هذا الكتاب فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 1296
الموقع : لب الكلمة تاريخ التسجيل : 16/06/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3
| | التغيرات الكبرى: إعادة تقييم الافتراضات الأساسية لعملية السلام | |
في أوائل التسعينيات تبنت إسرائيل سياسة جديدة كانت أهدافها العملية والمباشرة هي التوصل إلى علاقات طبيعية مع العالم العربي، ونقطة التحول تلك كانت تدفعها مجموعة من العوامل، ووازن فيها قادة إسرائيل بين مجموعة من الاعتبارات. وتركز تلك الدراسة على عاملين اثنين: الأول هو صعود الولايات المتحدة كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط. وثانيًا: الافتراض بأن التوازن العسكري للقوة أصبح يميل بصورة كبيرة لصالح إسرائيل. وهذان العاملان أصبحا من المسلَّمات الأساسية في حسابات إسرائيل، وهو ما مكَّنها من خوض مخاطر عملية السلام. وتختبر الدراسة تلك الافتراضات، وما إذا كانت لا تزال موجودة أم لا، وإذا كان هناك نقاط تحول استراتيجية تتطلب إعادة تقييم، وما هي تداعيات ذلك على السياسات الإسرائيلية؟ الافتراض الأول: الولايات المتحدة هي العنصر المهيمن على الشرق الأوسط:في عام 1991م تشكَّل نظام إقليمي جديد، وقادت الولايات المتحدة تحالفًا عسكريًّا ضد العراق، وهو ما أسفر عن هزيمة الأخيرة، وأظهر الفاعلية السياسية والعسكرية للولايات المتحدة في المنطقة، وبعد الحرب تركت الولايات المتحدة عددًا كبيرًا من قواتها، والتي ظلت منتشرة في الخليج. وفي الوقت ذاته انهار الاتحاد السوفييتي، ورغبت روسيا الجديدة في عقد علاقات مع الولايات المتحدة ومع المؤسسات المالية الدولية، وهذا أيضًا كان له تداعياته على الشرق الأوسط: فأولاً: خسرت الدول الممانعة نصيرها السياسي. وثانيًا: سحبت روسيا معظم مستشاريها العسكريين وأصولها العسكرية من المنطقة. وكان الاتحاد السوفييتي في العقود التي سبقت انهياره قد قام بإعادة بناء الجيوش العربية في أعقاب حروبها، ولكنه لم يرغب أن يستمر في ذلك بدون الحصول على المقابل المالي الكامل نظير تسليحه لتلك الجيوش، مما أدى إلى أن ضعف العزيمة العربية في خوض الحروب.كما ساعدت حرب الخليج عام 1991م اثنتين من الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، وهما مصر والسعودية، في تعزيز موقفيهما كزعيمتين للعالم العربي. أما الدول الممانعة، والتي كانت ترأسها العراق وسوريا وليبيا، فقد أصبحت أكثر عزلة، وازدادت عليهم الضغوط تدريجيًّا. وفي التسعينيات أيضًا استمرت الولايات المتحدة في إظهار قوتها الإقليمية: فقامت بدعم مفتشي الأمم المتحدة في عملياتهم للبحث عن الأسلحة النووية، كما قامت بفرض مناطق حظر طيران فوق العراق، وخاضت الكثير من العمليات مثل ثعلب الصحراء. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر في عام 2001م تزايد النفوذ الأمريكي في المنقطة مرة ثانية: فقامت أمريكا بغزو أفغانستان والعراق، وأنشأت لنفسها مكانة سياسية وعسكرية راسخة هناك. وفي أواخر عام 2003م تم إعلان إيران وسوريا على أنهما الهدفين القادمين، وكان التهديد لهما وشيكًا؛ فقد أحاطت الولايات المتحدة بإيران من أفغانستان ومن وسط آسيا ومن العراق ومن الخليج العربي، كما شعرت سوريا أيضًا بالتحفز الأمريكي لها. وقد أثبتت الولايات المتحدة آنذاك فاعلية عسكرية صاحبتها بعزيمة على ردع ليبيا، والتي قامت وفي ظل عدم وجود تهديد مباشر لها، بالتخلي "طواعية" عن برنامجها النووي.