تشهد الساحة الثقافية الفرنسية هذه الأيام نقاشا وسجالا غير مسبوقين حول
التحليل النفسي، وحول سيغموند فرويد خصوصا، وحدّة السجال ازدادت قوة، كما
يحصل دائما، بعد انخراط وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية في
لُجّته. والأصل في كل هذا النقاش المثير، والذي يذكر بسبعينات القرن
الماضي، هو ظهور كتاب منذ أيام قليلة للمتفلسف الفرنسي ميشيل أونفري تحت
عنوان دالّ هو "أفول صنم : الأكذوبة الفرويدية" عن دار النشر كراسي(1). يقع
الكتاب في أكثر من 600 صفحة، ومداره، كما يخبر بذلك صاحبه، هو كشف "حقيقة"
فرويد، وبيان "أكذوبة" هذا العلم الذي شغل الدنيا مند قرن ونيف والمسمّى
بالتحليل النفسي، وعماده في سبيل هذه الغاية هو "سرد" بعض الوقائع المجهولة
من حياة الطبيب المفكر، والتي لم تعلن للناس قبل اليوم، وقائع استمدّها هو
من نصين اثنين أوّلهما رسائل الطبيب النمساوي إلى المحلّل "فليس" Fliess،
والتي ترجمت ونشرت عن "المطابع الجامعية الفرنسية "(2)، وثانيهما نصّ جماعي
صدر تحت عنوان "الكتاب الأسود للتحليل النفسي"(3). وصدور كتاب أونفري
الجديد، مع ما طبعه من شراسة في الهجوم على فرويد إنسانا ومفكّرا من جهة،
وقساوة في الأحكام تجاه المحللين الذين هم، من منظوره، مجرد "طائفة" دينية
جديدة تستغلّ سلطتها الرمزية لابتزاز المرضى؛ لم يكن ليمرّ دون أن يثير
النقاش الذي أثار وما يزال، خصوصا وأن فرنسا اليوم هي أحد المعاقل الكبرى
للتحليل النفسي في العالم، وهكذا فقد برز عدد من كبار المحللين للردّ على
الكاتب وبيان تهافت دعاواه، وأوّل من فعل كان المحلل الشهير، تلميذ جاك
لاكان وصهره، "جاك ألان ميلر" Jacques Alain Miller، لتليه بعد ذلك مؤرّخة
التحليل النفسي "إليزابيت رودينيسكو"Élisabeth Roudinesco في مقالات طويلة
نشرت تباعا على صفحات "لوموند" و "ليبيراسيون"، وهو ما دفع أونفري إلى
الردّ من جديد، وهكذا احتدّ السجال، وآخر فصوله استعداد عدد من المحللين،
بمعية رودينسكو، لإصدار كتاب مشترك للردّ على النص المذكور في غضون أسابيع.
شخصيا، وحتى أكون موضوعيا، لم أقرأ الكتاب بعد، لأني طلبته ولم يصلني بعد،
ولكني في المقابل أدركت أهمّ الأطروحات الأفكار التي ينافح عنها، في
المقالات التي قدم صاحبه للتعريف به، وفي المداخلات التلفزيونية التي أجرى
منذ صدور الكتاب – وهي كثيرة جدا– وكذا في مناظرته مع ميلر التي نشرت مجلة
"فلسفة"، وفي مقالات رودينسكو المذكورة سلفا. كما أنني، من ناحية ثانية،
قرأت منذ سنتين "الكتاب الأسود للتحليل النفسي" والذي هو السند الأساسي
لأونفري في نصه، إضافة إلى أني قرأت كل دروس الرجل في ما يسميه بـ"الجامعات
الشعبية" بمدينة "كون " Caen الفرنسية، والتي خصص أكثر من عشرة حصص فيها
السنة الماضية لفرويد، وهي الحصص التي يقول عنها هو نفسه بأنها "تلخيص
مركّز " لما يتضمنه كتابه الجديد.
ولأنني لم أقرأ الكتاب بعد، ولو أني أعرف أهمّ أطروحاته، فإني سألتزم في
مناقشتي لهذا الكتاب، ومحاولة ردي على بعض أفكار صاحبه، بالبقاء في حدود ما
هو عامّ، على أن أعود للموضوع بتفصيل حالما أحصل على النص.
