بروز (تدفق ضعيف في الجانب الأيمن) انبثق من سطح الشمس إلى جوها، أي الإكليل. إن الپلازما الإكليلية غير مرئية في هذه الصورة التي تُظهر ضوءا فوق بنفسجي من غاز بارد موجود في البروز وفي الغلاف اللوني الواقع تحته. وتمثل المناطق البيضاء كثافة عالية، والمناطق الحمراء كثافة منخفضة. |
في 11/8/1999 كان عشرات الملايين من الأشخاص في
أوروبا وآسيا يشاهدون حدوث واحد من أجمل المناظر الطبيعية في العالم بأسره، ألا
وهو الكسوف الكلي للشمس. وكان كلانا (المؤلفان) من بين هؤلاء المشاهدين. وقد
رصد أحدنا وهو<فيليپس> الكسوف من بلغاريا، عندما كان قرص الشمس المتوهج يحجبه
القمر البارد الأسود، ومن ثَم تولَّد المنظر الأخّاذ للإكليل المتألق. أما
ثانينا وهو <دويڤيدي> فقد شهد الحادث من الهند، عندما كان قرص الشمس المتوهج
تحجبه غلالة رقيقة dull
haze من السُّحُب في وقت غير مناسب أبدا. ولكن لم يفُتْنا شيء، إذ إن
هذا الحدث السماوي الفريد، متعنا بمنظر طبيعي أخّاذ على سطح الأرض. فعلى امتداد
نهر الگانجز المقدس، كانت تُرَدَّد التراتيل والترانيم من قبل الجماهير التي
تخوض في النهر، وتصلي لإله الشمس كي يعود ثانية إلى الظهور.
إن الشمس قد تشبه كرة منتظمة من الغاز، وهذه فكرة في
غاية البساطة. وفي الحقيقة إنها مكونة من طبقات واضحة ومحددة تماما؛ فالشمس
تشبه كوكبا مكونا من جزء صلب وجو يحيط به. والإشعاع الشمسي، الذي يتوقف عليه
وجود الحياة كلها على الأرض، ينشأ عن التفاعلات النووية التي تجري في العمق في
قلب (لب) الشمس. وتتسرب الطاقة نحو الخارج، تدريجيا، إلى أن تصل إلى السطح
المرئي للشمس، الذي يعرف بالغلاف الضوئي photosphere،
ثم تندفع الطاقة بعد ذلك إلى الفضاء. ويوجد فوق ذلك السطح جو مخلخل يُرَى الجزء
السفلي منه، وهو الغلاف اللوني chromosphere خلال
الكسوف الكلي على شكل هلال أحمر ساطع. وفوق هذا الغلاف يوجد الإكليل اللؤلؤي
الأبيض، الذي يمتد ملايين الكيلومترات فوق الغلاف اللوني. وانطلاقا من البقع
الخارجية للإكليل، تنبعث الريح الشمسية، وهي دَفْق من الجسيمات المشحونة يندفع
عبر النظام الشمسي.
وكما هو متوقع، فإن درجة حرارة الشمس تهبط باطّراد
من قلبها، الذي درجة حرارته 15 مليون كلڤن، إلى6000 كلڤن فقط في الغلاف الضوئي.
بيد أنه يحدث بعدئذ شيء ما غير متوقّع، وهو أن التدرج الحراري
(1) temperature gradient
ينعكس حيث ترتفع درجة حرارة الغلاف اللوني باطراد إلى000 10 كلڤن، ثم تقفز عبر
الإكليل إلى مليون كلڤن. بل إن أجزاء الإكليل الشمسي
المتاخمة للبقع الشمسية، ترتفع درجة حرارتها
إلى أعلى من ذلك. وإذا ما اعتبرنا أن الطاقة تتولد تحت الغلاف الضوئي، فكيف
يمكن لهذا الأمر أن يحدث؟ إن هذا أمر يشبه شعورك بمزيد من الدفء كلما ابتعدت عن
المدفأة.
