نُشرت على موقع الأوان يوم الخميس فاتح نيسان (أبريل) 2010 ضمن ركن (خارج الإطار) مادّة بعنوان:
"إبطال فتوى ابن تيمية المعروفة بفتوى "ماردين": اليوم، لا دار إسلام ولا دار كفر!"،
تناولت خبر إعلان عدد من الفقهاء المسلمين عن إبطال فتوى لابن تيمية
الملقّب بـ "شيخ الإسلام" كان قد أفتى بها قبل سبعة قرون، وقسّم العالم
بمقتضاها إلى "دار إسلام ودار حرب". و دار الإسلام يقصد بها البلدان التي
يسيطر عليها المسلمون وتقع تحت سلطتهم، أمّا "دار الحرب" ـ وتسمّى أيضاً
"دار كفر"ـ فهي ما عدا ذلك، أي أنّها تشمل الأراضي التي يسيطر عليها غير
المسلمين، أيّاً يكن دينهم أو معتقدهم. وبحسب الخبر فقد جاء الإعلان عن عدم
صلاحية تلك الفتوى وأنّه "لا يمكن استخدامها في زمن العولمة الذي تحترم
فيه حرية العقيدة وحقوق الإنسان" في نصّ البيان الصادر عن مؤتمر عُقد لهذه
الغاية في مدينة (ماردين) التركيّة، والتي اقترن اسمها بالفتوى المذكورة.
وعلى غرار معظم ما ينشره (الأوان) في الشأن الإسلاميّ، فقد أثار الموضوع
ردود أفعال متباينة، بين مؤيّد للحدث ومعارضٍ بشدّة له، كما تشي بذلك
التعليقات التي تلت المادة.
بعيداً عن المؤيّدين أو المعارضين، فإنّ ما جرى في مؤتمر (ماردين) يعتبر
نقلة نوعيّة في طريقة التعامل مع تراث الفقه الإسلامي، خصوصاً وأنّ المسألة
تتعلّق بشخصيّة تعتبر من أعمدة ذلك الفقه وتراثه بحجم "شيخ الإسلام ابن
تيمية". ثمّ إنّ انعقاد المؤتمر في دولة إسلامُها سنّيّ، ومن قبل رجال دين
سنّة، مؤشّر لافت يعطي أهمّية إضافية للحدث. فالمعنيّ كما هو معروف علم من
أعلام السنّة، ومراجعة فتوى من فتاويه وإبطالها بعد أن صمدت مئات السنين،
لهو أمر يستحقّ الوقوف عنده ودعمه وتشجيعه. خصوصاً بعد أن أعيد إحياؤها في
السنوات القليلة الماضية بقوّة، على أيدي تيارّات ما يُسمّى "السلفية
الجهادية"، التي اعتمدت عليها حجّةَ شرعيّةً وسندًا فقهيّا لتبرير
"الغزوات" التي تقوم بها في جنونها "المقدّس" ضدّ "دار الكفر والكفّار".
لعلّ هذا المقام هو خير مناسبة للتذكير بما كنت قد اقترحته سابقاً ضمن مقال بعنوان
"دعوة إلى ثقافة نقدية" (منشور على موقع الأوان بتاريخ 27 /2/ 2009) حيث دعوت "إلى البدء بمشروع
القاموس العربي الإسلامي النقديّ"، على غرار "القاموس التاريخيّ النقديّ"
الذي وضعه المفكّر الفرنسي بيير بايل (ت1706) "لتصحيح أخطاء من سبقوه من
المؤلّفين وواضعي القواميس".
بالعودة إلى الفتوى وإبطالها، فإنّنا نعلم مدى رواج سوق الفتاوى في
أيّامنا هذه وازدهارها الكبير، حتّى أنّ بعضها يزيد في غلوّه عن كلّ ما
حوَته بطون كتب التراث جميعاً. كما أنّ نبش فتاوى منسيّة من هنا وأخرى من
هناك خدمةً لمصلحة ما، أو بحثاً عن التشويق والشهرة، بات من الأمور الشائعة
والتي تثير ضجّةً من وقت لآخر (فتوى إرضاع الكبير مثلاً).
وإن سار غالبيّة الإسلاميّين وبعضٌ من المسلمين، على مبدإ تنزيه "السلف
الصالح" وتقديس ما كتبوه من آراءٍ واجتهاداتٍ، فإنّ الفتوى ليست نصّاً
شرعيّاً ملزماً كما هو حال القرآن أو الأحاديث النبوية. فالفتوى تعبّر عن
طريقة فهم الشخص المستفتَى، وحكمه في قضيّة معيّنة لم يرد فيها نصّ واضح
وصريح، وبالتالي رأيه في تلك القضيّة. ذلك الرأي الذي يُفترض أن يبنيه
مستخدماً قواعد أصول الفقه وأدواته، كالقياس والاستحسان والاستنباط
والمصالح المرسلة وسدّ الذرائع . . وغيرها. وغالباً ما يستند صاحب الفتوى
على نصوص من القرآن أو السنّة، تتناول قضايا مشابهة لموضوعها، ليدعم بها
فتواه.
لكنّ السؤال الذي يجب طرحه: إذا كان من الممكن أن نشهد إبطال هذه الفتوى
أو تلك ممّا "لا يمكن استخدامه في زمن العولمة الذي تحترم فيه حريّة
العقيدة وحقوق الإنسان"، فما هي الكيفيّة التي يمكن من خلالها تجاوز نصوصٍ
إسلاميّةٍ "مقدّسة" ـ أو شبه مقدّسة ـ واضحة وصريحة، أخطر وأشدّ تأثيراً
وفتكاً؟!
