لا
شكّ أنّ صلاح الدين الأيوبي هو الشخصية الأكثر حضوراً في العقل العربي
المعاصر من بين كل الشخصيات التي برزت على امتداد التاريخ
العربي-الإسلامي، اذا استثنينا فقط عصر الرسول والصحابة، فكثيراً ما يتم
استحضار هذه الشخصية بكل ما لها من رمزية تاريخية خاصة عند الحديث عن
الصراع العربي الإسرائيلي مثلاً، أو عن صراع الحضارات ما بين الشرق
والغرب، أو غيرها من قضايانا المعاصرة، بل إن اسم هذه الشخصية التي رحلت
عن عالمنا منذ ما يزيد على تسعة قرون ما زال يتردد في صحفنا بشكل يومي أو
شبه يومي في المقالات والافتتاحيات، وفي أدبيات الأحزاب والحركات
السياسية، وخطابات الساسة والمفكرين، فكأن العقل العربي محتجز في زنزانة
التاريخ لا يجد الطمأنينة إلا في اللجوء إلى الماضي، ويأبى النظر إلى
الحاضر والمستقبل إلا من خلال إسقاط أحداثه وشخوصه على أحداث وشخوص عرفها
في ما مضى من تاريخه.
لا أهدف هنا إلى استعادة
الحقائق التاريخية حول شخصية صلاح الدين وحروبه ومعاركه وما اتصل بتاريخ
حكمه من أحداث ووقائع، لكنني سأحاول بشكل مبسط استعراض الطرائق التي تم
تناول شخصية صلاح الدين من خلالها بغية إقحامها في ايديولوجيات معاصرة
حاولت الاستحواذ على رمزية صلاح الدين في العقل العربي لصالحها.
فقد
اختلف التعاطي مع صلاح الدين بشكل كبير ما بين أصحاب المذاهب الفكرية
المختلفة في عالمنا العربي، من قوميين عرب وإسلاميين وحداثيين، فالعروبيون
مثلاً يرون في صلاح الدين بطلاً قومياً عربياً قاد "العرب" للنصر على
"الفرنجة"، وحرّر بيت المقدس، فهو الملك الصالح العادل الحكيم الزاهد، بل
إنه القدوة التي يحتذى بها حتى أنّ معظم القادة الذين رفعوا شعار القومية
العربية كانوا يحاولون سواء بشكل مباشر أو غير مباشر تقديم أنفسهم على
أنّهم "صلاح الدين الجديد"، ويبدو هذا الأسلوب جلياً في التعاطي مع شخصية
صلاح الدين في فيلم يوسف شاهين الشهير "الناصر صلاح الدين" الذي أنتج في
مصر عام 1963 حين كانت زعامة عبد الناصر القومية في أوج توهجها. الفيلم
نظرياً يبدو تحفة فنية بكلّ ما للكلمة من معنى، فقد جنّد له خيرة فناني
مصر في تلك الفترة مثال : حمدي غيث، توفيق الدقن، نادية لطفي، محمود
المليجي، ليلى فوزي، ليلى طاهر، صلاح نظمي، حسين رياض، عمر الحريري
وغيرهم، في حين لعب دور البطولة الفنان أحمد مظهر والذي كان أصلاً واحداً
من الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 23 يوليو / تموز التي أوصلت ناصر
للسلطة، في حين كتب قصة الفيلم الأديب الكبير يوسف السباعي وأخرجه المبدع
يوسف شاهين. لكن أيّ مشاهد للفيلم يمتلك حداً أدنى من المعرفة بتاريخ تلك
الحقبة التاريخية سيلاحظ كمّ المغالطات التي أقحمت في الفيلم عمداً وعن
سبق إصرار وترصّد، لجعل شخصية صلاح الدين شبيهة قدر المستطاع بالرئيس عبد
الناصر، فالحديث طوال الفيلم يدور عن "العرب" دون تحديد انتمائهم الديني
هل هم مسلمون أم مسيحيون، سنّة أم شيعة، علماً بأنّ الانتماء "الديني" بل
"المذهبي" تحديداً، لا "القومي" ولا "العرقي" كان هو المحرك للصراعات
السياسية والاجتماعية في تلك الحقبة التاريخية. بل إن الكاتب قد ذهب أبعد
من ذلك فقدّم لنا شخصية مسيحية تحارب في صفوف جيش صلاح الدين هي شخصية