وجاء الاختبار التالي للهيمنة الأمريكية في لبنان. ففي عام 2005م اغتيل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، وأشارت أصابع الاتهام إلى سوريا، وعلى عكس ما حدث في السابق كان الرد الأمريكي الفرنسي قويًّا ومدعومًا بالتهديد العسكري الجاد. وكنتيجة لذلك انسحب الجيش السوري من لبنان بعدما يقرب من عشرين عامًا من الاحتلال، وبدا أن تحالف 14 آذار الموالي للغرب استطاع أن يحقق نقطة تحوُّل استراتيجية في لبنان. وكنتيجة لذلك التأثير التراكمي لتلك الأحداث والاتجاهات تحولت الولايات المتحدة لتصبح قوة مهيمنة في الشرق الأوسط على المستويات السياسية والعسكرية. وفي ذروة تلك الهيمنة كانت الوحدات العسكرية الأمريكية تعمل في أفغانستان وباكستان، والعراق والكويت، والبحرين وقطر، والإمارات وعمان، والسعودية والأردن، ومصر وتركيا، وقيرغستان وأذربيجان، كما وُجدت البحرية الأمريكية في بحر العرب وفي البحر المتوسط، وحافظت الولايات المتحدة على قدراتها بالتدخل العسكري الفوري والكثيف في الشرق الأوسط، ووصلت جدية التهديدات الأمريكية إلى ذروتها. وكان من الواضح أن الولايات المتحدة لديها كل من القدرة والعزيمة على منع حدوث أية أضرار كبيرة لمصالحها أو لمصالح حلفائها في المنطقة.الافتراض الثاني: أن الميزان العسكري في المنطقة يميل لصالح إسرائيلفي عام 1988م انتهت الحرب العراقية الإيرانية، وأصبح التهديد الأساسي على أمن إسرائيل يأتي من "الجبهة الشرقية"، من تحالف بعض الجيوش يرأسه الجيش السوري وبمشاركة قوات عراقية. وافترضت إسرائيل أنه في حالة حدوث حرب فإن العرب سيحاولون مواجهة الجيش الإسرائيلي بصورة منتظمة، وسيحاولون الاستيلاء على أراضيها بالقوة. وكان هذا السيناريو عبارة عن هجوم من فِرَق من الجيش السوري تتوغل لعشرات الكيلومترات من قواعدها داخل الأراضي السورية، بالإضافة إلى القوات العراقية التي سوف تعبر مئات الكيلومترات من الصحراء المكشوفة، فمن الناحية الكمية كان التهديد عظيمًا، وكان يهدد بالأساس فاعلية جيش الدفاع الإسرائيلي.وفي أوائل التسعينيات بدأ جيش الدفاع الإسرائيلي في تسليح نفسه بأجيال جديدة من المجسات وآليات الرصد المبكر، والذخيرة دقيقة التصويب، مما ساعده على العمل داخل أراضي العدو، وأثبت استجابة حقيقية وفاعلة لسيناريو عبور فرق عسكرية سورية وعراقية للطرق الصحراوية في طريقها لغزو إسرائيل. وإن أي هجوم عراقي سوري كان يتطلب أيضًا التغلب على الحواجز الطبيعية والصناعية، ولكن المجسات والقوة النارية الدقيقة كانت تسمح بضرب معدات سلاح المهندسين لتلك القوات، في الوقت الذي تتقدم فيه باتجاه تلك الحواجز، وبالتالي إحباط هجومها، ثم بعد ذلك تعمل القوة النارية عالية الدقة على تدمير مدرعاتهم وتشكيلاتهم العسكرية الأخرى.وتلك التحولات أدت إلى خروج قناعة دفاعية إسرائيلية جديدة: وهو أن الجيش يستطيع صد الهجمات عن طريق القوة النارية دقيقة التصويب، بدون الحاجة إلى تحريك القوات الأرضية، أو المناورة بالدخول إلى أراضي العدو، أو بنشر مكثف للقوات على أراضي إسرائيل. والقوة النارية دقيقة التصويب تتطلب قوات صغيرة نسبيًّا، لذا كان من الممكن في ذلك الوقت الحفاظ على القوات الأساسية في الجيش، في الوقت الذي تقلل فيه إسرائيل حشدها لقوات الاحتياط. لذا بدأت القناعة القتالية الأساسية لإسرائيل تتغير، واستبدلت الثوابت العسكرية القديمة، مثل تحويل المعارك إلى داخل أراضي العدو، والاعتماد المكثف على قوات الاحتياط.وبعد حرب عام 1991م تم إزالة التهديد العراقي، وتضاءلت احتمالية عقد سوريا لتحالف عسكري, ففي أوائل الثمانينيات كانت سوريا مهتمة بتحقيق التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، ولكنها اعترفت بأن مثل ذلك التوازن أصبح خارجًا عن قدرتها. وفي منتصف التسعينيات تدهور الاقتصاد السوري، لذا رأت سوريا أنها ليس لديها الخيار العسكري المتاح، وبالتالي كان من غير المجدي أن تنفق على حشد التسليح العسكري، وكانت النتيجة هي إهمالها للجيش مما أدى إلى تدهور قدراته. وعلى الجانب الآخر كان الجيش الإسرائيلي في منتصف الثمانينيات في ذروة قوته فيما يتعلق بالعدد والوسائل، والتدريب والمعنويات، والشعور بالقوة والقدرة.