برزت أول تلميحات عن هذا اللغز المحيّر في القرن
التاسع عشر، حين اكتشف راصدون للكسوف خطوط انبعاث طيفية لا يمكن نسبها إلى أي
عنصر معروف لنا. وفي الأربعينات من القرن الماضي، ربط الفيزيائيون هذه الخطوط
بذرات حديد فقدت قدرا يصل إلى النصف من إلكتروناتها الستة والعشرين. وهذا وضع
يتطلب درجات حرارة عالية جدا. وفيما بعد، اكتشفت الآلات المركَّبة على متن
الصواريخ والسواتل أن الشمس تبث أشعة سينية غزيرة، وإشعاعات فوق بنفسجية مفرطة
ـ وهذه الحالة لا يمكن حدوثها إلا إذا كانت درجة حرارة الإكليل تقدر
بالميگاكلڤن. ولم يقتصر هذا اللغز على الشمس وحدها، إذ يبدو أن معظم النجوم
الشبيهة بالشمس لها أجواء تُصْدِر أشعة سينية.
إلا أنه يبدو أن ثمة حلا صار في متناول أيدينا، بعد
طول انتظار. فقد ذهب الفلكيون إلى أن ثمة حقولا مغنطيسية تتدخل في تسخين
الإكليل؛ فحيثما قويت شدة هذه الحقول بدرجة كبيرة، ارتفعت درجة حرارة الإكليل
إلى حد كبير. ويمكن لمثل هذه الحقول نقل الطاقة في صورة غير حرارية، متجنبة
بذلك التقييدات الثرموديناميكية العادية. ومع ذلك، فلا مفر من أن تتحول الطاقة
إلى حرارة، وهنا يعكف الباحثون على اختبار نظريتين ممكنتين: الأولى: إعادة
ارتباط reconnection الحقول المغنطيسية الصغيرة ـ
وهي نفس العملية التي تحدث في الومضات الشمسية solar
flares؛ والثانية: الموجات المغنطيسية. وقد توفرت
مفاتيح مهمة لحل هذه المسألة من أرصاد تكميلية: فالسفن الفضائية يمكن أن ترصد
أطوالا موجية لا يمكن رصدها من الأرض، في حين تتمكن المقاريب الأرضية من جمع
مقادير هائلة من البيانات (المعطيات) غير مقيدة بعرض عصابة
bandwidth الإرسالات الراديوية من مسار السفن
الفضائية إلى الأرض. قد تكون المكتشفات حاسمة في فهم الكيفية التي تؤثر بها
الأحداث الشمسية في جو الأرض [انظر: «عنف العواصف الفضائية،»مجلة العلوم ،
العددان 2/3(2002) ، ص 60].
يبدو أن
النتوءات العروية والأقواس والثقوب
تقتفي أثر
الحقول المغنطيسية للشمس.
وصلتنا أول صور عالية الميز
high-resolution للإكليل الشمسي عامي 1973
و 1974 من مقاريب الأشعة السينية وفوق البنفسجية التي تم تثبيتها على متن سكاي
لاب Skylab، وهي المحطة الفضائية الأمريكية
المأهولة، وقد أظهرت صور المناطق النشطة في الإكليل، الواقعة فوق مجموعات البقع
الشمسية، تجمعات من النتوءات على هيئة عرى أو حلقات
loops كانت تظهر وتختفي خلال أيام. وكانت هناك أقواس منتشرة من الأشعة
السينية تمتد ملايين الكيلومترات. وبعيدا عن المناطق النشطة في الأجزاء
«الهادئة» من الشمس، كانت تظهر للانبعاثات فوق البنفسجية تشكلات كأقراص العسل
ترتبط بالمظهر الحبيبي للغلاف الضوئي وقريبا من قطبي الشمس، كانت توجد مناطق
انبعاث منخفض للأشعة السينية ـ وهي المسماة بالثقوب الإكليلية
coronal holes.
