التّقديم:جيورجيو آقمبن Giorgio Agamben (ولد بروما سنة 1942) هو أحد كبار
الفلاسفة الإيطاليّين، متخصّص في فكر هيدغر Heidegger، وهو كذلك من كبار
قرّاء والتر بنيامين Walter Benjamin، فقد اعتنى بنشر أعماله الكاملة
عنايته بيعقوب طاوبس Jacob Taubes (1)، وهو فوق كلّ ذلك مهتمّ بالفلسفة
الوسيطة والدّراسة الجنيالوجيّة لمقولات الحقوق والقانون. وتمثّل أعمال
ميشال فوكو مرجعا كبيرا عنده، فقد قدّم في شأنها قراءة شخصيّة أثارت جدلا
كبيرا. ومن الفلاسفة الّذين أثّروا في أعماله يمكن أن نسوق جاك دريدا
Jacques Derrida، وقي دبور Guy Debord، وحنّة أرندت Hannah Arendt، وآبي
واربورغ Aby Warburg، وكارل شميت Carl Schmitt، وكذلك فريدريك نيتشه
Friedrich Nietzsche. تحصّل سنة 2006 على الجائزة الأوروبيّة شارل فيون
للمقالة Le Prix européen de l’essai Charles Veillon (2).
عالج في آثاره مسائل متنوّعة إلاّ أنّه اشتهر بصفة خاصّة بأعماله في
الفلسفة السّياسيّة الّتي تدور على مفهوم "الإنسان المقدّس" " Homo Sacer
"، حيث درس بصفة خاصّة مسألةَ الحقوق، وتجاوزَ الحقوق، وسلطانَ السّيادة
pouvoir souverain. وقد أخذ من هذا المفهوم الأخير فكرة الوضع الاستثنائيّ
l’état d’exception الّذي يكاد يصبح غير منفصل عن الوضع العاديّ، مثلما أخذ
من فكر ميشال فوكو موضوع "سياسة الحياة" «la biopolitique» باعتبارها
أنموذج السّلطان المعاصر الّذي يتدخّل في حياة الأفراد ويتصرّف في
المواطنين على أنّهم مجرّد أحياء. وهو بذلك يمدّ جسرا بين متصوّر السّياسة
النّازيّ ومتصوّر السّياسة الغربي المعاصر.
وقد تجلّى ذلك بوضوح في كتابه "وسائل بلا غايات Moyens sans fins,
Paris, Payot & Rivages, 1995) وكتابه "الوضع الاستثنائي. État
d’exception, Homo Sacer II, 1, traduit par Joël Gayraud, Paris, Seuil,
2003"، حيث حلّل "المعتقلle camp " بما هو "فضاء سياسة الحياة المطلق".
فمقابل منوال المدينة الّذي يفترض أنّ السّياسة الغربيّة قد نهضت عليه منذ
أمد مديد، يضع آقمبن منوالا آخر، هو منوال المعتقل. وهو أنموذج من "تسييس
الحياة العارية" «la politisation de la vie nue ». بل هو يمثّل أنموذج
السّلطان العاديّ المعهود الجاري به اليوم. فبنية السّياسة الغربيّة عند
آقمبن تقوم على العزل والإقصاء وإسقاط الحقوق المدنيّة Le ban. وبذلك يكون
موضوع "سياسة الحياة" عند آقمبن هو "الحياة عارية"، «La vie nue » (zôé)،
الّتي تعني عند الإغريق مجرّد أن نحيا أو نعيش، وهي القاسم المشترك بين كلّ
الكائنات، الحيوان والإنسان والآلهة.
فموضوع السّيادة عند آقمبن هو الحياة عاريةً وقد اختصرت في صمت
اللاّجئين والمعتقلين والمطرودين المبعدين. هي حياة "الإنسان المقدّس Homo
sacer" المُهرق دمه (3) الّذي بُذل جسمه البيولوجيّ على نحو سافر، دون أدنى
وساطة، لقوّة التّأديب وقسوة العزل وقساوة الموت. وقد أثارت هذه القراءة
المخصوصة لفوكو جدلا شديدا خصوصا مع الفوكويّين، وبصفة أعمّ مع الّذين
قرؤوا موضوع "سياسة الحياة" قراءة سياسيّة (ماركسيّة بالتّحديد)، فقد
اعتبروا قراءة آقمبن قد طبّعت (من الطّبيعة) السّياسيّ.
ويمثّل كتابه "الملك والمجد" (4) الحلقة الرّابعة من أثره الكبير
"الإنسان المقدّس"، وبه يبلغ بعد سنوات من البحث عن جنيولوجيا السّلطان
منعرجا حاسما جسّمه سؤالان قد وجّها عمله في هذا الكتاب هما: 1) لماذا
اتّخذ السّلطان في الغرب شكل "اقتصاد" Oikonomia (بمعنى التّدبير)، أي
حكومة النّاس والأشياء؟ و2) إذا كان السّلطان قبل كلّ شيء حكومة، فلِم كان
محتاجا إلى المجد، أي إلى جهاز احتفاليّ وطقوسيّ قد رافقه منذ البداية؟
بهذين السّؤالين حاول جيورجيو آقمبن أن يعالج مفهوم الدّيمقراطيّة ويعيد
فهمه وتحليله على نحو فيلولوجيّ جنيالوجيّ بإرجاعه إلى أصوله وسياقاته
القديمة في مقالته "ملاحظة تمهيديّة في مفهوم الدّيمقراطيّة" الّتي تصدّرت
المقالات المجموعة في كتاب "Démocratie, dans quel état ?" (5).
