تحتل أعمال كلودين هيزليتش السوسيولوجية حول الصحة مكانة خاصة داخل السوسيولوجيا الفرنسية، لا لكونها أوّل باحثة فرنسية تهتم بهذا السؤال فحسب، بعد أن اتجه أقطاب السوسيولوجية الفرنسية إلى دراسة الأسرة والدين والدولة والمدرسة والتربية والتنظيمات الاقتصادية، وإنما لأنها كانت وما زالت إلى اليوم مرجعاً أساسياً للدراسات السوسيولوجية حول الصحّة، وخبيراً دولياً استندت إليه المنظمة العالمية للصحة والعديد من المؤسسات العاملة في مجالات الصحة “الإعاقة، السيدا، الانحراف، الأمن…الخ”.
تعتبر كلودين هيزليتش موضوع سوسيولوجيا الصحة سابقا على ظهور الصحّة، ويجد لنفسه مكاناًّ داخل مجموعة من الأعمال التي أنجزت خلال القرنين الثامن والتاسع عشر حول الطبّ الاجتماعي Médecine Sociale بمختلف دول أوروبا الغربية وخاصة فرنسا وألمانيا وإنجلترا، حيث تقدم أبحاث كل من فيليرمي Villerme [1] وفيرشوف virchow[2] وشادويك chadwik[3] درساً بليغاً في هذا الباب، غير أن هذا المذهب العلمي نحو دراسة الأبعاد والأسباب الاجتماعية للمرض، سرعان ما سيتراجع حسب هيرزليتش بعد أن احتلت مقاربة باستور الصدارة في فهم المرض، وعلاجه والوقاية منه، وقد زادت الثقة في هذه المقاربة بعدما أدت مجموعة من التدابير والإجراءات الوقائية والعلاجية إلى نتائج صحية واضحة من قبيل : مساهمة تعقيم الحليب منذ سنة 1890 في التحكّم في وفيات الأطفال، مساهمة التعقيم والتطهير داخل الخدمات الاستشفائية في تناقص حالات الوفاة بعد الجراحة، التحكم في “التيفويد” عن طريق الأشغال العمومية الخاصة بالماء الصالح للشرب غير الملوث[4].
إن موقف هيرزليش لا يمكن أن يفهم في الحقيقة إلا بالرجوع إلى قناعة تعبر عنها في مجمل كتاباتها حول المرض والصحة، يتعلق الأمر بإيمانها أن سوسيولوجيا الصحة لم تتأسس علمياً إلا خلال الخمسينات من القرن الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية، وفي الستينات داخل فرنسا، حيث اتجه الأمريكيون إلى دراسة الصحة باعتبارها سلوكاً اجتماعياً من خلال البحث في “مكانة المريض ودوره بالمجتمع، المتغيرات التي تحدّد سلوكه والمعايير التي تعطيه شكلا، علاقات المريض داخل المؤسسة العلاجية، مكانة المعرفة الطبية ودورها في تعريف المرض، السياق التنظيمي والعلائقي للمرض، دور الطبيب، التأويل الاجتماعي للمرض…الخ”، ولا تخفي هيرزليتش في هذا الصدد المكانة التي تحتلها أعمال كل من بارسونز وأنسليم ستروس A. L. Strauss خاصة التميز الشهير للثاني بين نوعين من الممارسة السوسيولوجية الخاصة بالطبّ، يتعلق الأمر ههنا بسوسيولوجية للطبّ Sociology of Medicine تهتم بالمؤسسات الطبية، من حيث أدوارها وقيمها والوظائف التي تقوم