نتوء إكليلي حلقي تم رصده في الضوء فوق البنفسجي بوساطة سفينة الفضاء تريس. ويمتد 000 120 كيلومتر فوق سطح الشمس. |
العلاقة بالدينامو (المولد) النجمي
(**) منذ إطلاق سكاي لاب، أضافت كل سفينة فضائية رئيسية
تحسنا ملموسا في الميز. وبداية من عام 1991 واصل مقراب الأشعة السينية، الموجود
على متن السفينة الفضائية اليابانية (يوكو)، تصوير إكليل الشمس متعقبا تطور
النتوءات الحلقية ومعالِم شمسية أخرى طوال دورة كاملة للنشاط الشمسي مدتها 11
عاما. هذا وإن المسبار الفضائي المسمى «مرصد الشمس وغلافها الخارجي» (الذي يرمز
له اختصارا بكلمة سوهو SOHO)، هو ساتل أمريكي ـ
أوروبي أطلق عام 1995، ويدور حول الشمس برفقة الأرض في نقطة تبعد 1.5 مليون
كيلومتر من الأرض وفي جانبها المواجه للشمس، ومن ثم فإن سوهو يتميز برصد الشمس
رصدا متواصلا دون انقطاع [انظر: «سوهو تفضح أسرار الشمس،»مجلة العلوم، العدد
5(1997) ، ص 24.] وأحد أجهزته وهو «مقراب الإكليل الطيفي ذو الزاوية الكبيرة»
(الذي يرمز له اختصارا بكلمة لاسكو LASCO)، يرصد
في مجال الضوء المرئي باستعمال قرص معتم لحجب وهج الجزء الرئيسي من الشمس. وقد
تعقب هذا الجهاز معالم إكليلية ضخمة أثناء دورانها مع بقية الشمس (خلال دورة
period قدرها 27 يوما كما تُرى من الأرض). وتُظهر
الصور فقاقيع ضخمة من الپلازما تسمى مقذوفات إكليلية، ترتفع بسرعة تصل إلى 2000
كيلومتر في الثانية منطلقة من الإكليل، ثم تصدم الأرض وكواكب أخرى بين الحين
والآخر. وثمة آلات أخرى على سوهو، مثل «مقراب التصوير بالأشعة فوق البنفسجية
القصيرة جدا» أرسلت صورا أجود بكثير من صور سكاي لاب.
هذا وإن الساتل المسمى «مستكشف الإكليل ومنطقة
الانتقال» (الذي يرمز له اختصارا بكلمة تريس TRACE)،
والذي يشرف على تشغيله معهد ستانفورد ـ لوكهيد للبحوث الفضائية، انطلق في مدار
قطبي حول الأرض عام 1998. وقد كشف مقرابه الذي يعمل بالأشعة فوق البنفسجية،
بميز لم يسبق له مثيل، ثروة هائلة من التفاصيل. وصار معروفا الآن أن النتوءات
الحلقية للمناطق النشطة من الإكليل هي معالم خيطية الشكل عرضها لا يتجاوز بضع
مئات من الكيلومترات، وأن خفقانها وارتجاجها المتواصلين يقدمان دلالات خفية على
منشأ حرارة الإكليل العالية.
ويبدو أن النتوءات العروية والأقواس والثقوب
الإكليلية تقتفي أثر الحقول المغنطيسية للشمس. ويُظن أن هذه الحقول تنشأ في
الثلث العلوي في المنطقة الداخلية من الشمس، حيث لا تُنقل الطاقة بالإشعاع، بل
بالحمْل. وتعمل الحركة الدورانية circulation
كدينامو (كمولد) طبيعي يقوم بتحويل زهاء 0.01 في المئة من الإشعاع الخارج إلى
طاقة مغنطيسية. أما الدوران التفاوتي differential
rotation ـ الذي تدور وفقه خطوط العرض المنخفضة
بسرعة أعلى قليلا من خطوط العرض العالية ـ فإنه يشوه خطوط القوة المغنطيسية
محدثا أنماطا لها أشكال متميزة. وفي المواقع التي تتسم بوجود مجموعات من البقع
الشمسية، تقوم حزم حبلية الشكل من الخطوط المغنطيسية باختراق الغلاف الضوئي،
ممتدة خارجه باتجاه الإكليل.