أعرف ميشيل أونفري جيدا كقارئ، بل وتابعته حين حضر للمعهد الفرنسي بالدار
البيضاء، وأملك عددا كبيرا من كتبه، وعلى رأسها نصوصه حول "تاريخ الفلسفة
المضاد"، كما أني أتابع كل نقاشاته في الإعلام، منذ أن سطع اسمه مع نصه
المعنون بـ "مقال في الإلحاد". والحقيقة أني شخصيا أجد الرجل - على المستوى
الفلسفي الصرف - متواضعا، أو على الأقل غير مقنع، لأنه فيلسوف -كما وصفه
أحد الأصدقاء- "لايت" (light)، فيلسوف خفيف، فهو لا ينتج نصوصا فلسفية
خالصة، ولا يشتغل بما هو تقني في الفكر، بل كل أعماله هي إما أطروحات
ذاتية، وإما أبحاث على هامش الفلسفة، أي في حياة الفلاسفة وأشخاصهم، وهذا
النوع من البحث مهمّ وضروريّ، وأنا شخصيا أثمّنه، ولكنه ليس فلسفة. ثم هناك
خاصية أخرى تجعلني أحتاط من هذا الرجل، وهو طابعه السجالي، فالأصل في جزء
كبير من شهرة أونفري لا يعود للقيمة النظرية لما يكتب، بل لقوّة السجالات
التي يثير، والسجال مطلوب في الفكر، ولكن ليس كهدف في ذاته، بل كنتيجة
بعدية، أمّا أن تكون كلّ عدّة المفكر هي طاقته السجالية، فهذا أمر غير
محمود بالتأكيد. أضيف إلى هذه الطبيعة السجالية لأونفري عنصرين اثنين آخرين
يحدّان من قيمته عندي، أوّلهما امتلاء نصوصه بالأحكام "القطعية " والمواقف
"الذاتية"، وهكذا فهايدغر بالنسبة له هو "متسلّق نازي"، وكانط شوفينيّ
عنصريّ كاره للنساء، وأفلاطون أرستقراطي أثيني حاقد على خصومه من مثل
ديمقريط، وهلمّ جرّا… ولا يكاد يُستثنى من هذه الأحكام الرعناء الغليظة
عنده إلا نيتشه، فأونفري يعتبر نفسه سليلا لنيتشه، رغم ما في هذا الأمر من
نظر. ثاني العناصر التي تجعلني أحتاط من هذا الرجل هو أنه "نجم" تلفزيوني،
ولعل هذا العنصر نتيجة لسابقه، لأن التلفزيون، بسبب من منطق الفرجة الذي
يحتكم إليه، يحب المثقفين الممتلئين بالأحكام القطعية، والمتحدثين الذين
يتقنون السجال، وهذا ما يجدونه في أونفري، فلا وجود لبرنامج فرنسيّ شهير لم
يستدع الرجل، وهذا ما تزكّى في المدة الأخيرة إثر صدور الكتاب المذكور،
فرأيناه ضيفا حتى في البرامج ذات الطابع الترفيهي الصرف كما في حصة " لوران
روكيي" Ruquier.
لهذه الأسباب كلها، ولأسباب أخرى قد يأتي ذكرها، فإني شخصيا لا أقتنع
بأونفري، فهو مثقف بالتأكيد، وربما هو مثقّف قويّ، وأعماله غزيرة ، ولكنه
ليس عندي أبدا فيلسوفا، أو هو في أحسن الأحوال فيلسوف على شاكلة برنارد
هنري ليفي وباسكال بروكنر ولوك فيري وعصبة ما سمّي منذ فترة بـ"الفلاسفة
الجدد"، رغم النفور الذي يعلنه هو نفسه تجاه هؤلاء، ورغم أني لا أساوي كلية
بينه وبينهم في القيمة.
بناء على هذه الاعتبارات العامة يمكنني أن أقول، وبخصوص الموضوع الذي
يهمنا نحن في هذا المقال ( فرويد والحملة التي يشنّها عليه هذا الرجل)،
بأنّ هذا البحث، وعلى الرغم من حجم الهالة التي يأخذ، هو ضعيف ولا يحمل
قيمة نظرية كبيرة، والعلّة في ذلك عندي أنه يقع في جملة من الأخطاء
والعيوب أعرضها مجملة كالتالي :
أوّلا؛ أنّ جزءا مهمّا ممّا جاء في هذا النص ليس جديدا، بل ذكر سابقا في
نص "الكتاب الأسود للتحليل النفسي"، بل إنّ جزءا مهمّا من هذه الانتقادات
عاصره فرويد نفسه وهو حيّ.
ثانيا؛ أنه يحاكم فرويد خارج سياقه التاريخي، أي يسعى للتفكير في "حياة"
فرويد ومواقفه، بمعيار القيم الإنسانية والاجتماعية التي نحياها اليوم.