بها والظروف التي تتم فيها العملية العلاجية، وسوسيولوجية داخل الطبّ Sociology in Medicine غايتها الأولى دراسة السيرورات المرضية العلاجية بالإضافة إلى العوامل المرتبطة بها. أما السوسيولوجيا الفرنسية فإن هيرزليتش لم تجد فيها غير ما كتبه ميشيل فوكو حول الجنون سنة 1961 وولادة العيادة 1963، والمقال الهام الذي كتبه جون ستيوتزيل Jean Stoetzel“المرض، المريض والطبيب”سنة 1960، لذلك فإن عملها يعتبر حقاً في هذا السياق عملا أصيلا من حيث الموضوع والمنهج لأنه يكشف عن علاقة الفرد بالمجتمع والطبيعة من خلال الصورة التي يكوّنها عن المرض واللغة التي يعبر بها عنه، يقول موسكوفتشي في معرض تقديمه لكتاب هيرزليتش “الصحة والمرض: تحليل لتمثل اجتماعي”[5]، في الوقت الذي اتجهت فيه السوسيولوجيا الفرنسية نحو دراسة التربية والأسرة والدين والعمل، اعتقاداً منها أن ظواهر الجسد والمرض والصحة لا تستحقّ أن تكون موضوعاً للسوسيولوجيا، لأنها ظواهر توجد خارج الاجتماعي وتستعصي على التحليل السوسيولوجي[6]
المرض ظاهرة اجتماعية تعتقد كلودين هيرزليتش أننا لا نحتاج كثيرا من الوقت لحظة التفكير في الظواهر المرتبطة بالجسد، لإدراك البعد الاجتماعي للمرض داخل كل المجتمعات الإنسانية بأكملها، حيث تتجه كل الجماعات البشرية إلى تأليف علاقة بين النظام البيولوجي والنظام الاجتماعي، إذ ليست المجتمعات المسماة بدائية وحدها من تعزو المرض إلى ظواهر ثقافية واجتماعية، بل حتى داخل المجتمعات الغربية يتجه الأفراد حسب هيرزليتش إلى بناء المرض اجتماعياً من خلال إضفاء أبعاد اجتماعية على الظواهر البيولوجية الأولية كالموت والمرض والصحة، التي تبدو داخل السجل الطبي ظواهر موضوعية وفيزيولوجية تبتعد كل البعد عن الاجتماعي، فالوضوح الفيزيائي لظواهر الشيخوخة والموت تخفي وراءها أبعاداً اجتماعية كثيرة، تفسّرها وتحدّدها وتؤوّلها وتضفي عليها بعداً رمزياً غير موجود من الناحية الواقعية.
لذلك فإن المشروع الذي سنته هيرزليتش لنفسها يتجه نحو الكشف عن هذا البعد الاجتماعي والرمزي داخل المجتمع، من خلال مجموعة من الأسئلة الكبرى، ترتبط بـــ:
المعايير التي تتحدد بها الصحة والمرض اجتماعياَ؟
التصور السببي للصحة والمرض؟ وطبيعة الظاهرة المرضية داخل المجتمع؟
العلاقة بين الصحة والمرض والقيم الاجتماعية؟
أثر الصحة والمرض في المشاركة الاجتماعية؟
العلاقة بين الصحة، المرض والموت؟
إن هذه الأسئلة التي وجهت مقاربة الباحثة خلال الستينات من القرن الماضي ما تزال راهنة في نظرها، ما دامت الصحة تجد مكانها في النقاش العمومي والوعي الفردي، ومادامت شرعية الخطاب حول الصحة تتنازع بين مقاربات مختلفة وحركات اجتماعية وسياسية متعددة.