تبيّن صورة الأشعة السينية هذه، التي التقطتها سفينة الفضاء يوكو Yohkoh، بُنى ساطعة (مرتبطة بالبقع الشمسية)، وأخرى معتمة (الثقب الإكليلي القطبي). |
وقد عكف الفلكيون، طوال قرن من الزمن، على قياس
مغنطيسية الغلاف الضوئي باستعمال رواسم المغنطيسية
magnetographs التي ترصد تأثير (مفعول) زيمان
Zeeman، الذي ينص على أنه في وجود حقل مغنطيسي، يمكن لخط طيفي أن ينقسم
إلى خطين أو أكثر بأطوال موجية واستقطابات مختلفة قليلا. لكن أرصاد زيمان
للإكليل مازالت بحاجة إلى التنفيذ؛ ففي حال الخطوط الطيفية التي يصدرها
الإكليل، يكون انقسام هذه الخطوط أصغر من أن يُكشف بالآلات المتوافرة حاليا.
لذا تعين على الفلكيين اللجوء إلى حسابات الاستيفاءات (الاستكمالات)
extrapolations الرياضياتية انطلاقا من حقل
الغلاف الضوئي. وتتنبأ هذه الاستيفاءات بأن للحقل المغنطيسي للإكليل قوة قدرها
نحو 10 گاوس gauss، ومن ثم فهي أكبر من قوة الحقل
المغنطيسي للأرض عند قطبيها بعشرين مرة. وقد تبلغ هذه القوة في المناطق النشطة
100 گاوس.
سخانات فضائية
(***) إن هذه الحقول ضعيفة مقارنة بتلك التي يمكن توليدها
بالمغانط المختبرية، إلا أن لها تأثيرا حاسما في الإكليل الشمسي. والسبب في هذا
هو أن درجة حرارة الإكليل مرتفعة إلى درجة عالية جدا تجعله في حالة تأين تام
تقريبا: إنه بمنزلة پلازما مكونة ليس من ذرات متعادلة، وإنما من پروتونات
وإلكترونات ونوى ذرية (هليوم في المقام الأول). وتبدي الپلازما سلسلة واسعة من
الظاهرات التي لا تبديها الغازات الخاملة. والحقول المغنطيسية للإكليل قوية إلى
درجة تسمح لها بربط الجسيمات المشحونة بخطوط القوى التابعة للحقل. وتتحرك
الجسيمات في مسارات حلزونية ملتزة، إلى أعلى وإلى أسفل خطوط القوى هذه، مثل
خرزات صغيرة جدا مُسرجة في فتائل طويلة جدا. وتوضح حدود تحركاتها التخوم
المحددة لبعض المعالم مثل الثقوب الإكليلية. وفي داخل الپلازما الرقيقة، يكون
الضغط المغنطيسي (الذي يتناسب طرديا مع مربع القوة) أكبر من الضغط الحراري بمئة
مرة على الأقل.
إن أحد الأسباب التي تجعل الفلكيين واثقين من أن
الحقول المغنطيسية تزود الإكليل بالطاقة، هو العلاقة الواضحة بين قوة الحقل
ودرجة الحرارة. ففي حين تكون درجة حرارة البروزات الحلقية الساطعة من المناطق
النشطة مساوية نحو 4 ملايين كلڤن فإن درجة حرارة الأقواس العملاقة لكامل
الإكليل تعادل مليون كلڤن تقريبا.
لكن عزو تسخين الإكليل إلى الحقول المغنطيسية ظَلَّ،
حتى زمن قريب، يواجه مشكلة خطيرة. فتحويل طاقة الحقل إلى طاقة حرارية، يتطلب من
الحقول أن تكون قادرة على الانتشار عبر الپلازما، الأمر الذي يتطلب أن يتمتع
الإكليل بقدر معين من المقاومة الكهربائية ـ وبعبارة أخرى، يجب ألا يكون
الإكليل موصلا مثاليا perfect
conductor. فمن المعروف أن الموصل المثالي لا
يستطيع الاحتفاظ بحقل كهربائي، ذلك أن الجسيمات المشحونة تقوم فورا بإعادة
توزيع نفسها لجعله متعادلا. وإذا لم تستطع الپلازما استدامة حقل كهربائي، فإنها
لا تستطيع التحرك بالنسبة إلى الحقل المغنطيسي (والعكس بالعكس)، لأن هذه الحركة
تحرض حقلا كهربائيا. وهذا هو السبب في أن الفلكيين يتحدثون عن حقول مغنطيسية
«مجمدة» في صورة پلازما.
قد تشبه الشمس
كرة منتظمة، وفي هذا جوهر البساطة.
لكن الواقع هو
أن للشمس طبقات واضحة المعالم.
ويمكن التعبير عن هذا المبدأ بصورة كمية بالنظر في
الوقت الذي يستغرقه حقل مغنطيسي لينتشر مسافة معينة عبر الپلازما. فمعدّل
الانتشار يتناسب عكسيا مع المقاومية resistivity.
وتفترض فيزياء الپلازما الكلاسيكية أن المقاومة الكهربائية
resistance تنشأ عما يسمى تصادمات كولومب
Coulomb: فالقوى الكهرسكونية (الإلكتروستاتيكية)
للجسيمات المشحونة تحرف مسار الإلكترونات. ومادام الأمر كذلك، يتعين عليها قضاء
نحو10ملايين سنة في اجتياز مسافة طولها 000 10 كيلومتر، وهذا هو الطول النموذجي
للنتوءات الحلقية للمناطق النشطة.
هذا وإن الأحداث التي تجري في الإكليل ـ مثل
الومضات، التي قد لا تدوم أكثر من بضع دقائق ـ تتجاوز كثيرا هذا المعدل. فإما
أن تكون المقاومية عالية بدرجة غير عادية، وإما أن تكون مسافة الانتشار صغيرة
جدا، وإما أن يتحقق كلا الأمرين. إن مسافة قصيرة لا تتجاوز بضعة أمتار يمكن أن
تحدث في بُنَى معينة، مصحوبة بتدرج مغنطيسي magnetic
gradient شديد الانحدار. بيد أن الباحثين أدركوا
في النهاية أن المقاومية قد تكون أعلى مما كان يعتقد سابقا. وخلال السنوات
القليلة الماضية، لاحظ الفيزيائيون وجود عدم استقرار في پلازمات المختبر، كتلك
الموجودة في أجهزة الاندماج. ويمكن لأحداث عدم الاستقرار هذه أن تثير اضطرابات
وتقلبات في الشحنة الكهربائية، وهذا يولّد مصدرا للمقاومة أشد فعالية من
اللقاءات العشوائية بين الجسيمات.
أطياف الأشعة السينية للنظام النجمي كاپيللا (فيما بين حوادث الومضات) وللشمس (خلال حدوث الومضة) وكلاهما يشير إلى درجات حرارة تقدر بستة ملايين درجة كلڤن ـ وهذه الدرجات نموذجية لكاپيللا، لكنها عالية علوا شاذا بالنسبة إلى الشمس. |
رفع درجة الحرارة
(****) لدى الفلكيين فكرتان أساسيتان عن التسخين الإكليلي.
وقد ظلوا، طوال سنوات، يركزون على التسخين بوساطة الموجات، وكانت الظنون
الرئيسية تدور حول الموجات الصوتية. لكن الباحثين أثبتوا، في أواخر سبعينات
القرن الماضي، أن الموجات الصوتية الصادرة عن الغلاف الضوئي لا بد أن تتبدد
طاقتها في الغلاف اللوني، دون أن تترك بقية من الطاقة للإكليل نفسه. عند ذلك،
تحول الاشتباه إلى الموجات المغنطيسية. وربما كانت تلك الموجات هدرودينامية
مغنطيسية magnetohydrodynamic
MHD صرفة، وهي المسماة موجات أَلڤن
Alfvén waves التي
تهتز فيها خطوط قوى الحقل، لكن الضغط لا يفعل ذلك. بيد أن الأمر الأكثر
احتمالا، هو أنها تتسم بالصفات المميزة لكل من الموجات الصوتية وموجات ألڤن.
إن التصوير من
السفن الفضائية أبطأ من أن يكشف التراوحات
الدورية التي
تحدثها الموجات المغنطيسية.
