بعد تردّد دام ردحاً من الزّمن، قرّرتُ في الأخير أن أكتب إليك يا إلهي.
لا أدري إن كنتَ ستقرؤني كما آمل، أم لديك من الانشغالات الكونية ما هو
أعظم شأناً من شؤون البشر. ومع هذا سأفترض بأنك تمنحنا شيئاً من اهتماماتك،
ولذلك قرّرتُ أن أكتب إليك كتاباً أخبرك فيه عن العلاقة التي تجمعني بك.
فربّما تنفعني هذه السطور يوم النشور، وربّما يشفق عليّ بعض قرّائي الطيبين
فلا يبخلون عليّ بشهادتهم يوم أقف وحيداً فوق الميزان.
أنت الذي لا تحتلّ أيّ حيز في المكان ولا في الزّمان..
لعلّك تتذكر ذلك اليوم الذي حملني فيه حدسٌ خارق لأزهد في شهاداتي
الجامعية وأهجر طموحاتي الأكاديمية وأتقدّم بطلب شغل وظيفة بسيطة في منطقة
نائية من بلد اسمه المغرب. لا أعلم إن كان هذا البلد يعني لك شيئا، لكنه
يعني لي الشيء الكثير. كنتُ أبتغي من تلك المغامرة الحارقة أن أخترق
المسافات وأحقق هدفاً يعنيك ويعني علاقتي بك. فقد كلفت نفسي عناء قرض مصرفي
ثقيل ظل ينهش من لحمي سنوات طوالا؛ به اقتنيت مئات المجلدات من "الكتب
المقدّسة" وكتب الأديان والتاريخ والتفاسير والفتاوى وأحكام الفقه عند
السنة والشيعة والإباضية، ولست أذكر من أهوال التراث الديني سوى أني كنت
أحتاج لشاحنة خاصة أحمل عليها تلك "الدّخيرة" كلما انتقلت من مكان لآخر.
ولهذه الانتقالات حكاية أخرى أحتفظ بها لزمن آخر.
كان رهاني الجامح أن أنجح، بعد سنوات من الزّهد والانقطاع عن مقاصد
الدنيا، في حسم النظر إلى مسألة وجودك ومسائل وعودك، نفياً أو إثباتاً،
دحضا أو تأكيداً. لم أكن أتوقع أن أسمع منك صوتا هاتفا في السّحر، أو أن
ترسل لي علامة في المنام أو في غفوة الكرى تدل عليك مثلما فعلتُ مع الكثير
من الغربيين؛ ربما لأني كنت ابن حضارة "لاهوت التنزيه" فلستُ أرى طريقاً قد
يقود إليك خارج المسالك التي تحملها "النصوص". لم يكن يرضيني أن أنتهي
يوما مكتفياً بدعاء حجة الإسلام الإمام الغزالي في قوله : "اللهم ألهمني
إيمان العجائز". لم يكن يقنعني رهان باسكال حين كان يرى بأن الإيمان الديني
رهان بدون أية خسارة. ابتغيت "يقينا عقلانيا" لشاب يرفض أن يموت ميتة غبي.
كنتُ مستعداً لأوطن نفسي على ما سأدركه بالعقل الحر والإرادة المستقلة؛ لم
أكن أخشى سوى أن يُعاودني جحيم الشك كما عاود الكثير من رجال الفكر
والسياسة في لحظة الاحتضار، وأكون ساعتها عاجزاً عن اتخاذ القرار.
سعيتُ إليك مشياً على الجمر الحارق، أفتش بين مسالك النصوص عن الطريق
السالكة إليك؛ كنتُ أبتغي اليقين الذي يريح الأذهان، وقد ابتغاه الكثيرون
منذ أن وُجد الإنسان؛ لم أكن أريد أن ألقاك على إيمان العجائز أو على رهان
باسكال. فهل لمجرّد أن لا أموت كذلك، كان يستحق مني كل ذلك العناء
والتضحية؟
أنت الذي لستَ في أي من هنا ولا في أي من هناك..
لقد رأيتَ بنفسك كيف أفنيتُ أزيد من عقد من سنوات شبابي مفتشاً بين أطنان
من الأوراق عن الطريق التي توصلني إلى أية "حقيقة أنطولوجية" بها أحيى
وعليها ألقاك أو حتى لا ألقاك.