***كلّ خطاب على لفظ «الدّيمقراطيّة» قد حُرِّف اليوم بلَبْسٍ أوّليّ يُدين
الّذين يستعملونه بسوء الفهم. فعمّ نتكلّم حينما نتحدّث عن الدّيمقراطيّة؟
وبأيّ عقلانيّة يتعلّق هذا اللّفظ بالضّبط؟ تبيّن الملاحظة وإن لم تكن
حذرة أنّ أولئك الّذين يجادلون اليوم في الدّيمقراطيّة، إنّما يفهمون تارة
من اللّفظ شكلا من دستور هيئة سياسيّة، وطورا فنّا في الحكم. فاللّفظ يحيل
إذن على تصوّريّة conceptualité القانون العامّ، ويحيل في الآن نفسه على
تصوّريّة الإجراء الإداريّ: فهو يعني شكل شرعيّة السّلطان مثلما يعني صيغ
ممارسته. وكما هو بديهيّ عند كلّ شخص، لمّا كان هذا اللّفظ يتعلّق في غالب
الأحيان، في الخطاب السّياسيّ المعاصر، بفنّ في الحكم ـ في حدّ ذاته، لا
شيء مخصوص فيه يبعث على الطّمأنينة ـ فإنّنا نفهم حرج الّذين مافتئوا
يستعملونه بكلّ نيّة صادقة في المعنى الأوّل.
فأن يكون لتشابك التّصوّريّتين ـ القضائيّة السّياسيّة من جهة،
والاقتصاديّة الإداريّة من جهة أخرى ـ جذور عميقة يعسر تفريقها فسيظهر ذلك
في المثال التّالي: حينما نجد عند قدماء التّفكير السّياسيّ الإغريقيّ كلمة
politeia ([وهي تصادفنا] دائما في إطار الجدال في مختلف أشكال politeia:
المونرشيّةmonarchie (6)، والأوليغرشيّة oligarchie (7)، والدّيمقراطيّة،
وكذلك parekbaseisأو انحرافاتها)، فإنّنا نُلفي المترجمين يؤدّون هذا
اللّفظ تارة بـ«دستور» وطورا بـ«حكم». وعلى ذلك النّحو، كانت الفقرة
[الواردة] في "دستور أثينا" (الفصلXXVII) حيث وصف أرسطو »ديماغوجيّة
«démagogie بيرقليس Périclès بـ[قوله] «dēmotikōteran synebē genesthai tēn
politeian»، قد أدّاها التّرجمان الإنقليزيّ بـ«the constitution became
still more democratic». ويضيف أرسطو بعده بالضّبط أنّ الجموع «apasan tēn
politeian mallan agein eis hautous» وهو ما أدّاه نفس التّرجمان
بـ«brought all the goverment more into their hands» (وبطبيعة الحال ترجمة
بـ brought all the constitution كما يقتضيه الانسجام ستكون مشكليّة).
فمن أين نجم هذا "ّالالتباس amphibologie" الحقيقيّ، هذا الغموض في
متصوّر السّياسة الأساسيّ الّذي يمثُل تارة بوصفه دستورا وطورا بصفته حكما؟
يكفي أن نشير هاهنا في تاريخ الفكر السّياسيّ الغربيّ إلى فقرتين تجلّى
فيهما هذا الغموض على نحو بديهيّ مخصوص. وردت [الفقرة] الأولى في كتاب
"السّياسة" (1279a25sqq.)، لمّا أفصح أرسطو عن مقصده من إحصاء مختلف أشكال
الدّستور (politeia) ودراستها: «ولمّا كان politeia و politeuma يعنيان
الشّيء نفسه، وأنّ politeuma هو سلطان المدن الأعلى (kyrion) فإنّه من
الضّروريّ أن يكون السّلطان خاصّا بواحد، أو بأفراد، أو بالسّواد الأعظم…».