ثالثا؛ أنه يعتمد في نقده على نزعة أخلاقوية فجّة، بل وعلى نوع من "التحريض" الغوغائي.
رابعا؛ أنه يدافع، من حيث يشعر أو لا يشعر، عن رؤية تقنية "سلوكية"
للإنسان، ويضفي الشرعية على التصور الكيميائي، رغم أنّه يعلن معاداته له في
الظاهر.
1- الجزء الثاني من "الكتاب الأسود للتحليل النفسي" : في سنة 2005 صدر كتاب من تأليف أربعين كاتبا حمل عنوان "الكتاب الأسود
للتحليل النفسي"، حظي الكتاب، كما كتاب أنفري اليوم، بدعاية إعلامية كبيرة،
على أنني شخصيا، بعد قراءتي للكتاب، شعرت بخيبة أمل، لأني لم أجد فيه
جديدا، صحيح أنه يقدم معلومات حول حياة فرويد، وعلاقته بزوجته ووالده
وعلاقته بأتباعه من المحللين النفسيين الأوائل؛ وصحيح أيضا أنه يكشف
معلومات حول حياته الحميمية وبعض الأسرار الأخرى، ولكنه في المستوى الذي
يهمنا كمهتمين - نظريات التحليل النفسي المؤسِّسة- لم يقدّم شيئا، وهو لهذا
بدا لي، قياسا إلى نقد دريدا ودولوز وغواتاري للتحليل النفسي، وقبلهم
أدورنو وماركوز لفرويد، نصا تافها. ثم إنّ كلّ التهم التي وجهت لفرويد في
هذا الكتاب عاشها هو نفسه في حياته، فلا تكاد توجد سبّة أو تهمة أو خصلة
سيئة لم تحمل على فرويد، وجزء كبير منها يفوق في حدّته ما أورده "الكتاب
الأسود"، ففرويد أحرقت كتبه في بداية الثلاثينات، وهجّر من بلده كرها،
وكانت حياته مهددة لمدة طويلة من طرف النظام النازي، وما تزال إلى اليوم
الكنيسة المسيحية تعتبر نظرياته تعاليم "شيطانية"، وهوجم من طرف الماركسية،
واعتبرت نصوصه "ترفا" نظريا ودليلا على أزمة اجتماعية للطبقة البرجوازية،
وغيرها من التهم كثير. لهذا فإن حديث الكتاب الأسود- ومعه أنفري اليوم- عن
فرويد باعتباره مجرد "بتريارك" ذكوري أراد أن يجعل من تجاربه النفسية
الخاصة نموذجا كونيا، بحيث حوّل كرهه الشخصي لوالده، ورؤيته لوالدته عارية
وهو طفل إلى ثوابت نفسية كونية؛ حديث مثل هذا، يردّ كل انفتاحات التحليل
النفسي إلى هذا المستوى، هو شبيه جدا بما قاله ويقوله خصوم داروين عن
داروين، من كون قوله بأن أصل الإنسان قرد، ناتج عن كونه هو نفسه شبيها
بالقرد؛ وكلام من هذا القبيل هو إلى السباب المنحطّ أقرب منه إلى النقد
الموضوعي؛ ولهذا فإني أعتبر شخصيا أن كتاب أونفري ليس سوى تتمة وتقوية لنفس
الروح التي دافع عنها مؤلفو "الكتاب الأسود"، وهذا ما يزكّيه هو نفسه حين
يقرّر بأن الموقف من التحليل النفسي تحدّد عنده حينما قرأ هذا الكتاب.
لا جديد تحت الشمس إذن، فإذا ما حذفنا الضجة الإعلامية والسند الإعلامي
الواضح الممنوح لأونفري، لسبب يحتاج هو نفسه لتحليل نفسي؛ لا يبقى هناك شيء
صلب.