وتقوم النظرية MHD
بدمج نظريتين كل منهما تتسم بتحد في حد ذاتها ـ النظرية الهدرودينامية العادية
والنظرية الكهرمغنطيسية العادية ـ مع أن الخطوط العريضة لكل منهما واضحة. ويقر
الفيزيائيون المختصون بالپلازما نوعين من موجات الضغط
MHD، السريع منها والبطيء، وهذا يتوقف على سرعة الطور
phase velocity
بالنسبة إلى موجة ألڤن ـ التي تساوي في الإكليل نحو 2000 كيلومتر في الثانية.
ويتطلب اجتياز موجة ألڤن لبروز نموذجي في منطقة نشطة زمنا قدره نحو خمس ثوان،
وزمنا أقل في حال موجة MHD سريعة، لكن هذا الزمن
يصبح نصف دقيقة على الأقل في حال موجة بطيئة. وتتحرك الموجات
MHD بفعل اضطرابات حَمْلية
convectional perturbations في الغلاف
اللوني، ثم تنقل خارجا إلى الإكليل بواسطة الحقول المغنطيسية. بعد ذلك يمكنها
إيداع طاقتها في الپلازما إذا كان لديها ما يكفي من المقاومية أو اللزوجة.
وقد تحقق فتح علمي كبير عام 1998 عندما رصدت السفينة
الفضائية تريس ومضة قوية استحثت موجات في بروزات حلقية صغيرة مجاورة، وكانت
البروزات تهتز جيئة وذهابا عدة مرات قبل أن تعود إلى الاستقرار. وكان معدل
التخميد damping أسرع بملايين المرات مما تتنبأ
به النظرية التقليدية. إن هذا الرصد ـ الذي يعتبر علامة بارزة على الطريق «في
علم الزلازل الإكليلي» ـ والذي قام به
[حينما كان في كلية سانت أندروز باسكتلندا] وزملاؤه، بين أن الموجات
MHD يمكنها في الحقيقة إيداع طاقتها في الإكليل.
وعلى الرغم من كون فكرة نقل الطاقة بالموجات جديرة
بالقبول، فقد كان ثمة فكرة ثانية سائدة، وهي أن تسخين الإكليل يجري بفعل أحداث
صغيرة جدا شبيهة بالومضات. والومضة هي إطلاق مفاجئ لقدر من الطاقة يصل إلى 1025
جول في منطقة نشطة من الشمس. ويُظن أنه ناشئ عن إعادة التحام خطوط قوى الحقل
المغنطيسي، حيث تلغي الخطوط المتضادة في الاتجاه بعضها بعضا، وهذا يحول الطاقة
المغنطيسية إلى حرارة. وتتطلب هذه العملية أن تكون خطوط قوى الحقل قادرة على
الانتشار عبر الپلازما.
ترسل الومضة سفعة blast
من الأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية. وفي ذروة الدورة الشمسية، قد تنبثق
عدة ومضات في الساعة الواحدة في جميع أنحاء الشمس. فقد بينت سفينتا الفضاء يوكو
وسوهو أن أحداثا أصغر بكثير، ولكن بتواتر أعلى، تأخذ مجراها، لا في المناطق
النشيطة فحسب، وإنما أيضا في مناطق أخرى تعتبر هادئة. ولهذه الأحداث الصغيرة
طاقة تعادل نحو جزء من المليون من طاقة ومضة كاملة، ومن ثم فهي تسمى ومضة
ميكروية microflares. وكان أول من اكتشف انبعاث
الأشعة السينية النفاذة hard
x-rays منها، هو
[من جامعة كاليفورنيا في بركلي] وزملاؤه، بوساطة مكشاف محمول بمنطاد، وذلك عام
1980. وخلال حضيض نشاط الدورة الشمسية عام 1996، كشفت يوكو أيضا أحداثا طاقتها
صغيرة جدا ولا تتجاوز 1017 جول.
والومضات ليست النمط الوحيد من الظواهر العابرة.