"عيسى العوام" رغم أن الشخصية الحقيقية التي تحمل هذا الإسم كانت مسلمة
كما يذكر لنا القاضي بهاء الدين في كتابه "النوادر السلطانية"، والمؤكد أن
التحوير في هذه الشخصية كان الغرض منه إظهار الطبيعة العلمانية لفكرة
القومية العربية التي تقدم القومي على الديني، بل إن الفيلم يعج بالخطابات
الايديولوجية المدرجة على ألسنة شخوص الفيلم، كما هو حال الحديث الذي يدور
بين عيسى العوام "صلاح ذو الفقار" والفارسة الصليبية لويزا "نادية لطفي"
وهي تحاول الفرار منه في القدس بعد أن اعترف لها بحبّه، فنراه يقول لها
"أورشليم عربية، وماضينا أثبت أنها أكثر أماناً واحتراماً، بين أيدينا نحن
العرب، إلا أنك تفضلين أن تصدقي من يحوّل الدين إلى تجارة، من يحوّل
المحراب المقدّس إلى سوق، سوق يحتالون به على البسطاء، إدفع لتحصل على
البركة، وبعدها تتدفق الأموال على خزائن أوروبة، والحرب والموت والنار لمن
يجرؤ أن يمسّ هذا المورد العظيم للثروات"، أو حديث صلاح الدين "أحمد مظهر"
إلى أحد قواده في بداية الفيلم "أعزّ أماني يا حسام الدين أن يرفرف علم
الوحدة على الوطن العربي كله، بهذه الوحدة فقط نستطيع أن نحرر بيت المقدس
العربية من أيدي الفرنجة المغتصبين"، فمن يسمع مثل هذه الأحاديث التي يعج
بها الفيلم يشعر بأن هذه الكلمات صادرة عن أحد منظري الاتحاد الاشتراكي أو
عبد الناصر نفسه وهو يشرح مفاهيم معاصرة، لم تكن معروفة أصلاً في عصر صلاح
الدين كالامبريالية والعلمانية والقومية العربية.
فقد
كان صلاح الدين وفقاً لهذا المفهوم قومياً عربياً، علمانياً لا فرق عنده
بين مسلم ومسيحي، سنّي وشيعي، ما دام عربياً، زاهدا، عادلا، حكيما، يقدّر
العلم والعلماء، بل إنه هو نفسه كان عالماً في الكيمياء و الطب كما يقدمه
لنا الفيلم.. وفي الحقيقة فإنه من الممكن تعميم هذه النظرة على غالبية
الإنتاج الفني والأدبي المحكوم بفكر القومية العربية، ووفقاً لهذا المفهوم
ينظر كل عربي لصلاح الدين بنفس الطريقة بغض النظر عن انتمائه الديني،
فصلاح الدين هنا بطل قومي ورمز لكل أمة العرب، لكن هذه النظرة سرعان ما
تصطدم بحقائق تاريخية دامغة لا يمكن نكرانها، فصلاح الدين أصلاً كان
كردياً ولم يكن عربياً، وقد لعب دوره التاريخي الهام في تلك الحقبة بوصفه
"مسلماً" يقود "دولة إسلامية" لا بوصفه "عربياً " يقود "دولة عربية"، بل
إن التاريخ يذكر لنا بأن صلاح الدين قد ارتكب من المجازر بحق الشيعة ولا
سيما الفاطميين في مصر ما تقشعر له الأبدان ومما لا يمكن وصفه وفقاً
لمفاهيم اليوم إلا بأنه جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي تمّ على أساس
"مذهبي". وإذا نظرنا لكل هذه الأمور وفقا لزمانها ومكانها نرى بأن هذا كان
أمراً عادياً في ذلك الزمن، لكن القوميين العرب في محاولتهم لـ"ادلجة"
شخصية صلاح الدين حذفوا منها كل ما يتعارض مع عقيدتهم وحوّروا ما تبقى
ليتلاءم مع ما يريدون قوله، فخرجت شخصية صلاح الدين على أيديهم ممسوخة لا
تمت إلى الحقيقة التاريخية إلا بأقل الصلات، فالايديولوجيا عموماً لا
تكترث لتماسك وصدقية مقولاتها بقدر ما تهتمّ بفعالية تلك المقولات، وشخصية
صلاح الدين بكل مالها من شعبية بين العوام تغري أي قوة سياسية للاستيلاء
عليها وأدلجتها وفقاً لأهوائها حتى ولو كان ذلك على حساب الحقيقة
والتاريخ.