2- خطأ التاريخ والسياق : يعرض أونفري من بين ما يعرض من حجج في هجومه على فرويد، لمجموعة من
المعلومات يقدّمها باعتبارها حقائق، فيقول مثلا بأن الرجل كان معجبا
بموسوليني، وأنه أهداه نصا عن الحرب، وأنه تعاون مع "غورينغ" النازي في
إنشاء معهد يحمل اسمه، بل وكان عضوا في لجنة تابعة للنظام النازي، وأشياء
أخرى كثيرة. لست أريد أن أناقش هذه المعلومات التي أغلبها فيه نظر كما وضح
المحقّقون، ولكني أريد أن أنبه إلى حجم الخلط التاريخي والثقافي الذي يسقط
فيه أونفري. أول الأمور أن أحكامنا نحن اليوم حول موسوليني لم تكن هي أحكام
فترة فرويد، فموسوليني الذي تحدث عنه فرويد كان موضوع إعجاب مجموعة من
الساسة والمثقفين حينها، بل إن خصوما لاحقين كثرا (تشرشيل- إيزنهاور)
راسلوه وأثنوا عليه، وأوربا كلها كانت ترى فيه قائدا محترما، لكن الصورة
تبدلت بعد الحرب العالمية الثانية، فموسوليني الذي نعرف نحن اليوم، هو حليف
هيتلر في الحرب العالمية الثانية، والحال أن فرويد لم يعش هذه الحرب ولم
يعرف أطوارها، لأنه سيموت قبل اندلاعها، وبالتالي فمحاكمة مواقف فرويد من
موسوليني في تلك الفترة، بمعاييرنا نحن اليوم، هو خطأ لا يغتفر لشخص يقدّم
نفسه كفيلسوف، بل هو نوع من التحريض المجاني على الرجل، فالشرط في الفلسفة
هو تحصيل "الوعي التاريخي"، وهذا غير متحقق مع أونفري. والغريب في الأمر أن
أونفري، الذي يعتبر نفسه "نيتشويا" حيويا مدافعا عن تصور "شمسي" عن
العالم، يقدم هذه الحجة نفسها في دفاعه – وعن حق تماما – عن نيتشه ضدّ كلّ
من يتّهمه بكونه مهّد للنازية (4)، ولكنه عندما يأتي لفرويد يصيبه العمى؛
نفس الشيء يفعله حين يتهم فرويد بكونه كارها للمثلية الجنسية وأبويا
متسلطا، فهو يجهد نفسه الجهد لكي يثبت حكايا وإشاعات أطلقت حينها حول فرويد
من طرف خصومه في هذا الاتجاه، ولا ينتبه إلى أن بإمكان أي واحد منا أن
يقول له : ماذا عن نيتشه الذي يمثل بالنسبة إليه بحسب زعمه المرجع الفلسفي
الأهم ؟ أَوَلا توجد نصوص صريحة في معاداة السامية والمرأة عند نيتشه ؟ لا
أعتقد أن هناك نصوصا أوضح- إذا ما أردنا أن نجمد على ظاهر النصوص كما يفعل
هو – من نصوص نيتشه بهذا المعنى، ولهذا فإني أتساءل كيف يسوّغ السيد أونفري
لنفسه أن يتهم فرويد وقبله كانط بكل ذلك (5)، ويتمحّل التمحّل في رفع
التهمة عن نيتشه رغم صريح النصوص؟
لا مسوغ إلا لانتقائية، والحال أنّ الفيلسوف لا ينتقي، ولا يغفل شرط
التاريخ، الفيلسوف يميز ويؤطر ويأخذ الأمور في سياقها حتى لا يخطئ، هذا إن
كانت أصلا المرويات التي يحكي عن فرويد صحيحة، وإلا فجلها خاطئ كما يثبت
المحققون (6).
3 - التحريض الغوغائي : أثارني فيما سمعت وشاهدت عند أونفري من هذه القضية أمر آخر، هو نزعته
الأخلاقوية التحريضية، بل والغوغائية في نقد فرويد، فيقول مثلا بأنّ فرويد
كان على علاقة بأخت زوجته، وأنّه كان ينام في حصص العلاج، وأنه كان يطالب
مرضاه بأسعار باهظة، وأن الرجل كان عاشقا للنساء، ويطالب المحللين بأن يكون
المقابل غاليا ويُؤدّى عينا، ثم يستدرك بلغة غوغائية فيقول "وماذا عن
الفقراء" ؟
لن أناقش مدى صحة هذه المعلومات، بل سأناقش منطق أونفري في أقواله، هبْ
أنّ فرويد كان يعشق النساء، وأنه كان على علاقة بواحدة من أصهاره، وأنه كان
ماجنا، ثم ماذا بعد؟ ما دخل هذه السيرة الأخلاقية السيئة في المعرفة ؟
هايدغر أيضا كان على علاقة بحنّا أريندت طالبته، ونيتشه عشق زوجة صديقه
كوزيما فاغنر، وسارتر عاشر دوبوفوار دون أي رابط، وقبل هؤلاء جميعا كان
سقراط يفتخر بالفتيان الذين يحبّ، فهل يغير هذا من الأمر شيئا ؟
قد أقبل هذا النقد من شخص أخلاقوي يحب محاكمة الحياة الخاصة للناس، أو من
رجل دين يحب أن يفرض على الناس تصورا خاصا عن العلاقة بالجنس و الجسد ،
وأما من شخص يدعي تجاوز الأساس الأخلاقي للدين (7) ويعتبر نفسه سليلا
للتيارات الوثنية païennes القديمة، وأنه داعية حرية، وأنه سليل برودون
وغويو، ثم يعمد إلى تحريض غرائز الناس الأخلاقوية على فرويد بهذا الجهد،
فهذا مدعاة للعجب. وكأن السيد أونفري لا يعرف بأن الحياة الخاصة للأشخاص لا
دخل فيها لأحد، وأن كل ما يحصل في العالم الحديث بين شخصين بالغين عاقلين
برضاهما هو مقبول؛ وشيئان لا يناقشان عند العقلاء: حرية العقيدة، وحرية
الاختيارات الجنسية، وكل ضرب أو تشكيك في هذه الحرية هو مزايدة أخلاقوية
تمتح من الأساس الديكتاتوري للدين، وإلا فليكفّ السيد أونفري عن تمجيد
الماركيز "دو ساد" و"ساشر مازوش" ونيتشه كما يفعل في نصوصه، وليعلن نفسه
كما هو، أخلاقويا دينيا.