وتقترح التّرجمات الجارية هنا: "لمّا كان الدّستور والحكم يعنيان الأمر
نفسه، وكان الحكم هو سلطان الدّولة الأعلى […].". وإن كان على ترجمةٍ أكثر
أمانة أن تحافظ على تجاور اللّفظين politeia (النّشاط السّياسيّ) و
politeuma (الشّيء السّياسيّ النّاتج منه)، فإنّه من الواضح أنّ محاولة
أرسطو تقليص الالتباس بواسطة هذه الصّورة الّتي يسمّيها kyrion هي المشكل
الجوهريّ في هذه الفقرة. وحتّى نستعمل ـ وإن حرّفنا تحريفا طفيفا الرّسم ـ
اصطلاحيّة حديثة، ينعقد هنا السّلطان المكوِّن (بالكسر) (politeia)
والسّلطان المكوَّن (بالفتح) (politeuma) في شكل سلطان سيادة kyrion يتجلّى
كمن يشدّ معا وجهي السّياسة. ولكن لِمَ كان السّياسيّ منقسما، وبأيّ موجب
ربط الـ kyrion هذا الانشقاق بجعله ملتئما؟
ونجد الفقرة الثّانية في "العقد الاجتماعي". ففي درس 1977-1978 "الأمن
والمجال والسّكّان" (8) بيّن فوكو أنّ روسو قد طرح بالتّحديد مسألة مصالحة
الاصطلاحيّة القضائيّة الدّستوريّة («عقد»، «إرادة عامّة»، «سيادة») مع
«فنّ الحكم». بيد أنّه من المنظور الّذي يعنينا، كان الرّبط بين السّيادة
والحكم والتّمييز بينهما، وذلك من ركائز تفكير روسو السّياسيّ، حاسما. وقد
كتب في مقال «الاقتصاد السّياسيّ»: «ألتمس من قرّائي أن يميّزوا كلّ
التّمييز بين الاقتصاد العموميّ الّذي يتوجّب عليّ الحديث عنه وأدعوه
بالحكم، وبين السّلطة العليا الّتي أدعوها سيادة، وهو تمييز يتمثّل في هذا
الأمر، أنّ للأولى حقّ التّشريع […] في حين أنّه ليس للأخرى سوى القوّة
التّنفيذيّة.». في "العقد الاجتماعي" تأكّد هذا التّمييز بوصفه ربطا بين
الإرادة العامّة والسّلطان التّشريعيّ من ناحية، وبين الحكم والسّلطان
التّنفيذيّ من ناحية أخرى. غير أنّ الأمر يتعلّق بكلّ دقّة عند روسو بتمييز
هذين العنصرين وربطهما في الآن نفسه معا (ولأجل ذلك، وهو يذكر التّمييز،
توجّب عليه في نفس الوقت أن ينفي بشدّة أن يكون [التّمييز] تقسيما
للسّيادة). ومثلما هو الشّأن عند أرسطو، كانت السّيادة، والـkyrion أحد
لفظي التّمييز، وفي الآن نفسه ذاك الّذي يربط الدّستور والحكم في عقدة لا
تنفرط.
إن كنّا اليوم نشاهد الهيمنة السّاحقة للحكم والاقتصاد على السّيادة
الشّعبيّة الّتي أُفرغت بالتّدريج من كلّ معنى، فلأنّه من الممكن أن تكون
الدّيمقراطيّات الغربيّة بصدد دفع ثمن ميراث فلسفيّ قد تحمّلته من دون
الاستفادة من مخزونه. وسوء الفهم المتمثّل في تصوّر الحكم بوصفه مجرّد
سلطان تنفيذيّ إنّما هو أحد الأخطاء الثّقيلة جدّا بتبعات في تاريخ
السّياسة الغربيّ. فقد بلغت حدّا بحيث أنّ تفكير الحداثة السّياسيّ قد ضاع
خلف تجريدات فارغة مثل القانون والإرادة العامّة والسّيادة الشّعبيّة تاركا
دون جواب المشكل الّذي يعتبر حاسما مهما تكن زاوية نظر، وهو [مشكل] الحكم
وارتباطه بالسّيادة. لقد حاولت أن أبيّن في كتاب حديث العهد (9) أنّ سرّ
السّياسة المركزيّ ليس في السّيادة، وإنّما في الحكم، وليس في الله، وإنّما
في الملاك، وليس في المَلِك، وإنّما في الوزير، وليس في القانون، وإنّما
في المدينة، أو على نحو أدقّ في الآلة الحاكمة المزدوجة الّتي يكوّنانها
ويسهران على حركتها.
فالنّظام السّياسيّ الغربيّ نتاج انعقاد عنصرين متنافرين يسوّغ أحدهما
الآخر ويهبه تماسكه: عقلانيّة سياسيّة قضائيّة وعقلانيّة اقتصاديّة
حكوميّة، و«شكل دستور» و«شكل حكم». فلماذا زجّ بـ politeia في هذا الغموض؟
وما الّذي يمنح لصاحب السّيادة (لـkyrion) سلطة تأمينهما وضمان اتّحادهما
الشّرعيّ؟ ألا يتعلّق الأمر بتخييل جُعِل ليُخفي أمرا هو أنّ مركز الآلة
فارغ، وأنّه لا يوجد بين العنصرين، والعقلانيّتين أيّ ارتباط ممكن؟ وأنّه
من عدم ارتباطهما يتعلّق الأمر فعلا بإظهار هذا الّذي لا
يُحكمingouvernable ، هذا الّذي يمثّل منبع السّياسة ونقطة انفلاتها؟
من المحتمل أنّه ما لم يحزم الفكر أمره ويقيس نفسه مع هذه العقدة ومع
التباسه فإنّ كلّ جدال في الدّيمقراطيّة ـ بوصفها شكل دستور وبصفتها فنّ
حكم ـ معرّض لأن ينقلب إلى لغو./.