وعلى الضفة الأخرى يشعر المراقب لأول
وهلة بأن الإسلاميين أكثر واقعية في التعاطي مع شخصية صلاح الدين، فهؤلاء
لا ضير عندهم في أن يكون صلاح الدين كردياً كونه لا رابطة بين البشر
بالنسبة لهم أقوى من العصبية الدينية، كما أنه لا ضير في أن يكون صلاح
الدين قد حارب الشيعة وقتل منهم من قتل، فالشيعة بالنسبة لهؤلاء مثلهم مثل
الصليبيين أعداء لله والدين، فنرى الشيخ عائض القرني مثلاً يقول في قصيدته
"ثورة الحبّ" معلياً لقيمة العصبية الدينية مقللاً من أهمية العصبية
القومية :
عـروبة مــن؟ والـقـدس فـي الـقـيـد عـنوة تـولــول كالـحـسـناء فـي مـحـبــس الــقــدّ!
بــــلال لـعــمر الله شـــــرّف أمــتـي وهـــذا صـــلاح الـديــن فـــي أصـلــه كـــردي
لـنا نـســب الـتـقـوى ولا شـيء غـيـرهــا ولا فــخـــر إلا هـــــي لــحـــرّ ولا عــبـــد
وأنصار دين الله خير عباده من العرب والرومان والهند والسند
فإذا
كان القوميون العرب قد حاولوا في استحضارهم لشخصية صلاح الدين"عصرنة
التاريخ" أي تحوير الوقائع التاريخية لجعلها تتلاءم مع الايديولوجية
الحداثية خاصتهم وتقديمها كمادة دعائية لفكرهم وقادتهم، فإن الإسلاميين قد
قاموا بما هو عكس ذلك، أي الإتيان بصراعات التاريخ كما هي واعتبار أن
شيئاً لم يتغير منذ ذلك العصر وحتى اليوم، فأعداء الأمة بالنسبة لهم كما
كان الحال في عصر صلاح الدين هم كل البشر من غير المسلمين، و كل المسلمين
من أتباع المذاهب المخالفة لهم، فيصورون العالم الغربي وكأنه كتلة واحدة
سواء كان المقصود الصرب أم الأمريكيين أم الروس، في حين يرون العالم
الإسلامي أيضاً كتلة واحدة سواء كان المقصود العراق أو فلسطين أو كوسوفو
أو كشمير أو الشيشان، غير آخذين بعين الاعتبار ما تغير في العالم منذ عصر
الحروب الصليبية وحتى يومنا هذا وما استجد من حدود قومية لدول باتت تحتوي
مذاهب وأديانا مختلفة تعيش تحت راية الوحدة الوطنية. وبنفس الطريقة نرى
الشاعر العراقي الإخواني وليد الأعظمي يصوّر صراعات الحاضر على أنها حروب
صليبية على أمة الإسلام التي اشتاقت لصلاح الدين الذي غاب عنها ففتك بها
أعداؤها الكفار :
قالوا قد اختلفت ترك ويونان لا بل قد اختلفنا كفر وإيمان
حرب صليبية شعواء سافرة كالشمس ماعازها قصد وبرهان
قد غاب عنها صلاح الدين وأسفا فراح يفتك بالإسلام مطران
وحول كشمير قتلى لا عداد لهم في كل زاوية رأس وجثمان
يفدون أرواحهم للدين خالصة فما استكانوا ولا ذلوا ولا هانوا
فرمزية
صلاح الدين عند هؤلاء تتمدد عما هي عليه عند العروبيين لتشمل كل مكان على
سطح الأرض يخوض فيه المسلمون صراعاً سياسياً ما، حتى لو كان هذا الصراع
أساساً يخاض من أجل أهداف سياسية أو قومية أو اقتصادية لا علاقة لها
بالدين لا من قريب ولا من بعيد.