أما بخصوص القول بأن فرويد كان يدعو لأداء مقابل باهظ مقابل حصصه، ونقدا،
فذلك لاعتبارات تتعلق بالتحليل النفسي ذاته، وتلك من التقنيات التي تعتمد
حتى لا يحصل "التحويل" transfert، إذ إن العلاج يفشل حين يحس المعالج بأن
بينه وبين المحلل علاقة إنسانية؛ و التذكير بموضوعية العلاقة يحصل في لحظة
الأداء، وأن لا يفهم شخص في حجم أونفري هذه الحقيقة فهذا أمر مؤسف، وأن
تكون حجته في ذلك كله هي أن يقول أمام المشاهدين في برنامج تلفزي "وماذا عن
الفقراء ؟" فهذا مؤسف أكثر، لأن هذا مجرد تحريض غوغائي، وإلا فإن الفقر
والغنى نسبيّان جدّا، ومقدار الحصة يتحدد قياسا لمدخول المريض نفسه.
وبما أن أنفري من القائلين بأن حياة الأشخاص هي فكرهم، وبما أنه يحب أن
يحاكم الفكر بالحياة، وأنا أوافق على جزء كبير من هذه الفكرة؛ فقد كان عليه
أن ينظر في نهاية فرويد مثلا، كان عليه أن يعود لنص إدمونسون ويحكي تجربة
موت سيغموند فرويد(8)، فشخصيا لا أكاد أجد فيلسوفا قبِل بتلك الرفعة فكرة
الموت كما فعل فرويد، إذ بعد أن اضطر للنزوح من بلده إلى المنفى، وإصابته
بسرطان الفك، بدأ فكه يتآكل، وكان في الفترة الأخيرة من حياته منعزلا لا
أحد يقربه حتى كلابه، بسبب الرائحة المقززة التي كانت تصدر من فكه، فاختار
وبروح رواقية عالية، أن يضع حدا لحياته بحقنة، وبرضىً تام، وما أظنّ من
يختار مصيرا كهذا ويقبل به إنسانا مريضا أو استغلاليا أو صغير النفس كما
يزعم أونفري.
قبل أن أختم واستباقا لما سيأتي في نص تفصيلي قادم، أودّ أن أطرح سؤالا
أخيرا. في ماذا يصب هذا الهجوم الشرس على التحليل النفسي ؟ إلى ماذا يؤدي
كل هذا الهجوم المدجج بكل وسائل الدعاية والإعلام* والذي ليس هجوم أونفري
إلا حلقة واحدة فيه ؟
يصب في نظري في شيء واحد هو تقوية دعوى العلاج السلوكي التقني المباشر،
وتحويل العلاج إلى قضية كيميائية ترعاها شركات الأدوية العابرة للقارات
(عدد كبير من نصوص الكتاب الأسود للتحليل النفسي كان دعاية مباشرة للعلاج
السلوكي ومدحا لنتائجه)؛ وتقوية الرأسمال ومجتمع التدبير التقني للحشود،
وهو المجتمع الذي ما فتئ السيد أونفري، وللمفارقة، يعلن أنه يشتغل ضده،
ويسعى لتقويضه؛ والرهان ليس بسيطا إذا علمنا أن في فرنسا وحدها هناك أكثر
من ثمانية مليون شخص تحت رعاية التحليل النفسي أو أشكال العلاج المشتقة
منه.