سيكولوجيا العسكر السيكولوجيا هي في الأصل
كلمة يونانية تتكون من شقين هما (بوسخي) وتعني النفس و(لوغوس) وتعني
الدراسة أو العلم وأخذت اللغات الأجنبية هذه الكلمة المركبة واستعملتها
كمصطلح قائم بذاته للدلالة على السلوك النفسي، وأنتقل هذا المصطلح إلى
اللغة العربية من اللغة الانجليزية (Psychology ).
أما كلمة العسكر وهي
كلمة عربية وتعني الجيش، وما نقصده في هذا المقال من كلمة عسكر تحديدا هم
الأفراد المنتسبون إلى المؤسسة العسكرية النظاميةً فقط دون غيرهم من أفراد
الاحتياط أو المناوبة الشعبية أو أفراد الخدمة الإلزامية أو الإجبارية أو
خدمة العلم أو حسب أي تسمية أخرى، وهؤلاء العسكريون النظاميون لهم ظروف و
أحوال خاصة تفرضها طبيعة المؤسسة التي ينتمون إليها و المهمة المكلفة بها.
والمؤسسة
العسكرية مهما تطورت أسلحتها ومعداتها ووسائطها، تظل معتمدةً على الأفراد
الذين يديرونها، وطالما أن الفرد الإنسان هو العنصر الأساس الذي تعتمد عليه
المؤسسة التي تقع عليها مهمة الدفاع عن الوطن أو تحديدا مهمة إعداد الوطن و
تهيئته للدفاع عن نفسه، ولتحقيق هذه الغاية أو الواجب الذي يجب ألا يُسمح
بالإخفاق في تحقيقه، يكون من المهم جداً الاعتناء الفائق بالعناصر التي
تعتمد عليهم هذه المؤسسة.
وتاريخيا نجد أن جيوش الدول المتقدمة كانت وما
زالت تولي الاهتمام و العناية بالجانب النفسي لإفراد المؤسسة العسكرية،
فنجد أن الولايات المتحدة الأمريكية شكلت لجان دائمة بالقوات المسلحة وتحت
إشراف خبراء نفسيين وكان ذلك قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى.
كما أن
ألمانيا النازية وعندما كانت تستعد لشن الحرب العالمية الثانية في
ثلاثينيات القرن الماضي، أولت اهتماماً بالغاً جدا في إعداد جنودها
ومقاتليها واهتمت بالروح المعنوية والتعبئة الشاملة للجيش والشعب وأنشئت
المؤسسات العسكرية والمدنية لهذا الغرض والتي كانت تعمل تحت إشراف غوبلز
الوزير النازي الشهير.
لذلك فإن استحداث جهاز داخل المؤسسة العسكرية
تكون مهمته المتابعة والمراقبة والمعالجة النفسية (السيكولوجية) لمنتسيبيها
يشكل أمراً بالغ الأهمية ويسد فراغا ملحوظا، على أن يعمل بهذا الجهاز
علماء وأطباء نفسيون واختصاصيون في هذا المجال، فالمتابعة السيكولوجية لا
تقل أهمية عن المتابعة الصحية والتدريبية للعسكريين. والمتابعة
السيكولوجية لها عدة مراحل، وأولها تبدأ عند اختيار عناصر جدد لالتحاق
بالمؤسسة العسكرية، فيجب أن يكون الاختيار وقبول المتقدمين للانتساب لها
يستند إلي معايير علمية و اختبارات نوعية، يتم بواسطتها استبعاد كل من لا
يستطيع مجاراة العمل العسكري ذي الطبيعة الخاصة التي تصل إلى ضرورة بذل
الروح في وقت من الأوقات، لذلك فلا يجوز التهاون عند اختيار المنتسبين
الجدد، وخاصةً عند قبول طلبة للكليات العسكرية،حيث أن هذه العناصر تؤهل
لاستلام القيادات العسكرية بمختلف مستوياتها. كما أن هناك صفات نوعية يجب
مراعاتها بعناية في بعض العناصر المختارين لبعض التخصصات ذات الطبيعة
الخاصة كالطيارين والغواصين وغيرهم. وتستمر هذه المرحلة أثناء فترة
التدريب، وخلالها يتم إجراء الاختبارات والاستبيانات التي يتم بواسطتها
تقييم كل عضو، ومعرفة مدى صلاحيته للانتماء لهذه المؤسسة، أو مدى صلاحيته
لشغل وظيفة معينة بها، وفي هذا الجزء من هذه المرحلة يجب إقصاء كل من تبين
أنه غير صالح للعمل العسكري .
