشف أبنيتها وغطاءاتها وحدودها
لنقلها من صورة المتعالي إلى صورة التاريخي، من المطلق إلى النسبي، من السيادة إلى
العبودية: حيث يصبح العقل سلطة مرجعية يتحكم في المعرفة بحسن توظيفها بعد تمحيصها والوعي
بنسبيتها. من هنا نستطيع القول: إن استراتيجية الجابري الفكرية المعروفة بـ:
"التجديد من الداخل" تكبير مركب للسلطة: لسلطة التراث (= الوعي التراثي للتراث)
ولسلطة الآخر (= نموذجيته غير النسبية) ولسلطة الذات العربية (= "عقل" التناقض
والأحلام واللاستقرار المعرفي والإيديولوجي…). هل يمكن أن يضطلع عقل مستبد، عقل غير
عقلاني وغير ديمقراطي، بهذا الدور المشدود إلى البناء، بناء الحداثة والنهضة والتقدم؟
متى تحقق ذلك فقدت آلهة الأرض[41]،
أي آلهة الفكر والسياسة والاقتصاد…إلخ، قدرتها على الصمود. قد يرى البعض هنا أن مشروع
الجابري لا يفضح –بطريقة مباشرة تشبه الخطب المعروفة- صور الاستبداد هاته. بالمقابل
يبدو لنا أن العبرة ليست –هنا- بالموضوع أو الصورة، بل بالهدف والمسلك. يسائل خطاب
مفكرنا أحد أشد معاقل الاستبداد تحصنا وفاعلية (من أدوارها ترويض النفوس وتدجين العقول)،
معقل المعرفة والقيم الأخلاقية. ألم يكن الاستبداد خلف تكريس إيديولوجيا (أو عقيدة)
الجبر في العصر الأموي –على سبيل المثال لا الحصر- وذلك بأن وظف الأمويون الدين [=
الحديث النبوي والآيات التي يفهم من ظاهرها الجبر (= الإنسان مجبر على الإتيان بأفعاله
] لصالح قضيتهم وسلطتهم، ولصالح رفعهم إلى مقام الأنبياء وإعفائهم من العقاب؟![42].



ربما يدرك الأستاذ الجابري جيدا أن الاستبداد
بنية معقدة، فلا يمكن الكشف عنه بعقل غير مبني، عقل لم يعرف كيف يرتب أوراقه وينظم
معارفه ومواقعه وخطوط المواجهة، لذلك يبدو لنا أن قيمة البناء من أهم منجزات المشروع
المذكور؛ من هنا يمكن اعتبار الجابري "مهندس" العقل العربي بامتياز. فكرة
الهندسة هنا معناها فن الترتيب والتنظيم، تنظيم تراث هو أشبه بمعرض واسع الأرجاء كثير
النوافذ والأبواب متعدد الأزياء. هل يتم بناء من دون تنظيم؟! لقيمة البناء هنا تجليات
منها:



أ – عدم ادعاء الابتكار (= المطلق): يقول
الجابري: "القدماء لم يكونوا يدعون الابتكار، إنما المبدع منهم من يتجاوز النقل
والتجميع إلى إعادة التصنيف"[43].
حقيقة هذه القولة لها أشباه ونظائر في الثقافة العربية الإسلامية. تحدث نقاد الشعر
القدامى –بإسهاب- عن السرقات الشعرية باعتبارها بابا متسعا قال عنه ابن رشيق:
"لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعي السلامة منه"[44].
هل يدل ذلك على أن باب الإبداع ضيق؟ أو على أن مجاراة العمالقة تقتضي الوقوف على أكتافهم
والإنصات إليهم؟ أو على أن المعرفة الأولى لا توجد مثلها مثل الكلام الأول؟ أو على
أن قمة المعرفة قمة التواضع؟ ثم هل يعني ذلك استحالة الخلق من عدم؟ ربما يفيد كل ذلك
أن "الحداثة" صيرورة بناء. معه يتم اعتبار أن "طموحات واجتهادات شبابنا
ستفرز بدون شك "الجديد اللاحق" الذي يضع "الجديد السابق" في مكانه
من التاريخ"[45]
بحيث لا يبقى مجال لاستبداد فكر السلف بفكر الخلف، ولسلطة الحقيقة المطلقة…إلخ.



ب – منهجية الإنتاج: الإنتاج يتم دوما من
خلال واسطة أو مرجعية فكرية أو ما في معنى ذلك. تبعا لذلك يصبح المفكر مطالبا بالاستقلالية
المعرفية وإلا انتفت صلاحية التفكير وجدواه. لا يحضر الإنتاج إلا بغياب التقليد. وما
الإنتاج بممكن خارج المعرفة النقدية المنهجية. إذ يستحيل بناء الحداثة العربية بعقل
غير مبني بناء حداثيا. نتذكر هنا قولة مونتين
Montaigne
المشهورة: إن الرأس المكون تكوينا جيدا (
tête
bien faite
) أفضل من "الرأس الممتلئ"
(جيدا)[46].



من خلال عدة منهجية مرنة يسعى المشروع النقدي
المذكور إلى تكوين العقل العربي تكوينا جديدا (أو تجديديا) قادرا، -لا على استهلاك
المعرفة، بل على إنتاجها. ولا شك أن انبناء آليات هذا الإنتاج تستوجب، منهجيا، الفصل
والوصل، التحليل والتركيب[url=http://www.aljabriab
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

نقد "أقنعة" الاستبداد في مشروع الأستاذ الجابري متابعة لمشاريع التأليف الفلسفي بالمغرب

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» محمد عابد الجابري : تجديد التفكير في مشروع سابق للتصحيح والتجديد
» الحريف: مشروع الدستور الجديد يكرس الاستبداد
» متابعة كتاب "الثورة العربية وارادة الحياة، قراءة فلسفية" لزهير الخويلدي
» من المنطق إلى الحجاج حوار مع الأستاذ أبو بكر العزاوي
» أقنعة الفيس بوك

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: