إذا كانت السوسيولوجيا
الكلاسيكية قد اتهمت بالتقصير في دراسة الصحة كظاهرة اجتماعية، وعدم
الاهتمام بالجوانب الاجتماعية للمرض، فإن الأنتربولوجيا باعتبارها العلم
الذي يهتم بدراسة الأبعاد الثقافية والرمزية في الحضارات الإنسانية كانت
أكثر حظاً من السوسيولوجيا، ولم تغفل أبداً البحث في المرض لأنه كان الكتاب
الذي يخفي بين ظهرانيه التركيب الاجتماعي والثقافي للمجتمع بأكمله، ويقدم
نموذجاً مصغراً لجغرافية الرمزي داخل الجماعات الإنسانية، فالمرض يعبر من
جهة عن البعد الديني للجماعة، ويكشف عن معتقداتها السحرية، ويمنح السلطة
لمن يقدر على العلاج، ويعيد ترتيب مواقع السلطة والهيمنة وتوزيعها، ويحدد
مجالات جديدة للمقدس داخل الجسد وفي المجال وبين الأشياء التي يستعملها
الأفراد.
لذلك فإن الفقر الواضح في كتابات مؤسسي التفكير السوسيولوجي[1] الذي
يمكن قراءته في كتابات مونتسكيو وفيبر وكونت وماركس وباريتو…الخ[2]، يقابل
بغنى متميز داخل الأنتربولوجيا التي نجد داخل أعمال مؤسسيها حضوراً متميزاً
للظاهرة الصحية من خلال دراسة المعتقدات والتمثلات والسلوكات
والاستراتيجيات الصحية ذات الطبيعة العلاجية أو الوقائية، وعن طريق دراسة
الجسد وطرق إدراكه وآليات استعماله خاصة داخل المجتمعات البدائية. ولعل هذا
ما يمكن اكتشافه بسير واضح داخل أبحاث مارسيل موس حول الجسد والدين
والسحر، وأعمال مالينوفسكي malinowski وليفي برويل Lévy-Bruhlإذ يعتبران
المرض ما كتباه علامة مميزة على البعد البدائي والمتوحش لعقلية بعض
الجماعات، التي لم تعيش على هامش الإنسانية، ولم تستطع بعد دخول سلم
الإنسانية[3]، بالإضافة إلى إيفانز بريتشارد Evans-Pritchard الذي اهتم
بمكانة المعالج وأشكال العلاج داخل المجتمع البدائي، إلى جانب سيجورست
sigeriste الذي اهتم بخصائص الطب البدائي وأنواع المعالجين داخل الحضارات
الإنسانية، هذا دون نسيان مارسيل موس Mauss، الذي تأثرت المدرسة
الأنتربولوجية بأبحاثه حول الجسد والموت والسحر بأمريكا اللاتينية.
أولا: مارك أوجي والتأويل الرمزي للمرض: تحتل أعمال مارك أوجي Marc Augé الأنتربولوجية مكانة متميزة داخل المتن
الأنتربولوجي المعاصر، ليس لكثرتها "نشر مارك أوجي أكثر من عشرين كتابا،
وعددا أكبر من المقالات الموزعة بين مختلف المجلات، بالإضافة إلى كتب
جماعيةً" أو تنوعها "كتب في إشكاليات مختلفة : السلطة، الصحة، الحرب،
الدين، التاريخ…الخ"، وإنما لتشبث صاحبها بمشروع نظري كبير بدأت ملامحه
تتضح بانخراطه في تيار نقد البراديغم الكولونيالي، وإصراره الكبير على
المساءلة الإبيستمولوجية لبعض الاتجاهات النظرية المعاصرة في
الأنتربولوجيا.
لن يستقيم المجال هاهنا لبيان المشروع الأنتربولوجي لأوجي، بيد أن
تفكير أوجي في مجال الصحة والمرض يكشف دون شك عن الملامح الكبرى لهذا
المشروع، والذي يقوم أساساً عندما يتعلق الأمر بالمرض على أسّيْن، أول مهم
ويرتبط بالنقد الإبيستمولوجي لمفهوم "الأنتربولوجيا الطبية"، وثاني أهمّ
يرتبط بإعادة بناء مفهوم أنتربولوجي للمرض بعيداً عن الأطروحات التطورية
التي كانت ترى في الممارسات والطقوس العلاجية داخل بعض المجتمعات الإنسانية
ضرباً من ضروب التأخر التاريخي والتخلف الذهني وسمة من سمات المجتمع
البدائي.
من أنتربولوجيا الطب إلى أنتربولوجيا المرض: يرفض مارك أوجي لحظة التفكير في الصحة و المرض، الحديث عن
الأنتربولوجيا الطبية anthropologie médicale، ويفضل استعمال مفهوم
أنتربولوجيا المرض anthropologie de la maladie، وذلك لاعتبارات كثيرة يخص
بالذكر اثنين منها، ومن خلالها يمكن استنتاج عدد أكبر من الدوافع التي جرت
أوجي إلى رفض التسمية الأولى. أما الأول فيرتبط بعدم قابلية الأنتربولوجيا
للتقسيم إلى تخصصات فرعية يهتم كل واحد منها بدراسة موضوع أمبريقي محدد، إذ
لا يوجد في نظره إلا أنتربولوجية واحدة، لموضوعات إمبريقية متميزة "
المرض، الدين، القرابة….الخ"، تشكل موضوعات موحدة لملاحظة الأنتربولوجي،
وتنخرط جميعها ضمن مقاربته لبناء موضوع دراسته. أما الثاني فيرتبط بمفهوم
"أنتربولوجيا المرض في حد ذاته Medical anthropology" كما يستعمله الباحثون
الأمريكيون. حيث يتخذ هذا المفهوم طابعاً "إدارياً واستراتيجياً، يتم
خلاله جمع أبحاث بغايات فكرية مختلفة، لا يجمع بينها إلا موضوع"[4] ، ويمكن
أن نميز في هذه الدراسات التي شكلت الأسس المرجعية الأنتربولوجيا الطبية
بين أربع, أساسية هي: الإيبديميولوجيا، ودراسة العلاجات المقدمة داخل
المؤسسات الصحية " Health care delivry systems"، بالإضافة إلى الدراسات
المرتبطة بالمشاكل الصحية وأخيراً الدراسة الإثني -طبّية ethnomédecine"،
وقد شكلت هذه الدراسات كما يرى أوجي جزءاً هاما من أنتربولوجيا الطب، لكنها
في نفس الوقت تمثل جزءاً من الأنتربولوجيا العامة.
إنّ نقد مارك أوجي المتواصل للأنتربولوجيين الأمريكيين "ج. فوستر G.
Foster، ج. ميردوك G. Murdok، م. لوغان M.H. Logan، تيرنر Turner….الخ" في
أبلغ من مجال داخل متنه الممتد على أكثر من أربعين سنة لم يكن مجانياً،
وإنما كان نتيجة لتصور يحمله عن الأنتربولوجيا، باعتبارها علماً لا يقبل
التقسيم، لذلك فبدل التفكير في تأسيس تخصص جديد داخل الأنتربولوجيا، يجب
الالتفات إلى الكيفية التي يمكن أن تعمل من خلالها الدراسة الأنتربولوجية
للمرض على تجديد الإشكاليات الأنتربولوجية داخل المجتمع المعاصر. الأمر
الذي يراه ممكناً نظراً لارتباط المرض بمجموعة من الخصائص الاجتماعية داخل
كل المجتمعات الإنسانية، ومن ثمّ فإننا لا يمكن أن نعثر على مجتمع لا يكشف
فيه المرض عن أبعاد اجتماعية رغم كونه أكثر الوقائع خصوصية بالنسبة للأفراد
وهذا ما يعني الطابع المزدوج للمرض، أو بلغة أقل قوة الطابع المرن للمرض
من حيث انتقاله السريع والسلس والدائم بين حقلين رمزيين اثنين؛ حقل الوجود
الاجتماعي وما يرتبط به من رموز وطقوس وتأويلات وإكراهات، وحقل الوجود
الفردي مع ما يعنيه ذلك من تفاعل وتجسيد وخضوع وتأويل للرموز والطقوس
والمعتقدات والممنوعات والواجبات..الخ.
غنيّ عن التوضيح أنّ مارك أوجي لم ينظر في الأنتربولوجيا الطبية إلى
حدود اليوم القدرة على تحقيق هذا المشروع، أي تجديد الإشكاليات
الأنتربولوجية، وعن سبيلها الأنتربولوجيا برمّتها، وذلك راجع بالأساس إلى
ضعفها النظري الواضح المقترن بما يسميه الوهم التخصصي illusion
desciplinaire ، والقائم أساساً على إحياء النقاشات القديمة المرتبطة بليفي
برويل levy-bruhl حول العقلية والمعتقدات المسماة بدائية[5].
ثانيا: نحو مقاربة جديدة لفهم المرض: لم يقف مارك أوجي عند حدود هدم البراديغم الأمريكي حول المرض، ونقد أهم
أطروحاته وأبرز مفاهيمه، وإنما اتجه نحو بناء مقاربة جديدة للمرض، تقوم
أساساً على دراسة الدور الذي يلعبه تأويل المرض والحزن داخل الحياة
الاجتماعية وموقعه في الصراعات الاجتماعية التي تتلو الخلل البيولوجي
Désordre biologique، من حيث ارتباطه بمواقع القوة والهيمنة والمشروعية
والشرعية داخل النظام الاجتماعي الذي يظهر داخله.
تبدو أولى معالم الفرادة في مقاربة أوجي أولا في المعنى الذي
يعطيه هذا الأخير للأنتربولوجيا وموقعها داخل دائرة العلوم الإنسانية
المعاصرة، فهذه الأخيرة لم تعد تتخذ كوظيفة لها تصنيف الشعوب والثقافات
البدائية والمقارنة بينها، كما أنها لم تبقى سجينة لتصور عتيق يعتبر أن
"تحليل السلوك الاجتماعي في مختلف أشكاله المؤسساتية مثل الأسرة والأنساق
القرابية والتنظيم السياسي وأنماط الفعل الشرعي والعبادات الدينية والعلاقات
الموجودة بين مختلف هذه المؤسسات"[6] هو الغاية الأولى من وجود
الأنتربولوجيا. وهو الأمر الذي يرفضه مارك أوجي لأن العوالم المعاصرة[7]
تحتاج إلى فعل أنتربولوجي قادر على إخراج الأنتربولوجيا من حالة الشرود
hors-jeu التي تعيشها، مع ما يفترضه ذلك من إعادة تعريف للأنتربولوجيا
وموضوعها[8] ، الأمر الذي يقدم فيه أوجي درساً بليغا من خلال الاستعاضة عن
المفاهيم التطورية مثل "المجتمع المتوحش، المجتمع البدائي، العقلية
قبمنطقية، العقلية السحرية…الخ"، بأخرى جديدة لعل مفهوم الآخرautre أو
الغيرية altérité ، وإعادة تعريف مفاهيم أخرى مركزية داخل التحليل
الأنتربولوجي مثل الثقافة، الدين، الإيديولوجيا، السلطة…، وهي جلها مفاهيم
يستعملها لحظة دراسته للمرض.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أدى اهتمام مارك أوجي بالظاهرة المرضية إلى
إعادة الاعتبار لمفهوم التأويل الذي سبق أن استعمله مالينوفسكي B.
Malinowski "ديناميات التطور الثقافي" حين اعتبر لحظة حديثه عن موقع
الأنتربولوجيا داخل المجتمع المعاصر أن "واجب الأنتربولوجي هو التأويل
الصحيح والمخلص للبدائي indigène"[9]، رغم أن معنى التأويل وغايته عند
الباحثين تختلف، فإذا كان مالينوفسكي لا يخص بحديثه عن الـتأويل إلا تأويل
الباحثين، أي تأويل التأويل الذي يحمله البدائي عن الظواهر الثقافية
والاجتماعية، حتى يسهل الأنتربولوجي على التاجر والمبشر وأصحاب
الاستغلاليات معرفة الحاجات الحقيقية لهذه المجتمعات. فإن مارك أوجي لم
يقصد عند حديثه تأويل الباحثين للمرض، بل التأويل الذي يقدمه الأفراد للجسد
والمؤسسات الاجتماعية التي تحتضنه، والرموز التي تقدمه، والطقوس التي
تحميه، وأشكال الصراع أو التضامن التي ينتجها.
1. رمزية المرض: تظهر أهمية مفهوم التأويل بالنسبة لمارك أوجي داخل تماثل النظامين
البيولوجي والاجتماعي وخضوعهما لنفس المنطق الذهني تقريباً، حيث توجد داخل
المجتمع شبكة واحدة لتأويل المجتمع تنطبق على الجسد الفردي وعلى المؤسسات
الاجتماعية، لأن آليات ومعرفة تأسيس الجسد وتشكل الاجتماعي[10] هي نفسها،
مادام المجتمع هو من ينتج الآليات والمعارف التي تبني الظاهرتين، وبالتالي
فإن أنساق التأويل التي يشكلها المتخصصون في المجال العلاجي المعروفة
والمعترف بها من طرف الكل، لا تجد أي عيب في اعتبار كل خلل بيولوجي، خللا
اجتماعياً ناتج عن سحر أو خيانة أو القيام بفعل محرم[11].
لا تنحصر قيمة المرض وأهميته داخل المجتمعات الإنسانية في خصائصه
الاجتماعية أو المؤسساتية المعترف بها أو التي تحمل كل خصائص المشروعية
العلمية والسياسية، وإنما تبدو كذلك فيما يعتقد مارك أوجي في كونه يتضمن
مفارقة كبرى، تتضح معالمها الأولية في اعتبار المرض أكثر الأشياء فردية وفي
نفس الوقت أشدها حملا للطابع الاجتماعي، فكل واحد منا يجد المرض في جسده
أولا، يمكن أن يحس معه بالعزلة عن الآخرين وكل ما يتعلق بالحياة
الاجتماعية، وفي نفس الحين، يعد المرض شأناً اجتماعياً، ليس لوجود مؤسسات
تهتم به في كل لحظة من لحظات تطوره، لكن لأن الخطاطات الفكرية التي تسمح
بمعرفته وتحديده ومعالجة أبعاده الاجتماعية غالباً ما يتم استدعائها من
ثقافة المجتمع الذي يعيش داخله الأفراد، بل إن مجرد التفكير في المرض يعني
الرجوع إلى الآخرين، من أجل الاستفادة من خبراتهم واستراتيجياتهم العلاجية،
لأن السجل الثقافي دائماً ما يقدم نفسه كأنجع حل لتدبير المرض.
من جهة أخرى فإن المرض هو القيمة أو الإشارة التي تذكر بالنظام
الاجتماعي، الذي يقدم هو الآخر تعريفا جديداً للشخص المريض، إن دلالة ما
على هجوم تتعرض له الجماعة من خلال الشخص المريض؛ قد يكون داخلياً أو
خارجياً لكنه لا يمكن أن يكون نتيجة لفعل فردي، إذ لا يفهم كما يقول أوجي
إلا باعتباره نتيجة لوظيفة التنظيم السياسي والاجتماعي، وبالتالي فإن سوء
تدبير القبيلة أو الانحراف عن القيم العليا للجماعة ورموزها يعاقب عليه
بالمرض. أما إذا لم يكن الخلل البيولوجي نتيجة لهجوم، فإنه إذاك يعبر عن
اختيار، حيث يعتقد أن قوى الخير أو الشر تعمل على التضحية بشخص معين من
إمراضه بعلة معينة، تحمي الجماعة ومعها النظام الاجتماعي برمته من مصائب
كانت تتربص بهما، أما النموذج الثالث لتأويل المرض، فيقوم اعتبار المرض
نتيجة لخطأ فردي ارتكبه الفرد في حق نفسه أو الآخرين، أو لغلط جماعي ارتكبه
الآخرون "خرق الأعراف، عدم احترام العجزة، الخيانة الزوجية"، أو خطأ جماعي
"حمل إسم لا يليق بالأجداد".
بالإضافة إلى هذا، تتجسد رمزية المرض حسب مارك أوجي في انخراطه ضمن ما
يسمى: الأشكال الأولية للحدث Formes élémentaires de l’événement، التي
تتحدد داخل كل الظواهر البيولوجية الفردية التي يتم تأويلها انطلاقاً من
نموذج ثقافي واجتماعي خاص، ويمكن أن نذكر كنموذج لهذه الظواهر " الولادة،
الموت، المرض، الحيض، العقم،…الخ"، وتتميز هذه الأشكال بطبيعتها المزدوجة،
فهي ليست بظواهر طبيعية محضة، ولكنها في نفس الوقت لا تعتبر ظواهر ثقافية
خالصة، وهي كذلك ليست بأحداث فردية فريدة، غير أنها ليست ظواهر اجتماعية
مميزة، إنها ظواهر تحمل معنى مزدوجاً لأنها تُنتج أشكالا رمزية تعيد
إنتاجها، خاصة عندما تتحول هذه الأحداث الأولية إلى طقوس للمرور من حالة
إلى أخرى، فالمريض مثلا، قد يتحول عند شفائه إلى معالج أو ساحر أو حامل
لــ"بركة" تحوله إلى رمز ثقافي واجتماعي، كما أنه قد يتحول إلى كائن منبوذ
يجب طرده والتخلص منه في حالة عدم الشفاء، ويمكن للميت أن يصبح ولياً، أو
يتحول قبره إلى مزار وضريح يقدم خدمات ثقافية واجتماعية كثيرة.
إن رمزية المرض تظهر كذلك داخل قربه من أكبر لحظتين بيولوجيتين
ورمزيتين يعيشهما الفرد والمجتمع معاً، إنه يوجد بين حدثين أوليين، تستثمر
فيهما كل البنيات الرمزية والمادية داخل المجتمعات الإنسانية، أي الموت
والحياة، فالفرد كما يقول أوجي " لا يختار أن يولد، أو يشاهد لحظة ولادته،
ولا يشارك في دفنه ….، والمرض هو الحقيقة الفردية والاجتماعية الأقرب من
اللحظتين معاً… إن المرض تراجع وتهديد بالموت، لكن من يخرج منه تكتب له
حياة جديدة كما نقول"[12]
شكل ارتباط المرض بالموت لحظة أساسية للتعبئة الاجتماعية، اتجهت من
خلاله كل المجتمعات الإنسانية إلى صك ثلاثة خطابات كبرى حول المرض، يرتبط
الأول منها بالفرد؛ حيث يتم تعريفه وتحديد عناصره، وتقديم قدره وحوادثه،
ويتعلق الثاني بالمجتمع؛ من خلال البحث عن الأسباب الاجتماعية للمرض،
وإلحاق الأذى بقيم ووضعيات وسياقات اجتماعية محددة كالوراثة والقرابة
والانتماء وتنهض في جزء منها على الظواهر الملاحظة، عن طريق تحديد الأعراض
وظروف المرض[13].
تكشف هذه الخطابات الرمزية التي ينتجها المجتمع والأفراد حول المرض، عن
الدور الذي تلعبه الثقافة والمجتمع في البناء الرمزي والاجتماعي للمرض،
فالمضمون الاجتماعي لكل تحديد للمرض، يوجد أولا داخل النسق الطبي
والاجتماعي الذي يركز على وجود رابطة طبيعية بين النوزولوجيا والنظام
الاجتماعي، ذلك أن لكل جماعة أو مجتمع عقلها التشريحي الخاص الذي يتجاوز
حدود صرامة العلم، إلى الغرف من الخطاطات الثقافية والرمزية للمجتمع، فإذا
كانت النوزولوجيا تجد داخل الطب، كما يذهب إلى ذلك كلود برنار مكانها في
بنية هذا الفن بين الفيزيولوجيا وعلم العلاج، فإن نزولوجية الثقافة
والمجتمع، تتأسس وفق نظام خاص يكشف أوجي بعض خصائصه داخل بعض القبائل
الغانية "أغبي مبا agbée M’paوالمالية لاسا lasa" عندما اكتشف أن الرأس
عندها يوازي الفكر، والقلب يعني الضمان والبطن يرتبط بالأحاسيس. وهو الأمر
نفسه الذي يوجد داخل كتابات بازي Pazzi الذي بين كيف أن العضوية الإنسانية
داخل مختلف الثقافات، لا يعبر عنها فقط من خلال الطقوس، وإنما من خلال
اللغة كذلك، حيث يشير المقابل إلى الجسد والفوق إلى الرأس والأمام إلى الفم
والجانب إلى الأذن.
إن المرض كما يتحدث عنه أوجي لا يقف عند حدود الخلل البيولوجي، وإنما
يتعدى كل الأمراض التي يمكن أن تصيب العضوية، إلى الاضطرابات النفسية
والاختلالات التي تصيب الطبيعة كذلك، وهو يتأرجح في الغالب بين تأويلين،
تأويل أمبريقي أو طبيعي وآخر اجتماعي أو سحري.
ب. آليات العلاج: يحتل مفهوم العلاج داخل التفكير الأنتربولوجي في المرض مكانة مهمة، حيث
أن فهم المرض كظاهرة رمزية واجتماعية، لا يقوم إلا على فهم استراتيجيات
وآليات العلاج التي يختارها الأفراد والجماعات أو التي تفرض عليهم في تدبير
وتشخيص هذا العجز أو الخلل، إن الأمر المهم في هذا الجانب، أي جانب تشخيص
المرض وعلاجه، يتجسد في مفهوم النجاعة أو الفعالية Eficacité بما هي نجاعة
طبية واجتماعية في نفس الوقت.
ينتقد مارك أوجي لحظة تفكيره بالعلاج المتن الأنتربولوجي الأمريكي الذي
لم يتخلص في نظره عن نزعته المركزية، خاصة عندما يتجه هذا النوع من
الدراسات نحو فهم الظاهرة الصحية داخل المجتمعات البدائية، انطلاقاً من
المقارنة بين الأنساق المحلية، والأنساق الطبية الغربية، من وجهة نظر
الحقيقة العلمية، وبصيغة أخرى من خلال نظرة تطورية تقوم على الفصل بين
البدائي المتوحش والغربي المتحضر، بما يحمله هذا التمييز بين العنصرين من
خطاطات ثقافية أو اجتماعية ورمزية.
5. تشخيص المرض وعلاجه:يعتقد مارك أوجي إن معظم الدراسات الأنتربولوجية التي اشتغلت على المرض،
انتهت بشكل أو بآخر إلى وجود نوعين من الممارسة الطبية داخل المجتمعات
المسماة بدائية، وهي ممارسات رغم اختلافها تتقاطع في اعتقادها بوجود السحر
والدين والسلطة داخل كل أشكال الطبية بهذا النوع من الوجود الاجتماعي، فإذا
كان سيجرسيت sigersit ينتهي لحظة حديثه عن الطب البدائي في الحضارة
المصرية القديمة إلى وجود ثلاثة أنواع من المعالجين؛ فهناك من جهة الطبيب
أو الحكيم، ومن جهة ثانية الكاهن، ثم الساحر، فإذا كان الساحر والكاهن أميل
إلى البحث عن المرض داخل أسباب وجوده، من خلال اعتماد مقاربة إيتولوجية،
وهو ما يسميه سيجرسيت بالطب السحري الديني، فإن الحكيم الذي ينتمي إلى
دائرة ما يسمى بالطب الأمبريقي، لا يسعى إلى معرفة أسباب المرض
فوق-الطبيعية "الشيطان، الجد، الله…"، وإنما إلى الكشف عن أعراض المرض،
وعناصر وجوده المادي التي يمكن أن تعالج انطلاقاً من تقنية نباتية تتغياً
إعادة التوازن لجسم المريض.
لا يتعدى الاختلاف بين الطب السحري الديني والطب الأمبريقي في الحضارات
القديمة في نظر سيجرسيت أن يكون اختلافاً تقنولوجياً وصورياً مادام
الطبّان يقومان كلاهما، ويحرصان في جزء منهما، على حضور الدين والسحر
داخله.
في نفس السياق يتجه فوستر foster إلى التمييز بين شكلين من الأنساق
الطبية، تشخيصية Personalistic وطبيعية Naturalistic، فـأما الأول فيظهر
المرض داخلها كفعل محرر أو محدد لفاعل بشري أو غير إنساني "روح، جد، الله"
أما الطبيعي فيعتبر أن المرض نتيجة لتأثير قوى أو عناصر طبيعية مثل
البرودة، السخونة، الرطوبة، ويحتل داخله مفهوم التوازن بين الجواهر
والأمزجة والقيم دوراً محدداً في التعريف بالصحة والتعرف على المرض.
بعيداً عن آليات تشخيص المرض وتقنياته يعتبر مارك أوجي أن أهمية
التشخيص لا تبدو إلا داخل إحالتها على تقنية أومجموعة تقنيات علاجية
بعينها، ولكن وبشكل أساسي داخل دورها في تحديد طبيعة العلاج الذي يجب أن
يكون "فعالا وإيجابياً، قادرا على دفع المعتدي وطرد الشرّ والمسؤول عن
الشرّ إلى الخارج"[14]. لذلك كانت الفعالية النوزولوجية والاجتماعية هي
الرهان الأول والأخير للعلاج داخل المجتمعات المسماة بدائية، إذ لا مكان
للخطأ العلاجي أو القول بفشل العلاج، لأن المعالج سواء كان طبيباً أو
ساحراً أو كاهناً قادر على علاج كل الأمراض العضوية والنفسية، أما أولئك
الذين عولجواً ثم أصيبوا بأمراض أخرى، أو عاودهم المرض مرة أخرى فذلك لا
يعزى داخل هذه المجتمعات إلى عيب أو عجز يميز المعالج، وإنما لأن من أصيبوا
بالمرض انتهكوا الممنوعات وتعاطوا المحرمات خاصة الغذائية منها "التبغ،
الخمر" فكانت السبب في حدوث الاختلالات الجديدة.
يرتبط العلاج والفعالية الموضوعية للعلاج بشكلي دائم وكلي بالمعالج أو من يسميهم أوجي بـ"صغار المقاولين بالإيديولوجيا الدينية"،
وتتضح دلالة هذا الربط بين العلاج والمعالج داخل مفهوم المقدس الذي يشكل
الموضوعة الرئيسة للعلاج. فكلما ارتفعت قيمة المقدس ودلالته الرمزية داخل
الجماعة إلا واتسع مجال تدخل المعالج وتنوعت الأمراض التي يعالجها، غير أنه
كلما توارت هذه القيمة وتراجعت هذه الدلالة في سلم الرموز، إلا وانكمش
معها سياق التدخل الطبي وقيمة المعالج مقارنة مع الآخرين.