مقابل النظرتين
السابقتين نجد نظرة ثالثة لشخصية صلاح الدين لدى من يمكن أن نسميهم بدعاة
الحداثة من المفكرين الليبراليين العلمانيين، وهؤلاء ينظرون لشخصية صلاح
الدين تارة بالتجاهل خشية الاصطدام بالعامة التي تتعلق بصلاح الدين الذي
تحول إلى شخصية شبه أسطورية في نظرهم، وتارة أخرى باعتباره طاغية
وسفاحاً أكثر منه محرراً وقائداً، وهذه النظرة نلاحظها مثلاً عند الكاتب
السوري نبيل فياض، وكذلك لدى الكاتب المصري سيد القمني، وهؤلاء ينظرون
لصلاح الدين بعيون اليوم لا بعيون الأمس ومفاهيم ذلك الزمان، فلا يرون فيه
إلا سلطاناً مستبداً متعصباً دينياً سفاكاً للدماء، وهذه نظرة فيها الكثير
من الظلم لهذه الشخصية التاريخية حتى ولو كانت تستند إلى وقائع تاريخية
حقيقية، إذ تنتزعها من إطارها الزماني والمكاني لتحاكمها وفقاً لمفاهيم
ومعايير هذا الزمان التي تختلف بشكل جذريّ عن مفاهيم ومعايير القرن الثاني
عشر الميلادي الذي عاش فيه صلاح الدين.
صلاح
الدين مثله مثل كل الشخصيات في التاريخ، لم يكن قديساً ولا شيطاناً، كانت
له عيوبه وحسناته، له إنجازاته وسقطاته، والنظر إلى التاريخ في محاولة
لأدلجة هذا التاريخ تسيء للتاريخ وتشوّهه مما ينعكس سلباً على الجماهير
التي تتلقى هذا التاريخ الذي أعيدت صناعته وتفسيره وفقاً لأهواء هؤلاء
الصناع والمفسرين، لننظر للأحداث والشخصيات التاريخية في إطارها الزماني
والمكاني، ولننظر للحاضر والمستقبل بعيون زماننا الذي نعيش، ولنعي بأن
الزمان اليوم قد تغير عما كان عليه الحال قبل تسعة قرون، الغرب تغير
كثيراً ونحن أيضاً تغيرنا، وإذا كان هنالك بعض نقاط التشابه بين الحاضر
والماضي فهذا لا يعني أن نتمثل الماضي بكل تفاصيله في حياتنا المعاصرة،
ولا أن نقطع صلتنا بهذا الماضي بشكل كامل، بل أن نعود إليه للدرس والإفادة
و التحليل المنطقي العقلاني فقط، لا لأجل تحويره وإعادة تدويره لاستخدامه
كمادة دعائية في صراعات اليوم بشكل ينافي الحقائق التاريخية ويشوه العقل
والذاكرة، ولا لأجل إعادة استنساخه بكل ما فيه من صراعات وعصبيات على
طريقة النسخ الكربونية دون تفكير أو إعمال للعقل والمنطق فتكون النتيجة
إعادة إحياء عصبيات مذهبية ودينية يفترض بأن زمانها قد ذهب وولّى، ولا
لمحاكمته على ضوء مفاهيم القرن الواحد والعشرين وشرعة حقوق الإنسان والفكر
الحداثي اللاطائفي وهو نتاج القرن الثاني عشر الميلادي الذي كانت فيه كل
دول العالم دولاً دينية وكل الصراعات فيه صراعات تكتسي لبوس الدين
والطائفة. ولنتذكر بأن حاجتنا اليوم ليست إلى صلاح دين جديد ولا إلى غيره
من شخصيات أدت ما عليها من أدوار في مسرحية التاريخ وذهبت ولن تعود، لأن
التاريخ يسير إلى الأمام، لا يتوقف ولا يرجع إلى الخلف، فلكل زمن مفاهيم
تختلف عما سبقه وعما سيأتي من بعده، فنحن -فقط نحن- من سنصنع حاضرنا
ومستقبلنا بعقولنا وسواعدنا وقلوبنا.