ولبيان أهمّية التساؤل وواقعيّته، سنذكر تمثيلاً لا حصراً (حكم تارك
الصلاة) كما تبيّنه نصوص القرآن والسنّة، وما يترتب على ذلك الحكم في
الحياة وبعد الممات.
فقد جاء في القرآن: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات
فسوف يلقون غيّا" (مريم 59). وفي موضع آخر: "مَا سلككم في سقر/ قالوا لم نك
من المصلين" (المدّثر 42/43).
وبما أنّ (غيّاً) و(سقر) من أودية جهنّم، فإنّ وضوح النصّ وصراحته لا
يدعان مجالاً للشكّ في أنّ تارك الصلاة مأواه جهنّم وبئس المصير، أي: كافر.
وجاء عن نبيّ الإسلام (محمّد بن عبد الله) قوله "بين الرجل وبين الشرك،
والكفر، ترك الصلاة" (رواه مسلم عن جابر بن عبد الله، عن النبيّ، في
"الإيمان" باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82).
وعن بريدة بن الحصيب، قال: سمعت رسول الله، يقول "العهد الذي بيننا وبينهم
الصلاة، فمن تركها فقد كفر (رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجه).
والأمثلة التي سلفت، هي القاسم المشترك لدى كافة الفتاوى التي يمكن
الاطّلاع عليها في مختلف المواقع والمنتديات الإسلامية، والتي أكّدت كفر
تارك الصلاة، وما لذلك من تبعات نوجزها بالآتي:
لا يُسلّم عليه ولا يُردُّ عليه إذا سلّم ولا تُجاب دعوته. لا يُزوّج
بمسلمة، فإن عُقد له فالنكاح باطل، حسب القرآن "فإن علمتموهن مؤمنات فلا
ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن"( الممتحنة 10).
لا يُزار في بيته. لا يُعاد إذا مرض. لا يُساكن في منزل. يُمنع من التصرّف
في ماله، ولا يرث أحداً من أقاربه، تبعاً للحديث "لا يرث الكافرُ المسلم".
وأخيراً "يُقتل كفراً بعد أن يؤتى به إلى الإمام أو القاضي فيأمره بالصلاة
ويبيّن له كفر تاركها، فإن أبى أن يصلّي حتى خرج وقت الصلاة الحاضرة
قُتِل، ولا يُستتاب، ومن أهل السنّة من قال يُستتاب ثلاثاً، والراجح
الأوّل"!!
ولا تنتهي رحلة تارك الصلاة مع تبعات فعلته عند هذا الحدّ، بل إنّها تمتدّ إلى ما بعد الممات:
"لا يُغسل ولا يُكفن، ويُدفن في ملابسه. لا يُصلّى عليه، قال تعالى: ولا
تصلِّ على أحد منهم مات أبداً. لا يُدفن في مقابر المسلمين، وإنما تحفر له
حفرة في الصحراء فيُوارى فيها. لا يشيّعه أحد من المسلمين. لا تعتدّ عليه
زوجه إن لم يُفرَّق بينهما من قبل. لا يرثه أهله لقوله صلى الله عليه وسلم:
لا يرث المسلمُ الكافر، ويكون ماله لبيت مال المسلمين، وقيل يصرف منه على
ورثته. لا يُدعى له بالرحمة، ولا يُستغفر له، ولا يُزار قبره. تحرم عليه
الجنّة، ويخلد في النار مع قارون، وهامان، وأبيِّ بن خلف، وغيرهم من أئمة
الكفر. يُحرم من شفاعة سيد الأبرار، ومن شفاعة غيره" !!!
ماذا بعد كلّ هذه الأحكام المبنية على نصوص مقدّسة، فيما لو جاء من يريد تطبيق شرع الدّين وصحيحه؟!
أجزم أنّ نسبة كبيرة من المسلمين العاديّين مؤمنون ويفخرون بإسلامهم،
لكنّهم لا يصلّون أو لنقل لا يصلّون دائماً (خمس مرّات في اليوم/ سبعة أيام
في الأسبوع)، وربّما سيفاجئون بهذه "الأحكام"، وقد يقول قائل: "ليس هذا هو
الإسلام، بل إنّ هذا لا يعدو أن يكون مجرّد شطحات لمتعصّبين، لا يمثّلون
الإسلام ولا يعبّرون عن تسامحه واعتداله". لهؤلاء نقول: إنّ ما سلف هو
نصوصٌ لا يُفترضُ بمسلم أن يشكّ في صحّتها. لكنّه لو تجرّأ سيستطيع ـ كما
نعتقد ـ أن يعيد النظر في صحّة استخدامها، أو في صلاحيتها لزمننا الحاضر
وحياتنا المعاصرة، فيجعل بذلك من الممكن الحديث عن إصلاح الدين وتكييفه مع
العصر. بغير ذلك، لن يؤدّي التمسّك بنصوصٍ كهذه إلاّ للمزيد من الاستنقاع
والركود في حياة مجتمعاتنا. حياة بتنا فيها متخلّفين عن قطار الحضارة
الإنسانية جمعاء، في زمنٍ باتت فيه حقوق الإنسان وعلى رأسها حرّية الاعتقاد
من بداهات مئات ملايين البشر، الذين نشاطرهم العيش على هذا الكوكب، دون أن
ندرك كم سنخسر إذا لم نحسِّن هذا العيش.