تلك الأيام التي..
يا إلهي مازلت أذكرها. أيام موصولة بلياليها، وأنا هائم بين ركام من الكتب
والمجلّدات، أترك بعضها مفتوحا على صفحات بعضها لأيام طويلة، أقارن بين ما
ورد هنا وما ورد هناك، صفحات تتوزع بين الوحي والسيرة والتاريخ والفقه.
أمضيت شهوراً متواصلة من الحفر والتنقيب في غابر الأزمنة بحثا عن أصول
الطقوس وشعائر الطواف والرّجم والسجود وحتى أسماؤك وصفاتك ووظائفك.
لم أكن أحلم بأي مستقبل لي في هذه الحياة التي كنت أراها تمضي كأدراج
الرياح. ربما كنت فاقداً لشيء من صوابي، لكنك تعلم بأنّ الصدق والجنون
سيان.
أمضيتُ سنوات يطوي بعضها بعضاً في صحبة من جعلته إلينا خير المرسلين.
رافقته في غزواته وصلواته وسفرياته وحتى غرامياته. وأعترف أمام علمك الواسع
بأني لم أكن أتوانى عن التجسس على خلواته وحميمياته. وعذري أني كنت ساعتها
مثل ذلك الطفل المختبئ تحت سرير والديه يتلصص على الوقيعة التي حملته إلى
الوجود.
كنتُ أتحرّج من الكثير من المواقف والأفعال وردّات الفعل التي لا تناسب
مقام إله عادل وحكيم كما هو مقامك، لكني كنت ألتمس الأعذار وأكابر مستعيذاً
بك ومستعيناً بذرائع التأويل وحيل التفسير ألتمسها أينما أقبلت وألاحقها
أينما أدبرت.
كانت رغبتي صادقة في أن أدفع الشكّ باليقين. وكان ظني بك، أيها المتعالي،
أنك لن تبخل عليّ بالحق في أن أشك في حقائق أديانك. كيف لا وقد أجزتَ الشكّ
حتى لأب الأنبياء إبراهيم عندما طلب منك الدّليل الحسي لكي يطمئنّ قلبه
لليقين؟
أحرجتني الكثير من قراراتك التي لم أقدر على فهمها فبالأحرى تفهمها، وكنت أكابر نفسي ثم أستعيذ بك :
دعني أعترف لك بأن قرارك بتطليق زينب بنت جحش وتزويجها للرّسول، قد
أحرجني، وأني شعرت بألم بالغ عندما لم أر بين الصحابة العشرة الذين بشرتهم
بالجنة أي اسم لأي صحابي من بين الفقراء والمستضعفين؛ هل نسي جلالكم بلال
الحبشي أوّل من رفع الآذان باسمك؟ هل نيست عزتكم سلمان الفارسي الذي جاء من
آخر الدنيا وطاف كل بلاد العالم ليسند ظهر رسولك؟ هل نسيت رحمتكم أبا ذر
الغفاري إمام الذين استضعفوا في الأرض؟. شعرت بالحرج لما رأيتُ بأن معظم
المبشرين بالجنة هم من أثرى أثرياء العرب. وأيضا كان حرجي أشد عندما غابت
المرأة من لائحة المبشرين بالجنة.
كان يصعب عليّ أن أجد القدرة لأكابر كل ذلك القدْر من الحرج، ومع ذلك فقد
كنت أمني نفسي بالقول ربّما هناك خطأ ما في مكان ما لا يعلمه سواك.
إلاّ أني عجزتُ مطلق العجز عن التماس أي عذر أرفع به عني الحرج وأنا أرى
أوائل المؤمنين برسالتك يتقاسمون ليس فقط غنائم الحروب، وإنما –وهذا ما
أعجزتني سُبل تبريره- يتقاسمون أيضاً النساء أسرى الحروب باعتبارهن من ضمن
الغنائم.
ربّما يقول الكثيرون : في ذلك العصر كان الجميع يفعلونها.
لا أستطيع أن أخفي عنك صدق ما أضمره في نفسي : هذه ليست حجة من ينشد السمو وإنما هي مبرر من يبتغي الوضاعة.
صحيح يا إلهي أن الآخرين كانوا يفعلونها ولا زال الكثيرون يفعلونها، لكن رسالتك لم تكن أن نفعل ما يفعله الآخرون.
