مرسيل المتعدّد...
الكاتب جورج مهنا |
|
|
في حفل تكريم لمرسيل خليفة أقامته " الحركة الثقافية – انطلياس" قدّم جورج مهنا إلى مرسيل خليفة كلمة ضمَّت تحيات لفنون مرسيل، جاء فيها :
... نحيّي، أوَلاً، التقاء الأصالة والتجديد في موسيقى
أغنيات خليفه وغنائيّاته. من "ريتا" و"جفرا" و"أمّي" و"جواز السفر" إلّى
"قالوا مشت" و "مرّ القطار" و "أمرّ باسمِكِ". بالطبع، لن أنبريَ الآن
لدراسة أكاديميّة محترفة لهذه الموسيقى، إنّما سأسلّط الضوء على أمرين:
الأمر الأوّل هو أنّ مرسيل خليفة ليس ملحّناً، بل مؤلّف موسيقى أغنية. توضيحٌ سريع: هناك ثلاثة خياراتٍ أساسيّة في تعاطي الموسيقى مع النص، تماماً كما السينمائيّ مع الرواية المُزمع نقلُها إلى الشاشة.
إمّا أن يلحِّن، أي أن "يُقلّد" أو أن "ينقل" بالموسيقى وبأمانة ما يقوله النصsystème) analogique)، فيقلِّدُ الصوتُ والآلاتُ تغريدَ عصفورٍ أو أنة معذَبٍ وَلْهان، ويُسنَدُ للناي في التوزيع مرافقةُ تعبير "غنجة النايات" أو "منجيرة الراعي" ألخ... وهذا ما لم يفعله خليفة حتّى في زمن البدايات.
وإمّا أن يخلق بين الموسيقى والنص المختار علاقةً جدليّة فيها
تواصل، تساؤل، محاورة، مداورة، توزيعُ أدوارٍ وتواطؤٌ جميل، بحيث لا يعودُ
هناك نصٌّ وموسيقى، بل تأليفٌ متناغمٌ متكامل من نصٍّ وموسيقى معاً...
وهذا ما سعى إليه وحقَقه مرسيل في تعاطيه
مع أكثر النصوص التي اختارها والتي تتيح هذا النوع من التعاطي، كقصائد
محمود درويش وأدونيس وشوقي بزيع وطلال حيدر وأنسي الحاج وغيرِهم.
وإمّا (النمط الثالث) أنْ يستعملَ الموسيقيُّ النصَّ ليقول شيئاً جديداً، ربّما أمتن، أشمل، أكبر، أعمق... وهذه هي الحال في موسيقى مرسيل لدى تناوله كلماتٍ تراثيّة بسيطة، كـ "الحنّة" مثلاً، ليؤلّف موسيقى تتخطّى بساطة الكلمات وعفويّتها.
الأمر الثاني الذي سأسلّط الضوءَ عليه هو شعبيّة أغنية مرسيل، بعكس ما يردّد الستار أكاديميّون والسوبر ستاريّون والفيديو كليبيّون . نعم! شعبيّة هي، وبامتياز، أغنية مرسيل خليفة (من منطلق أنّ "الشعبيّة"، سمةّ الرجل الملتزم، غيرِ المستخفِّ بالناس، هي نقيضُ "الشعبويّة" آفةِ الفن والسياسة على السواء).
"الناس بدُّن هيك" قالوا!!! كفى احتقاراً للناس يا بعض بيّاعي الصوت والصورة!!! إن الشعبيّة الحقيقيّة هي في احترام المتلقّي، أيَّا تكُنْ وظيفته أو مستواه العلمي... وقد نجح مرسيل خليفة، بواسطة موسيقاه، لحناً وايقاعاً وتوزيعاً، في جعلِ
أصعبِ النصوص الشعريّة أو النثريّة الحديثة أغنياتٍ بمتناول كلّ مواطن.
وبالمقابل فقد ارتفعَ بالكلامِ الشعبيّ البسيط إلى شفة المثقّفين المتطلّبين...
أبي المزارع البسيط يغنّي بفضل موسيقى مرسيل شعراً
لمحمود درويش وموسى شعيب وشوقي بزيع... وأصدقاء لي جامعيّون، مثقَفون،
باحثون يرندحون "يا بحريّي هيلا هيلا" و"حطّ الدبشي يا صلاح" و"عصفور طلّ
من الشباك".