إن المرض ظاهرة اجتماعية، ليس لأنه يبنى اجتماعياً بموازاة بناءه علمياً، بل لأن طبيعته وتوزيعه يختلفان بين العصور والمجتمعات والأوضاع الاجتماعية، فإذا كانت الأوبئة والحمّى والسلّ الرئوي الهاجس الصحي الأول للمجتمعات الغربية في الماضي، فإن اختفاء هذه الأمراض تقريباً من الخريطة الصحية لهذه المجتمعات، عوّض بظهور أمراض جديدة كأمراض القلب، والأمراض المعدية، والسرطان والسيدا، كما أن بعض الأمراض التي أصبح علاجها ممكنا داخل المجتمعات الغربية ما تزال تعتبر قاتلة داخل مجتمعات أخرى خاصة دول العالم الثالث، بالإضافة إلى ذلك فإن أمل الحياة في فرنسا مثلا داخل صفوف الأطر العليا والأساتذة وأصحاب المهن الحرة، يفوق أمل الحياة عند العمال.
لا تظهر الأبعاد الاجتماعية للمرض عند هيرزليتش فقط في أسبابه، أو ما يمكن أن نسميه اليوم بالمحددات الاجتماعية للصحة والمرض، وإنما تظهر هذه الأبعاد بشكل أكبر داخل النتائج الاجتماعية للمرض على الفرد و من خلاله على الأسرة وعن طريقها المجتمع بأكمله، فإذا كانت هيرزليتش قد اكتشفت من خلال بحثها، أن أنماط العيش تعتبر في نظر الأفراد السبب الأول لحدوث المرض، فإن المرض يظهر بالنسبة إليها من حيث نتائجه في أشكال ثلاثة، فهو إما محرّر أو مدمّر أو مهنة[7].
إن دفاع هيرزليتش على البعد الاجتماعي والرمزي للمرض، لم يكن في الحقيقة استجابة لإكراهات البراديغم السوسيولوجي، لأنها أشارت دائما إلى كون دراساتها الأولى حول الصحة تدين بالولاء لعلم النفس الاجتماعي والأنتربولوجيا، أكثر من انتمائها إلى السوسيولوجيا، وإنما كان نتيجة لاعتقادها بأن دراسة صورة المرض داخل ذهن المريض يعدّ أول الطريق نحو فهم الظاهرة الصحية داخل كل المجتمعات الإنسانية، من ثمّ فإنّ مفهوم التأويل الاجتماعي للمرض وآليات هذا التأويل ونتائجه يجب أن يكون هو القضية الأولى للسوسيولوجيا، لأنّ ما يدفع الأفراد إلى عيادة الطبيب والتوجه نحو المستشفى ليس هو مجموع الأعراض العضوية التي تظهر على الجسد، وإنما لارتباط المرض بمفهوم “الواقع الحزين” الذي يهدد الحياة الفردية ويغيرها.
من جهة أخرى فإن الحديث عن مفهوم التأويل لا يعني تأويل البناء الطبي للمرض، بقدر ما يعني تأويل الفرد الذي يتجاوز الجسد الفردي والإيتيولوجيا المتخصصة، من خلال طرح أسئلة تتجاوز البحث عن العوامل الجرثومية أو الجنسية للمرض، إلى التساؤل عن سبب المرض ومعناه “لماذا أنا” و“لماذا هو” و“لماذا هنا” و“لماذا الآن”[8].
إن هذا النوع من الأسئلة يخفي بين ظهرانيه أبعاداً إيديولوجية كثيرة، تمكننا من النفاذ في حالة دراستها إلى المعتقدات والقيم ومجموع علاقات المعنى الرائجة داخل المجتمع، خاصة وأن الحالة العضوية للأفراد ترتبط بأوضاع وشروط اجتماعية، تنتج الصحة والمرض، وتنتج بالموازاة مع ذلك حقلا رمزياً يعيد إنتاج كل الظواهر العضوية وفق بناء جديد، يتجاور داخله الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي كذلك.
أسباب المرض وأشكاله: لم تكن كلودين هيرزليتش لتبقى حبيسة مقاربتها النظرية التي تدافع فيها عن البعد الاجتماعي للمرض، كما لم يكن لها أن تقنع بمحدودية التمثل والتصنيف والبناء البيوطبي للصحة والمرض، مادام الأصل في وجود المرض وبنائه وتوزيعه، اجتماعيا وثقافيا محضا.
تذهب هيرزليتش لحظة دراستها تمثل المجتمع الفرنسي للصحة، لا يخرج عن الحقل العام لتمثل الإنسان للصحة في كل المجتمعات الإنسانية، لذلك لم تجد غير الاستعانة بما انتهت إليه الأنتربولوجيا وقبلها التصورات الطبية القديمة، من أن سبب المرض غالباً ما يعزى إلى أمرين : فهو إما موجود داخل الإنسان أي هو أصل في الجسد الإنساني، ناتج عن وراثة أو استعداد قبلي، أو قد يكون نتيجة لفاعل أو فعل خارجي شرير أو خير (الله، السحر، عناصر مؤذية، وخم مصدره Maisme الأرض )، غير أن هيرزليتش قامت بتبيئة التصوّرين والتأليف بينهما، لتستنتج أنّ المجتمع الفرنسي “ممثلا في عينة الدراسة” يعرّف المرض هو الآخر إما كوجود خارجي، ولكن بمعطر مغاير تسميه الباحثة بـــ“نمط العيش mode de vie”، أو باعتباره وجوداً خاماً سببه الفرد ذاته، إما لضعف بنيته وقلة حيلته أو لعدم قدرته على المقاومة….الخ.
1. نمط العيش :تعني هيرزلتش بنمط العيش الإطار الز-مجالي Spatio-temporel للفرد، أي المجال الذي يعيش فيه الفرد وخصائص هذا المجال “الكثافة، الجوّ”، ووتيرة الحياة “الزمن، المحفزات”، بالإضافة إلى مجموع السلوكات اليومية التي تدور في فلكها “التغذية، العمل، النوم،النقل ….الخ”[9]، بالإضافة إلى ذلك يمثل هذا النمط حالة وسطى بين المرض والصحة، معنى هذا أن العيش داخل هذا المجال يقرّب من المرض، بينما الابتعاد عنه يدني من حالة الصحة. إن النمط الذي يهمنا في هذا المقام، والذي خصته الباحثة بالدراسة هو نمط حياة مرتبط بالمدينة، وبمدينة باريس على وجه الخصوص.
أما أن تكون المدينة مرتعاً أساسياً للمرض، ومرجعاً أولياً لولادة كلّ أشكال الداء، فذلك ما انتهت إليه هيرزليتش عندما وجدت المجال المديني مقترنا في أذهان الناس بالمرض، مقابل تراجع ذلك كلما انتقلنا من المدينة باتجاه القرية، فإذا كانت المدينة ترتبط في نظر البعض بتلوث الهواء، فإنها تعدّ في نظر آخرين مجالا لتصريف كلّ الأغذية الكيمياوية، بينما يرتبط عند البعض الآخر بإكراه العمل.
إن نمط العيش هذا الذي تتحدث عنه الباحثة ههنا، مجال متسخ وغير طبيعي، إنه مجال اصطناعي كان سبباً في ولادة الأمراض الخطيرة “السرطان، أمراض القلب، السل….الخ”، والأمراض المؤذية Maladies Eprouvants “الروماتيزم، قرحة المعدة، التيفويد….الخ”.
2. الفردإذا كان نمط العيش يظهر كواقع مكره لا مفرّ منه، واقع يجمع الكلّ على تأثيره الواضح في الحالة الجسدية والنفسية للأفراد، فإن الفرد ذاته يعتبر من طرف المجتمع سبباً في المرض، وذلك راجع إما لعدم قدرته على التحمل ومقاومة الواقع بما يحمله من إكراهات، وإما نتيجة للوراثة، حيث أن الفرد يرث خصائص أصله الاجتماعي بيولوجياً، فأغلبية السرطانات تقريباً تنقل وراثيا، بالإضافة إلى أمراض كثيرة أخرى سببها الأول هو الوراثة.
3. أشكال الصحة ترفض هيرزليتش الحديث عن مفهوم الصحة بصيغة المفرد، كما ترفض الفهم الطبي للصحة، إذا ما وجد هناك من فهم طبي[10]، فالحديث عن الصحة يجب أن يتم بصيغة الجمع، خاصة وأن الصحة تأخذ من الناحية الاجتماعية أشكالا متعددة. فهي قد تعرف بطريقة سلبية محضة، باعتبارها غياباً للمرض، أو عدم وعي بالجسد، وفي هذه الحالة يكون مفهوم الصحة قريبا جداً من التعريف الشهير للوريش للصحة “العيش في سكون الأعضاء”، كما يمكن أن نتحدث عن الصحة من حيث هي حالة من الكمال الفيزيائي الذي يستطيع داخله الفرد أن يقوم بكل وظائف الاجتماعية.
من جهة ثانية ترى هيرزليتش أن الصحة تأخذ ثلاثة أشكال كبرى، فهي أما فراغ وغياب santè-vide ، أو رأسمال صحة fond de santè، أو توازن équilibre، ففي الحالة الأولى تظهر الصحة في وعي الناس من خلال غياب المرض، وعدم وعي الشخص بجسده أو على الأقل عدم إحساسه بانزعاج بناءه العضوي لحظة القيام بمجهود ما، أما في الحالة الثانية، فتنكشف الصحة كحالة من القوة، وكقدرة على تحمل كل ما يمكن أن يعترض الفرد من تعب أو إرهاق أو قلق…الخ، أما الصحة باعتبارها توازنا فتنقشع داخل قدرة الشخص على بناء علاقات جيدة مع الآخرين، وعدم الإحساس بالعياء، هذا دون نسيان الكمال النفسي والجسدي[11].
4. أشكال المرض لا يصح الحديث عن المرض عندما يتعلق المرض بالمجتمع الفرنسي عن نظام أو بنية منسجمة، لأن المرض لا يتخذ داخله شكلا واحد أو صورة موحدة فالإيتويولوجيا الاجتماعية تجمع بما لا يدع أي مجال للشك، على وجود أشكال وبنيات وأنظمة متعددة للمرض، كما تكشف وجود خطاطات ونماذج تصنيفية كثيرة، تقوم أولا على تمييز المرض عن غيره من أشكال الخلل العضوي والنفسي من قبيل الحوادث، العجز، الوقائع أو الأحداث التي يمكن أن تعيق الحياة اليومية. وعليه فإن طبيعة الخلل العضوي غالباً ما توضع محل لبس وتساؤل.
إن المرض لا يتميز عن غيره من أشكال الخلل التي تعترض الوجود العادي واليومي للأفراد، بل إن الأمراض لا تتميز عن بعضها البعض، إلا بناءً على ثلاثة مؤشرات كبرى، تبدو هي الأخرى كسلسلة من الثنائيات هي :
درجة خطورتها : خطيرة- خفيفة، قاتلة- غير مميتة، قابلة للشفاء- مزمنة
حجم ألمها: أمراض مؤلمة- أمراض غير مؤلمة
معايير مؤقتة : طويلة الأمد- قصيرة الأمد، مفاجئ- غير مفاجئ.
تعتبر هذه المؤشرات بمثابة قواعد تصنيفية يمكن من خلالها أن نميز بين عدد كبير من الأمراض، إذ لا يدل كل مؤشر منها على عدد من الأمراض دون أخرى، بل على العكس من ذلك، أي أن المرض غالباً ما يصنف بناءً عليها جميعاً، فالأمراض الخطيرة مثلا، بالإضافة إلى أنها تعد قاتلة وغير قابلة للشفاء، فإنها تنفرد ذلك بخاصية طولها على مستوى الأمد، فالسرطان مثلا غالباً ما يعتبر مرضاً قاتلا وغير قابل للشفاء، إضافة إلى أنه مرض غير قابل للردّ وطويل الأمدـ، زيادة على ما يحدثه من ألم. إن صفة الخطورة هنا، خطورة مرض كالسرطان تعدّ في نظر هيرزليتش، إطاراً مرجعياً تجتمع عنده كل المؤشرات لتضفي المعنى والقيمة على كل مرض كيفما كان نوعه[12].
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يتخذ المرض داخل المجتمعات الإنسانية حسب هيرزليتش ثلاثة أشكال أساسية جميعها يدخل ضمن رؤية بارسونز للمرض باعتباره انحرافاً أو خللا اجتماعياً.
أما الشكل الأول فهو المرض باعتباره تدميراً LA MALADIE DESTRUCTRICE، ويصبح خلاله المرض مرادفاً للعجز من أوجه عدة، تبدأ بعدم قدرة المريض على لعب أدواره المهنية والأسرية، وتنتهي عند ما تسميه هيرزليتش بالإقصاء من الجماعة، أو إبعاد المريض من المجتمع désocialisation du malade، ويتخذ هذا الإبعاد أبعاداً مختلفة في مقدمتها، إحساس المريض بأن إقصائه من المجتمع يعني ممارسة العنف تجاهه من خلال إلزامه بالتخلي عن أدوراه الاجتماعية والمهنية، كما يفرض عليه المرض تبعية دائمة للآخرين، مع ما يرافق ذلك من قلق وإحساس بالدونية مقارنة مع باقي أفراد الجماعة التي ينتمي إليها.
يرتبط هذا النوع من تمثل المرض وفهمه بأشكال محددة من المرض، يتعلق الأمر في هذا السياق بالأمراض الخطيرة والطويلة الأمد دون غيرها، أي أن الحديث في هذا الباب يكون في الغالب عن أمراض بعينها مثل “السرطان، السل، السيدا….الخ”.
يتجسد النموذج الثاني لتمثل المرض، في المرض باعتباره محرراً maladie libératrice ، حيث يعتقد الأفراد أنّ منزلة المرض تتحدد انطلاقاً من فك الارتباط بين الفرد وكل أدوراه الاجتماعية وأشكال المسؤولية التي يمكن أن تسند إليه أو يحاسب بها، إن المرض يوفر للأفراد الزمن الذي كانت تستنزفه أدوارهم الاجتماعية، إذ يصبح بمقدور الفرد القطع مع إيقاع الحياة اليومية وإكراهاته الاجتماعية، غير أنّ المرض الذي يمكن الحديث عنها ها هنا لا يدخل في باب الأمراض الخطيرة التي تعزل الفرد عن المجتمع وتقصيه عن الحياة الاجتماعية، بل إن المقصود في هذا المقام الأمراض الخفيفة، القابلة للعلاج، والقصيرة من حيث الزمن، يستغل الفرد وجودها من أجل كسب مجال مشروع وشرعي للحرية التي يفتقدها في وجوده العمومي والاجتماعي.
أما المرض المهنة LA MALADIE METIER ، تنبه هيرزليتش أن ما تقصده بالمرض المهنة لا يجب أن يتم فهمه انطلاقاً من صورته الأولية أو معناه الظاهر، فما تعنيه بالمرض المهنة، ليس امتهان الأشخاص لظاهرة المرض، وإنما استعملت هذا المفهوم من أجل وصف سلوك المريض الذي يجعل من محاربة مرضه غايته الأولى، ويمكن القول مع هيرزليتش أن المرض المهنة، ما هو إلا نتيجة لتمثلين السابقين للمرض، فإذا كان العجز والإقصاء الذي يخلقه الشكل الأول من أشكال وجود المرض وتمثله، يزعج الأفراد، فإن الحرية التي يمنحها، والوقت الذي يوفره المرض في شكله الثاني، هو ما يعطي للفرد القوة من أجل السعي نحو القضاء على المرض[13].