سأكون كاذباً عليك لو قلت بأني قد أتفهم اغتصاب نساء من خسروا حربا لم تخضنها أصلا ويتحمل وزرها رجال عدوانيون.
أنت أعلم بأني ما فرطت في تأويل الكتاب شيئاً، وبأني بقيتُ ألتمس أعذاراً
تردّ عني حرقة الشك والسؤال، لكني ما كنت قادراً على إقناع ضميري بأن أصرف
النظر عن موضع الحرج.
أحببتُ كثيراً جواب سعد بن عبادة، يوم سُئل : لقد بايع الناس جميعهم أبا
بكر الصديق، فما لنا نراك لا تبايعه؟ فأجاب بكامل الشعور بالمسؤولية
الفردية : والله لو اجتمعت الإنس والجن على بيعته ما بايعته حتى أذهب عند
الله وأرى ما حسابي.
أيّها المتعال والغني عن العالمين..
لعلّك تتذكر ذلك اليوم الذي رجعتُ فيه إلى البيت فوجدت المكتبة مسروقة وقد خلت من كافة الكتب والمجلدات.
حزنتُ وشعرتُ بمرارة وفي اليوم التالي قال لي صديق : ربما هي فرصتك،
طالما أن الثقافة هي ما يبقى بعد أن ننسى كل شيء، فما بالك وقد ضاع منك كل
شيء.
نزل هذا الكلام على نفسي منزل الثلج البارد، وقلت : لم يعد أمامي من خيار آخر غير أن أختبر طريق النسيان.
طريق النسيان؟ إلى أين حملني آخر هذا الطريق؟
فقدتُ كل كتب التراث والدين والفقه والسيرة وحتى الأسفار والأناجيل والقرآن، فما الذي نجا من الفقد والنسيان؟
إلهي الذي لا يؤاخذنا إن نسينا..
طال عهدي بالنسيان واغفر لي أني ما عُدت قادرا على أن أرى في الإسلام أية
ديانة أو مذهب أو طريقة أو حزب أو دولة… ما عدت أذكر أي إسلام سني أو شيعي
أو سياسي أو سلفي أو صوفي، ما عُدت أرى الإسلام سوى أنه وعيٌ أنطولوجي
عابر للديانات وللثقافات وللحضارات، وعي مفتوح على أفق التعالي، أو ما
درجنا على أن نصطلح عليه بدين الفطرة.
إلهي الذي أنت الآن بلا حال ولا أحوال..
أبسط أمامك رؤيتي لرسالتك كما أراها أو كما ينبغي لي أن أراها، عسى أن تعفيني هذه الشهادة من السؤال يوم السؤال :
أشهد بأن كافة الديانات على حد السواء، ليس لأية واحدة منها فضل ولا
امتياز؛ فهي تحتمل الصدق مجتمعة أو أنها كافة في ضلال وبطلان، مصداقاً
لقولك حين تقول : "إنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين".
أشهد بأن المسلم لا ينتمي إلى تعاليم خاصة أو تقاليد مخصوصة، ولا يوالي
أيّة ديانة من نوع خاص، وإنما ينتمي إلى تجربة روحية عابرة لكافة الأديان
ولتقاليد التوحيد، مصداقاً لقولك عندما تقول : "لا نفرق بين أحد منهم ونحن
له مسلمون".
أشهد بأنّ المسلمين لا يمكن أن يكونوا إسلاميين أو سنيين أو قرآنيين أو
محمديين؛ طالما أنهم في علاقة مفتوحة ومباشرة مع الله، مصداقاً لقولك حين
تقول : "ولكن كونوا ربانيين".
أشهد بأن القرآن ليس دروساً في السياسة أو التنمية أو التربية، ليس
دستوراً ولا قانونا ولا مذكرة أو مدونة، وإنما هو كتاب للتعبّد الرباني،
مصداقا لقولك عندما تقول : "كونوا ربانين بما كنتم تُعلمون الكتاب وبما
كنتم تَدرسون".
أشهد بأنّ أحكام الردة وأهل الذمة وكافة أحكام الفقه قد نسخها القانون
الوضعي ونسختها مواثيق حقوق الإنسان، مصداقاً لقولك حين تقول : "تلك أمّة
خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون".
هذه شهادتي، هذا إيماني، وهذا كتابي.. إلى أن ألقى حسابي.