فالأشعة السينية ونفثات الأشعة فوق البنفسجية، التي تمثل أعمدة من مادة
الإكليل، غالبا ما ترى مندفعة إلى الأعلى من القسم السفلي من الإكليل بسرعة عدة
مئات من الكيلومترات في الثانية. لكن الومضات الدقيقة من الأشعة السينية تحظى
بأهمية خاصة لأنها تبلغ درجات حرارة عالية تقدر بالميگاكلڤن، وهي لازمة لتسخين
الإكليل. ولدى متابعتنا، مع [من جامعة
روكلو Wroclow في پولندا] بحوث عالم الفيزياء
الشمسية المشهور< .E N.پاركر> [من جامعة شيكاگو]
وجدنا أن المعدل المرصود للومضات يمكن أن يوحي حسابيا بوجود أحداث أدق، أي
ومضات نانوية nanoflares. وعندئذ يمكن للطاقة
الكلية أن تفسر شدة الإشعاع الخارج output من
الإكليل والذي يقدر بنحو 3x 1018 واط.
تُرى ما هي الآلية المتحكمة؟ هل هي الموجات أم
الومضات النانوية؟ إن هذا يتوقف على تحركات الغلاف الضوئي التي تُحدث اضطرابات
في الحقل المغنطيسي. فإذا كانت هذه التحركات تحدث في مدد زمنية أطوالها نصف
دقيقة أو أكثر، فلا يمكنها إطلاق الموجات MHD، إذ
إنها، بدلا من ذلك، تولّد رزما ضيقة لتيارات يمكن أن تحدث فيها عمليات إعادة
التحام. إن الأرصاد الضوئية ذات الميز العالي جدا لبنى مخرمة
filigree ساطعة، التي تم إجراؤها بوساطة مقراب
البرج السويدي الخلائي Swedish
Vacuum Tower
Telescope، المقام في لاپالما بجزر الكناري ـ
وأيضا أرصاد سوهو وتريس «لبساط مغنطيسي» دائم التغير موجود على سطح الشمس ـ
تبين أن التحركات تحدث في مُدد زمنية مختلفة. ومع أن الأدلة المتوافرة حاليا
تحبذ آلية الومضات النانوية في تسخين الإكليل، إلا أن الموجات قد تقوم هي
الأخرى بدور ما.
ضوء عادي، ومنظر استثنائي: الإكليل مصور في الضوء المرئي في 11/8/1999. التقطت الصورة في شاديگان بوسط إيران. |
العمل الحقلي(*****)
من غير المرجح، مثلا، أن يكون للومضات النانوية
تأثير كبير في الثقوب الإكليلية. ففي هذه المناطق تنفتح خطوط الحقل المغنطيسي
إلى الفضاء بدلا من التوائها وارتدادها إلى الشمس، ومن ثم فإن عملية إعادة
التحام هذه الخطوط ستسرع إطلاق الپلازما إلى الفضاء بين الكوكبي بدلا من أن
تسخِّن الشمس. ومع ذلك فإن الإكليل يظل حارا في مناطق ثقوبه. وقد بحث الفلكيون
بدقة عن بصمات للحركات الموجية، التي يمكن أن تتضمن تراوحات في السطوع أو في
انزياح دوپلر. وتكمن الصعوبة في أنه ربما كان للموجات
MHD المشاركة في التسخين أدوار قصيرة جدا قد لا تتجاوز بضع ثوان. كما أن
وسائل التصوير من السفن الفضائية في الوقت الحاضر، أبطأ من أن تكشفها.
ولهذا السبب، تبقى الآلات المنصوبة على الأرض مهمة. ومن رواد العمل في هذا
المجال [من وليامز كوليج] الذي
عكف مع طلبته منذ ثمانينات القرن الماضي على استعمال مكاشيف عالية السرعة للبحث
عن تغيرات في ترددات ضوء الإكليل خلال حوادث الكسوف. وتشير تحليلات أفضل
النتائج التي توصلوا إليها إلى وجود اهتزازات تتراوح أطوال أدوارها بين ثانية
واحدة وثانيتين. أما [من معهد
الفيزياء الفلكية بپاريس] فقد وجد باستعماله راسم الإكليل الشمسي
coronagraph أدوارا أطوالها تساوي 43، 80، 300
ثانية.