وبعد انتهاء التدريب والتخرج
والتعيين بالمؤسسة العسكرية تبدأ مرحلة أخرى من المتابعة النفسية وهى
الأطول، حيث يجب أن يتم فيها إجراء الفحوصات النفسية الدورية مثل ما يتم
فيها إجراء فحوصات اللياقة البدنية، وكذلك معالجة الحالات التي تحتاج إلى
علاج وعلى هذا الجهاز أن يعد ملفات اللياقة النفسية لكل عضو وتسجل
الملاحظات التي تلاحظ أثناء المتابعة بجميع مراحلها. كما يجب على هذا
الجهاز أن يعد البرامج الفكرية والفنية والرياضية وغيرها من الخطط
والإجراءات التي ترفع الروح المعنوية للمنتسبين ،وتسهم في التهيئة
السيكولوجية لهم. وعليه يجب إجراء الاستطلاعات والاستبيانات لمعرفة نتائج
هذه البرامج والخطط ،وكذلك إعداد الدراسات وتدريب الكوادر التدريبية و
القيادات على المعاملة والمتابعة السيكولوجية للإفراد،كما ويجب استجلاب
التقنيات الحديثة وملاحقة التطورات العلمية والعملية في هذا المجال،وذلك
لمعرفة الحاجات الذاتية والنفسية لأعضاء المؤسسة ليتم إشباعها لهم،لكي
يتحسن الأداء المتمثل في حسن التدريب واستيعاب العلوم العسكرية، وحسن
استخدام المعدات و الأسلحة المتوفرة لديهم،والمحافظة عليها أثناء السلم،
وحسن الأداء القتالي واللوجستي أثناء الحرب. والمرحلة الأخيرة التي يجب
فيها متابعة منتسبي المؤسسة العسكرية من الناحية السيكولوجية هي مرحلة ما
بعد الخدمة، أي بعد انتهاء الخدمة ، فالعسكريون غالبا ما تنتهي خدمتهم
العسكرية إما بسبب إصابة بدنية أو نفسية تجعلهم غير قادرين على مواصلة
العمل العسكري نتيجة أعمال حربية أو غيرها، أو لبلوغهم سن التقاعد، وفي
الحالتين تنتهي خدمة العسكري في سن مبكرة نسبياً، ففي التشريعات الليبية
على سبيل المثال أعلى سن لتقاعد العسكري هي 56 سنة بينما سن تقاعد المدنيين
تصل إلى 65 سنة، وبذلك هناك فارق تسع سنوات بين تقاعد المدني والعسكري.
ومن المعروف أن للتقاعد تأثيرات نفسية قد تؤدي إلى الكآبة والعزلة وأمراض
أخرى، لذلك يجب إعداد العسكري لمواصلة أعمال أخرى بعد تقاعده وتركه للخدمة.
كأعمال حرفية وفنية لأصحاب التخصصات المماثلة، أو أعمال إدارية واقتصادية
يؤهلون لها ويتدربون عليها أثناء خدمتهم العسكرية، ونحن نعرف أن المعاشات
التقاعدية التي يحال إليها المتقاعدون لا تكاد تكفي مصروف جيب لشخص واحد،
ونظرا لتأخر سن الزواج وتبكير سن التقاعد فأن العسكري غالبا ما تقاعد
وأبنائه مايزالون على مقاعد الدراسة، وعندما يرى العسكريون الذين مايزالون
في الخدمة زملائهم المتقاعدين في هذا الوضع فأن ذلك سيؤثر عليهم وعلى
أدائهم ويصبحون يعانون من (فوبيا التقاعد) أن صح التعبير.
والتقاعد هو أمر مهم وضروري للفرد الذي يعتبر بالنسبة له استراحة المقاتل الأخيرة.