نحيّي، ثانياً، مؤلّفَ الموسيقى،
غيرِ المرتبطة بنصّ: تأليف لآلة منفردة، جدل بين آلتين أو أكثر، كونشرتو،
تأليف أوركسترالي، موسيقى اللوحات الراقصة، موسيقى الأفلام... السّمةُ
الأساسيّة لهذه الموسيقى هي الانتماء والأصالة على صعيد اللحن (le thème
mélodique)، من دون أن يكونَ هذا الانتماء تزمّتاً أو تقوقعاً... إذ إنّ
معالجةَ هذه الميلوديا، وهي شرقيّةٌ شرقيّة، أعيدُها لطمأنة الخائفين
على الهويّة والانتماء والتراث الأصيل، هي معالجةٌ متجدّدة من حيثُ اعتماد
التوسيع (délveloppement du thème)، والتنويع (la variation)، والتوزيع
(l’orchestration)، والتلوين المرتكز على نبرة الآلات (coloration par le
timbre)، من الكمنجات والوتريّات الأخرى على اختلافها، إلى الـCors ، إلى
الــClarinettes، والــBasson، والــHautbois، إلى الإيقاعيّات. هدا
التعاملُ الرصين، المتطلّب، الوفيّ
للتراث، والمنفتح على كلّ بشرِ الأرض، يجعل من هذه الموسيقى، المشرقيّة
المنبع، عالميّةَ البعد وجسرَ عبورٍ وتفاعل بين حضارتنا وسائر الحضارات
الأخرى، يكفي للمثال بأن نستمع إلى "كونشرتو الأندلس" و"شرق" أو موسيقى "المسافر".
ونحيّي، ثالثاً، في مشروع خليفة الموسيقي، الأكاديميَّ الأستاذ وفاتحَ الآفاق الجديدة والإمكاناتِ التقنيّة لآلةِ العود، أمام الطلاّب المتقدّمين والعازفين الكبار، وهو في هذا المجال أيضاً، مجال العزف والأداء، أحدُ كبارهم. يكفي أن يلمس هذا الرجلُ ريشةً أو يُداعبَ وتراً لينزلَ سحرٌ على الدنيا.
غير أنّ مرسيل الموسيقي لم يكنْ ليبلغَ هذه الذروات لو لم يكن في الأساس مثقّفاً جريئاً حرَّاً يعرفُ أيَّ نصَّ يختار. وعلى صدر هدا المثقَّف يعلَّق وسامٌ لم ترَهُ عينُ رئيسٍ ولم يُصَكَّ في أيّ قصرٍ أو بَلاط. وسامٌ يهديه مرسيل بدوره
إلى "جفرا" الآتية من أرصفة الشهادة المتاحة للجميع، إلى الأمّ التي نحنّ
إلى خبزها وقهوتها، إلى دم "مَهدي" المهدور باسم حصريَةٍ لم أفهمُها يوماً،
إلى "أيمن" وفرحِ الغاباتِ الساكنِ في عينيه، إلى أطفال قانا، إلى سمير قصير ودمِه الذي سيشعل ورداً أحمرَ في قفارٍ لا تنبتُ إلاّ أفاعي وخناجر وسجوناً لخيرةِ مثقّفيها.
تحيّةًّ أيضاً إلى مرسيل المثقّف الملتزم، كنّا دون العشرين يوم قال لي :" كيف يمكن أن يُقتلَ شعبي، أن يُستَغَلّ إخوةٌ لي، أن يُحجَّبَ في موطني
عقلُ امرأةٍ وإحساسُها، أن يُهدَمَ بيتٌ، أن يُحرَقَ حقلٌ، أن يُخنَقَ
صُبحٌ وأن أتفرَّج؟ سأغنّي وجعَ الزجاجِ على كلّ رجلٍ ينكسر." خِفْتُ عليه
يومَها من سلبيّات الالتزام، لكنّه عرف طوال مسيرته كيف يتحاشى الوقوع في الفخ.
التزم وظلَّ حرَّاً. لم يُسخِّر أغنيته لأيّ زعيم، ولم يُعطِ صَكَّ براءةٍ
مسبَق ولا وكالة عامّة عمياءَ لأقربَ الايديولوجيّات إلى عقله.
