بن كيران في سلة الأفاعي


















الاثنين 23 أبريل 2012 - 01:03



"بذا قضت الأيام مابين أهلها مصائب قوم عند قوم فوائد" شاعر عربي

بين غضبتين.. كان التاريخ كفيلا لرجل بحجم عبد الرحمن اليوسفي أن يبني جزءا من مجده السياسي ويدفنه بيده في اللحظة الثانية.

في الغضبة الأولى ضرب اليوسفي على الطاولة، بعد تزوير الانتخابات غير
المباشرة في 17 شتنبر 1993، احتجاجا على رفاقه في الاتحاد الاشتراكي وعلى
الحسن الثاني الذي لم يف بتعاقداته.. غضبة اليوسفي كان لها صدى واسع بحكم
فورة ذلك الزمان.. تأسيس الكتلة الديموقراطية، رفض عرضين للتناوب بعد حرب
الخليج الثانية والتقارب الكبير الذي وقع بين حليفي الحركة الوطنية.. أقصد
الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال.

رحل اليوسفي إلى "كان" وبنى مجدا سياسيا أثرى رمزيته الوطنية، لذلك رأى
فيه الحسن الثاني مخرجا من السكتة القلبية في 1996، فجاء إلى المغرب كقائد
وطني اجتمعت حوله الآمال، لكنه ما أن عُين على حكومة التناوب التوافقي عام
1998، حتى بدد كل رصيده في حوادث صغيرة في منعطف كبير للتاريخ، وتحولت
أحلام الخلاص لدى المغاربة مع الاشتراكي الأول إلى إحباطات مخيفة وأصبح
المغاربة في وضع المستجير من صهد نار المخزن إلى رمداء حكومة التناوب.

بعدها تحول حزب الاتحاد الاشتراكي إلى مجرد أسطورة.. نمر من ورق،
وفشل اليوسفي في القدرة على صيانة أحلام المغاربة.. اتسع الفقر، وظل
الهامش غارقا في وحل الحاجة والخصاص المتزايد، مُنعت جرائد دفعة واحدة، ولم
يحس اليوسفي بأنه يبدد تاريخه الرمزي في سلة الأفاعي داخل الحزب وداخل
الدولة معا، ولم تكن غضبته الشهيرة في خطابه
التاريخي ببروكسيل عام 2003 الذي ركز على الازدواجية بين سلطة الدولة
وسلطة الحكومة، إلا بمثابة زئير الأسد الجريح في خريف العمر.

أتذكر في هذا الزمن جيدا كيف أحس اليوسفي بالخذلان، وحين منعت السلطة
السياسية ثلاث جرائد دفعة واحدة، هي: الصحيفة، لوجورنال ودومان في دجنبر
2001 بسبب نشر مذكرات الفقيه البصري، تكفل المستشار الملكي أندري أزولاي
بإخباره بالأمر وهو رئيس السلطة التنفيذية، نزلت على رأسه كل المطارق في
الداخل كما في الخارج. أحس الرجل بالعزلة، لذلك حينما أرسل الملك محمد
السادس رسالة دعم للوزير الأول، يؤكد فيها العاهل المغربي على دعمه لعبد
الرحمن اليوسفي، الذي خاطبه بـ "أخينا وصديقنا"...حمل هذا الخبر (المفرح)
مستشار للوزير الأول وعلق أن اليوسفي أصبح صديقا للملك، فرد الوزير الأول
بحسرة: "بعد أن فقدت أصدقاء كثيرين!"

أستحضر هذا التاريخ للعبرة فقط، وأخشى على بن كيران أن يكسب صداقة
السلطة السياسية ويُضيع أصدقاء كثيرين.. عليه ألا يستفيد فقط من كتاب
"كليلة ودمنة" كما نصحه المؤرخ محمد التازي، بل عليه أن يهضم جيدا ما ورد
في كتاب "الاستقصا" لمحمد الناصري، وأن يستوعب جيدا دروس الأستاذ المبجل:
التاريخ.. منذ القرن 19 مع الحسن الأول إلى كبوة الحداثة في نهاية القرن
الماضي.

إن السياسة هي المجال الحيوي لسوء النية، لأن السلطة، ذلك الكائن
الغريزي فينا منذ بدء الخليقة، مصنوعة من خليط عجيب لحليب المكر وعسل
الدهاء وتوابل الدسائس. ولا يكفي إشهار النيات الحسنة المفروش بها طريق
الجحيم.. فالكثير من الإشارات التي تنبعث من هنا وهناك تدل على محاولة
إجهاض تجربة الحكومة الملتحية في المهد، ويساهم غياب الخبرة والسذاجة
السياسية أحيانا لبعض وزراء حكومة بن كيران في منح العديد من الأوراق
الرابحة للقوى المناهضة للتغيير..
فعلى خلاف تجربة عبد الرحمن اليوسفي فإن الحكومة الحالية ملغومة من
الداخل، لذا على بن كيران ربط ما يكفي من أحزمة السلامة لمواجهة ارتجاجات
الطريق والفخاخ المنصوبة له هنا وهناك..

وعليه أن يكف عن اعتبار نفسه رئيس حزب سياسي، ويلتقط الإشارات كرجل
دولة ببعد استراتيجي، وأن يكف عن إبراز حسن النية، لأنه غداً سيحاسب من طرف
المغاربة على ما قدمه لهم... وإذا كانت تجربة مائة يوم غير كافية للحكم
على أداء حكومة بن كيران، فإننا نخشى على رئيسها أن يعيد تكرار تجربة
اليوسفي، الذي تحدث كثيراً عن إشارات حسن النية، فوجد نفسه كمن يبيت مع
الحية، وعلى بن كيران أن يكون في وضع المؤمن الذي لا يُلْدَغ من ذات الجحر
مرتين!