وبالنسبة للمؤسسة يعتبر الوسيلة التي بها يتم تداول المواقع بين الأجيال، بحيث تتطور المؤسسة وتواكب العصر.
إن
استحداث جهاز للعناية السيكولوجية سيقدم خدمة كبيرة للقيادة عندما تبحث عن
شخص كفؤ لتولي منصب مهم أو لأداء مهمة معينة، فأن هذا الجهاز يزودها
بالمعلومات الهامة و القياسات النفسية المطلوبة لشغل هذا المنصب أو أداء
هذه المهمة وإرشادها إلي الشخص المناسب.
و العناية السيكولوجية والنفسية
هي مطلب لكل فيئات المجتمع، إلا أن منتسبي المؤسسة العسكرية هم الأكثر
حاجة لهذه العناية والرعاية للأسباب الآتية :
1.المؤسسة العسكرية مطلوب
منها تدريب باقي أفراد المجتمع ممن تنطبق عليهم شروط أداء الخدمة العسكرية (
المناوبة الشعبية أو التدريب العسكري العام أو الخدمة الإلزامية.....)
وبالتالي يجب أن يكون أعضاء المؤسسة في مستوى هذه المهمة وهي تعد مساهمة في
التنمية البشرية للوطن.
2.المؤسسة العسكرية هي المسئول الأول عن إدارة
الدولة في أوقات الأزمات والطواري والحروب فجميع أو اغلب المؤسسات المدنية
والاجتماعية والاقتصادية الأخرى تخضع لها وعليه يجب أن يكون منتسبوها في
مستوى هذه المسئولية التي يتوقف عليها مصير البلاد بكاملها.
3.منتسبو المؤسسة العسكرية يخضعون لإجراءات أمنية تفرضها طبيعة عمل المؤسسة وما يحملونه من أسرار دفاعية
وأمنية
تتعلق بمصير البلد، وهذه الإجراءات غالباً ما تمس الحرية الفردية، وخاصة
في السفر والتنقل أو في الانتماء إلى منظمات العمل الأهلي، وأحيانا هذه
الإجراءات تطال أمور أخرى مثل مواصلة التعليم وأحياناً تطال حتى الزواج
والمصاهرة وهذه الإجراءات تضيق وتتسع حسب رؤية الدولة لوضعها الأمني.
4.أفراد
المؤسسة العسكرية يشاركون في الحروب والمعارك في داخل البلاد وخارجها
عندما يمثلون بلادهم في قوات حفظ السلام الدولية والإقليمية أوفي فض
الاشتباك بين المتحاربين، وهنا غالباً ما يتعرضون لمواقف و مناظر صعبة تسبب
لهم رضوض نفسية، وقد يصابون بمثل هذه الرضوض والإصابات عند اشتراكهم في
المناورات والمشاريع التعبوية.
5.منتسبو المؤسسة العسكرية في الغالب لا
يتقاضون أكثر من مرتباتهم الشهرية، فهم لا يتقاضون بدل المبيت مثل
المؤسسات الأخرى، بالرغم من أنهم قد يعملون في أماكن بعيدة لمدد طويلة، كما
أنهم ممنوعون إما بالقانون أو لعدم توفر الوقت الكافي لمزاولة إعمال
تجارية أو حرفية أو غيرها لزيادة دخولهم، مع العلم بأن اغلب منتسبي
المؤسسات العسكرية هم من الطبقات المتوسطة أو الفقيرة في أغلب الدول.
كل
ذلك له تأثير على سيكولوجية العسكري، الذي له دور مهم جداً في حماية بلاده
ومراقبة حدودها وأجوائها وضمان أمنها وإبعادها عن مخاطر أي عدوان خارجي.
فيجب أن يعد هذا العسكري إعدادا كاملا من الناحية النفسية والبدنية
والعلمية والثقافية، حتى يكون مثالا يحتذى، ومفيداً في كل وقت.
ولا ينظر إليه من مجتمعه بمنظار الريبة، على أنه ذو ميول سلطوية، كما يجب أن لا يُنظر إليه بأنه بائس ولا يستحق إلا الشفقة