يستعمل المعالج في تدبير عملية العلاج داخل السياقات الثقافية التي
درسها مارك أوجي سلسلة من الأعشاب والأشياء والأدوات التي تحمل دلالات
طبيعية وثقافية تسهل عملية العلاج أو تمنعها، ويمكن أن نذكر معه في هذا
الصدد: النباتات، التبغ، الزيت الأحمر، الدم، أوراق النخل، البيض…الخ.
المراجع:1. Augé (M), pouvoir de vie pouvoir de mort, FLAMMARION,1997
2. Augé (M), pour une anthropologie des mondes contemporains, Flammarion, 1994
3. Augé (M), théories des pouvoirs et idéologie, PARIS, HERMANN, 1975
4. Augé (M), Hérzlich©, Le sens du mal, Edition des archives contemporaine, 2001
5. Bronislaw Malinowski (1941), Les dynamiques de l’évolution
culturelle, les classiques des sciences sociales, éditons numérique
6. E. E. Evans-Pritchard, Anthropologie sociale, les classiques des sciences sociales, éditons numérique
7. Hérzlich ©, médecine, maladie et société, MOUTON, 1970
8. Hérzlich ©, PIERRET (J), maladies d’hier, maladie d’aujourd’hui, PAYOT, 1984
الهوامش: [1] نتحدث هنا حصراً عن مجموع مؤسسي التفكير السوسيولوجي كما يقدمهم رايمون آرون. في كتابه مراحل الفكر السوسيولوجي
[2] لم نتحدث هنا عن دوركايم لأننا سبق أن بينا الدور الكبير الذي لعبه في توجيه السوسيولوجيا نحو دراسة الظاهرة الصحية
[3] لقد سبق لروجي باستيد R. Bastideأن تحدث عن الدور الذي لعبته كتابات ليفي برويل في تشكل سوسيولوجيا الأمراض العقلية
[4] Augé, marc, l’anthropologie de la maladie, L’homme 97/98, janv., juin, XXVI, pp81.90
[5] Ibid p83
[6] E. E. Evans-Pritchard, Anthropologie sociale, les classiques des sciences sociales, éditons numérique, p9
[7] يستعمل مارك أوجي مفهوم العوالم المعاصرة بدل العالم المعاصر، لأن طوفان العولمة لم يمنع وجود الاختلاف بين الثقافات الإنسانية
[8]Augé, marc, pour une anthropologie des mondes contemporains, FLAMMARION, 1994p62
[9] Bronislaw Malinowski (1941), Les dynamiques de l’évolution
culturelle, les classiques des sciences sociales, éditons numérique, p18
[10] يمكن أن نلاحظ هذا التماثل داخل المجتمع المغربي على مستويين،
المستوى الأول هو مستوى التسمية حيث أن أعضاء الجسد، يعاد إنتاجها داخل
تسمية المجال والأشياء والمؤسسات، نذكر على سبيل المثال " فم الدار، فم
الباب، فم البراد في إشارة إلى المكان، كما نسمي بالدراع كل شيء بإمكانه
حمل ثقل ما، كما يشار بالعين إلى الثقب أو المنبع، عين الإبرة، عين الماء،
وهذا ما ينطبق كذلك على الظهر، اليد، الوجه، الأصبع، الفخذ، الرجل، البطن،
الأمعاء، القلب" والمستوى الثاني هو مستوى الرموز والدلالات الثقافية التي
يضفيها المجتمع على الأعضاء ويسقطها على ذاته، قبل أن تتحول إلى حدود تخلق
وتنظم السلوكات، ويمكن العودة في هذه النقطة بالذات إلى بيير بورديو "
الهيمنة الذكورية".
[11] Augé, Marc, "ordre biologique, ordre sociale, la maladie forme
élémentaire de l’évenment", in Augé, Marc, Hérzlich, Claudine, le Sens
du Mal, Archives contemporaine, P35
[12] Ibid, p40
[13] Ibidem
[14] Ibid p48