كما فقدت منظمة التحرير الفلسطينية، والتي كانت مدعومة من العراق، مصادر تمويلها إبان حرب الخليج ومن ثم ضعفت سياسيًّا. ومن منفاها في تونس لم يكن لديها حتى القدرات الإرهابية الكبيرة. وبالرغم من احتفاظ الفلسطينيين والميليشيات الشيعية في لبنان بقدرات صاروخية وبقدرة على شن حرب عصابات، إلا أنها كانت قدرات محدودة، كما فترت أيضًا الانتفاضة الأولى.وفي أوائل التسعينيات كان تهديد الميليشيات لا يمثل سوى "إزعاجًا ضئيلاً" لإسرائيل، فقد صرح رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق الجنرال يوري ساجوي في كتابه "أضواء بين الضباب"، والذي نشرته جريدة يديعوت أحرونوت، في صفحة 174 قائلاً: "الآن بات جميع الزعماء العرب مقتنعين بأن القوة العسكرية الإسرائيلية تستطيع الآن وفي المستقبل المنظور أن تهزم أي تحالف عسكري إقليمي يتشكل ضدها"، وفي التقييم الاستراتيجي لأجواء التسعينيات لم تجد إسرائيل أية تهديدات ذات معنًى، مما فتح نافذة من الأمل لقبول مخاطر خوض عملية السلام.الهيمنة الأمريكية والتفوق العسكري الإسرائيلي: شبكة الأمان للعملية السياسية:في عام 1992م خضعت السياسات الإسرائيلية لتحول كبير، وصار هناك رغبة في الوصول إلى سلام شامل، والذي لم يعد مجرد أماني معنوية، ولكنه أصبح سياسة فعلية قابلة للتطبيق الفوري. وسبب ذلك التحول في السياسة كان مجموعة كبيرة من العوامل، بعضها محلية في إسرائيل، وبعضها يتعلق بالولايات المتحدة، وبعضها يتعلق بالتحولات التي حدثت في العالم العربي آنذاك، كما ترجع جذور تلك النقلة إلى اتفاقية لندن التي عقدت عام 1987م وإلى مؤتمر مدريد عام 1991م.ولكن الرغبة في خوض مغامرة عملية السلام كانت ترتكز على افتراضين: الأول أن الولايات المتحدة أصبحت القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، وأدى موفقها السياسي والعسكري المتنامي إلى صُنع سياق استراتيجي، جعل من السهل على إسرائيل خوض تلك المغامرة، وكان الافتراض الواضح أن الولايات المتحدة سوف تكون قادرة على عرقلة أي خطر على مصالحها القومية ومصالح حلفائها في تلك المنطقة. والثاني: أن الميزان الإقليمي للقوة كان يميل لصالح إسرائيل، وهذا الاتجاه عززته الفجوة التقنية التي اتسعت بين الطرفين، لذا فإن إسرائيل افترضت أنه حتى إذا حدثت بعض الأخطاء نتيجة لعملية السلام، وتحققت بعض المخاوف الإسرائيلية، فإن إسرائيل ستكون قادرة على استخدام القوة لإزالة ذلك الخطر، واستعادة الموقف الأصلي، وإعادته إلى حالته الأولى. وكان المتوقع أن التفوق العسكري الإسرائيلي سيسمح لإسرائيل بأن تتقدم في السلام حتى ولو على أرضٍ ليست صلبة تمامًا، وذلك بسبب أن إسرائيل تستطيع تحمل أية عواقب يمكن أن تحدث نتيجة لأي خطأ، أو تحقق المخاطر المحتملة.هل ضعفت الهيمنة الأمريكية؟مع التحول إلى مرحلة بناء الدولة في أفغانستان والعراق، تقلصت الفاعلية الأمريكية في المجالين العسكري والسياسي، فإنهاك الجيش وعدم تمتع الحربين بالدعم الشعبي الأمريكي وبخاصة حرب العراق، أدى إلى تآكل القوة السياسية المحلية للرئيس بوش في أواخر عهده، وظهرت العوائق أمام الالتزام الأمريكي طويل الأمد بالقضية العراقية، أو باستخدام القوة في مسرح عسكري جديد. وفي الوقت الذي عززت فيه الولايات المتحدة قواتها في العراق بصورة مؤقتة، وشهدت البلاد تحسنًا في الأوضاع الأمنية، وقّعَت في نوفمبر 2008م المعاهدة الأمنية مع العراق بشأن بقاء القوات، والتي حددت الانسحاب من المدن العراقية إلى قواعد في المناطق المفتوحة في صيف 2009م، ثم الانسحاب النهائي بنهاية 2011م. ولكن تلك الاتفاقية ركزت بصورة أكبر على التواريخ، وليس على المعايير الكيفية، مما يجعل من الصعب على الولايات المتحدة الالتزام بذلك الجدول الزمني. وفي فبراير 2009م أعلن الرئيس أوباما عن نيته سحب معظم قواته المقاتلة بحلول أغسطس 2010م.