إن البحث عن تلك الاهتزازات هو الذي دفع أحدنا
(فيليپس) وفريقه للذهاب إلى شابلا (مدينة صغيرة تقع على ساحل البحر الأسود في
بلغاريا) لرصد كسوف الشهر 8/1999. وتتكون أجهزتنا من زوج من آلات التصوير
السريعة التي تستعمل خاصية القرن الشحني (CCD)،
والتي يمكنها رصد كل من الضوء الأبيض والخطوط الطيفية الخضراء التي يولّدها
الحديد العالي التأين. وثمة مرآة دوارة، أي متتبع شمسي
heliostat توجه حزمة أفقية إلى الأجهزة التي استعملناها. وخلال
الدقيقتين والثواني الثلاث والعشرين للكسوف الكلي، كانت الآلة تلتقط 44 صورة في
الثانية. وقد بيّنت التحليلات، التي أجراها
[من جامعة روكلو Wroclaw] و
[من جامعة كوينز في بلفاست] تذبذبات متمركزة بوجه عام على طول بنى عروية الشكل،
لها أدوار تتراوح أطوالها ما بين ثانيتين و10 ثوان. بيد أن آلتنا لم تكشف
تذبذبات في مناطق أخرى. ومن ثم، فمن المرجح أن تكون الموجات
MHD موجودة ولكن ليس لها ما يكفي من الانتشار
اللازم أو القوة الكافية لتسخين الإكليل.
وقد أسهمت أيضا الأرصاد التي أجريت على نجوم أخرى في
فهمنا لكيفية تسخين الإكليل. ومع أن الآلات المتوافرة حاليا لا تستطيع رؤية
المعالم السطحية لهذه النجوم بصورة مباشرة، إلا أن التحليل الطيفي يمكن أن
يستخلص وجود بقع (كلف) نجمية، ثم إن رصد الأشعة فوق البنفسجية والسينية يسمح
بكشف أكاليل النجوم وومضاتها، التي غالبا ما تكون أقوى وأوضح من مثيلاتها
الشمسية. إن الأطياف العالية الميز التي حصل عليها «مستكشف الأشعة فوق
البنفسجية القصيرة جدا» وآخر ساتلين للأشعة السينية، وهما شاندرا
وXMM-Newton، تسمح
بسبر درجة الحرارة والكثافة. وعلى سبيل المثال، للغلافين الضوئيين في كاپيللا
Capella ـ وهو نظام نجمي مؤلف من نجمين عملاقين ـ
درجات حرارة مماثلة لدرجات حرارة الغلاف الضوئي للشمس، لكن درجتي حرارة
إكليليهما أكبر بست مرات مما هي الحال في الإكليل الشمسي. وتشير شدة الخطوط
الطيفية المنفردة إلى كثافة للپلازما أكبر بنحو 100 مرة من كثافة الپلازما في
الإكليل الشمسي. وتقتضي هذه الكثافة العالية أن يكون إكليلا كاپيللا أصغر كثيرا
من إكليل الشمس، وهذان الإكليلان يمتدان خارج النجمين مسافة تعادل عُشْر قطري
نجميهما، أو أقل من ذلك. ويبدو أن توزيع الحقل المغنطيسي يختلف من نجم إلى آخر.
وبالنسبة إلى بعض النجوم، فإن الكواكب التي تدور حولها في مدارات قريبة قد تؤدي
دورا.
إن الغموض الذي يكتتف أسباب كون الإكليل الشمسي شديد
الحرارة، أرهق الفلكيين طوال أكثر من نصف قرن، لكن هذا السبب لم يعد الآن
مستعصيا علينا بفضل آخر المكتشفات التي زودتنا بها السفن الفضائية، والتصوير
السريع للإكليل خلال حوادث الكسوف. ولكن ما إن تبدأ جهودنا المركزة بإماطة
اللثام عن سر ما، حتى تبرز أسرار أخرى يتعين علينا حل ألغازها. إن الشمس
والنجوم الأخرى، بطبقاتها المعقدة وحقولها المغنطيسية ودينامياتها النشطة، ما
انفكت قادرة على تحدي فهمنا لها. وفي عصر برزت فيه ظواهر غريبة، كالثقوب
السوداء والمادة المعتمة، فمن الممكن أن تظل هناك عناصر مشوقة وآسرة، حتى تلك
الأشياء التي تبدو ظواهر دنيوية مألوفة