ويومَ سقطت رهاناتٌ وأحلامٌ كبيرة وقام في الدنيا نظامٌ عالميّ جديد، تصرَف كما يليق بالمثقّف: في وجه عولمة تدمجُ الأضدادَ مادياً وتربطها اقتصاديّاًّ وأحياناً تفكّكها اجتماعيّاً وثقافيّاً – ومن حولنا أسطع برهان – لم يلُذ بالانكفاء أو بالتقوقع، بل اختار الانفتاح. تماماً كما فعل إدوارد سعيد وأمثاله من قبله.
ويوم فاض الخيرُ في منطقتنا وأثمرَ مشاريعَ فنيّة متعدّدة، فُرِزَت تلقائيِّاً الخيارات الثقافيّة لدى عدد كبير من الفنَانين اللبنانيّين والعرب. فمنهم من شدّ الرحال صَوب برق خُلَّبٍ على صهوةِ فنّ غيرِ رباعيَّ الدفع، فتخبّط في الرمال وأنتج قحطاً وغباراً كثيفاً لم تغطِّهِ الملابس والأضواء والأكسسوارات، بينما كان لفنَانين آخرين، لبنانيّين وعرب، خيارات ثقافيّة أخرى منهم على سبيل المثال لا الحصر برهان علويّة الكبير في سينما متواضعة التمويل، ومن المسرحيّين جواد الأسدي وكميل سلامة، وفي الموسيقى مرسيل خليفة الذي تجرّأ، ومن البحرين تحديداً، على كتابة موسيقى ترقص عليها الأجساد بحريّة لا خبثَ فيها ولا رياء. ليلى تحبّ قيساً ليس كما علّمونا في كتب الأدب العربي. ليلى ترقص على موسيقى مرسيل كما يحقّ للمرأة العاشقة أن تبوح بعشقها رقصاً. امرأةٌ لها نهدان وعنق وشعر وخصر وردفان، تقول بجسدها:
" أتخّيل وأنا في حضِنك،
تداعُب يدُك خصلةٌ من شعري تموّجت فوق كتفك. أيَّهُمُ عَرَقُكَ، وأيَّهُمُ
عَرَقي، هذا الذي يلمعُ فوق جسدينا؟ لكن....هل سبقَ لَكَ أن أغمضت عينيك
وتنشّقتَ عشباً فوّاحاً؟ إنحنِ وقبّلني وأنت مُبتلٌ بالحبّ والخمر.
إرحلْ أمناً في العناقيد، هزّ رأسك قليلاً وافتح عينيك الآن وأجبني: هل دخلت مملكة الصوفّيين؟"
هذا ما قالته ليلى برقصها على موسيقى مرسيل خليفة فأقامت الأرض في البحرين ولم تقعدُها إلى الآن، وقضَّت مضاجعَ عُرْبِ يأبَون الفنَّ إلاّ سلفيَّاً ملجوماً مخصيَّاً مختوناً مخفوداً...أو مهوشلاً على ظهور الخيل.
مرسيل خليفة مثقّف مقاوم بأرقى أشكال المقاومة، وأكثرها فاعليّة، أي المقاومة الثقافيّة الحرّة، محقّقة النصر البشري الأسمى، أشرف كلِّ الانتصارات.
وأخيراً المفتاح الذي أردتُهُ هديّةً للحاضرين. مفتاحُ علبةٍ احتفظ في داخلها بمئات النصوص لمرسيل خليفة منذ كنّا في الثامنة عشرة وحتّى البارحة، وكلام ليلى الذي قرأته للتوّ هو أحد هده النصوص. نعم أيّها الأصدقاء، إنّ مرسيل خليفة الموسيقي هو أيضاً أديب متميّز، نثرُهُ صافٍ لمّاع كما أوّل الجدول عند آخر الثلج. لن أُذبل ياسَمينَ كلماتِه ناقداً. أكتفي بنقلِ سحرها قاطفاً لكم جَرْساً واحداَ هو رَجْعُ حوارٍ بين السماء والأرض:
تقول السماء: "لي صباحٌ تقوده الطيور."
فتردّ الأرض:"لي رقصُ الغزالِ وزركشة الأطفال."
توشوشُها السماء لتستفزَّها: :أعرف سرَّاً عن الله!"
تكافئها الأرضُ بابتسامةٍ ماكرة:"أنت وهو تجهلان نكهةَ َ الطين حين يرتدي الماء."