وعلى النقيض فإن إيران تسير في برنامج فعَّال للحصول على النفوذ في العراق، فستين بالمائة من العراقيين يدينون بالمذهب الشيعي، وعكست أرقامهم نتائج الانتخابات البرلمانية، فقد حصل التحالف الإسلامي الشيعي الجبهة الموحدة العراقية على 128 مقعدًا من 275، بل من ضمن قادة الحزب رجال دين تم نفيهم في السابق إلى إيران، وبعضهم لهم علاقات مباشرة بفيلق بدر، وهي ميليشيات عراقية شيعية قاتلت إلى جانب إيران في الحرب العراقية الإيرانية، ومعظمهم تم دمجهم في القوات الأمنية العراقية الرسمية، ولذا فإن النفوذ الإيراني في العراق يتزايد عن طريق تعيين حلفاء لها في أهم الوظائف في النظام، وذلك بسبب الرشاوى الإيرانية لكبار المسئولين العراقيين، واستثمارها لملايين الدولارات في الاقتصاد العراقي. فالميليشيات الشيعة التي تعمل في العراق، مثل جيش المهدي، استفادت من مساعدات جيش القدس التابع للحرس الثوري الإيراني ومن حزب الله، ففي أبريل 2008م شهد الجنرال ديفيد بيتريوس أمام الكونجرس أن إيران كانت تدرب قوات مسلحة تابعة لها مثل حزب اله ، بحيث يكون لها القدرة على العمل ضد الحكومة المركزية العراقية، وبالمثل فإن تقرير وزارة الدفاع الأمريكية في سبتمبر 2008م خلص إلى أن الخطر الأكبر على الاستقرار في العراق هو ظهور مثل تلك المنظمات، والتي تعد مسئولة بصورة كبيرة عن إضعاف النفوذ الأمريكي في العراق.فبعد الانسحاب الأمريكي من العراق من المتوقع أن يتخذ النفوذ الإيراني أحد شكلين: إذا ما ظلت العراق تحافظ على حكومة مركزية قوية؛ فإن إيران ربما تمارس نفوذها السياسي والاقتصادي على الحكومة مع قدرتها على تهديد استقرار العراق (مثلما يفعل حزب الله في لبنان). أما إذا ما ضعفت الحكومة المركزية العراقية واستطاعت التجمعات العرقية والإثنية أن تدير شئونها بصورة مستقلة عن بعضها البعض، فإن طهران ربما تقوِّي نفوذها على الجنوب الشيعي. وللملاحظة فإن الشيعة العرب العراقيين غير متطابقين تمامًا مع نظرائهم الإيرانيين، فالعراقيون الشيعة أنفسهم ليسوا مجتمعًا موحدًا، ولكن إيران ربما تحاول أن تحصل على نفوذ ديني واقتصادي وأمني وسياسي في تلك المناطق الشيعية في العراق. وفي أي الحالين سوف تصبح إيران العنصر الأجنبي صاحب النفوذ الأكبر على العراق.أما الاختبار الأمريكي الإيراني الآخر فجاء في لبنان، ففي مايو 2008م قررت الحكومة اللبنانية تفكيك شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله، والمرتبطة بإيران وسوريا، واتخذت بضعة خطوات إضافية ضد حزب الله، ولكن الحزب رد بقوة وبتصميم على الحكومة، وحدثت أزمة كبيرة داخل لبنان، ووقع ما يشبه انقلاب عسكري انتهى ليس فقط بتراجع الحكومة عن قراراتها، ولكن بإحداث حزب الله تغييرًا في توازن القوة في الدولة، ورغبته في أن يحصل على الثلث المعطل لقرارات الحكومة، وضمِن زيادة التمثيل الشيعي في البرلمان، كما ضمن تقوية موطئ قدمه في الجيش اللبناني. ولكن الأكثر إزعاجًا هو غياب النفوذ الأمريكي الفعال في لبنان؛ فقد كان كل من الولايات المتحدة وفرنسا (بل وحتى مصر والسعودية) بلا أنياب للتأثير على تلك التطورات، في حين سيطر النفوذ السوري والإيراني، والذي أثبت مرة ثانية أن تصميمهم على العمل ضد الغرب المتردد أتى بثماره.أما الخطأ الأمريكي الآخر فاتضح في السياق الفلسطيني، ففي عام 2006م أدت الضغوط الأمريكية إلى موافقة إسرائيل على مشاركة حماس في انتخابات السلطة الفلسطينية، ولدهشة الولايات المتحدة وإسرائيل فازت حماس بالانتخابات، وسيطرت في النهاية على قطاع غزة. وحماس هي منظمة سنية بأجندة فلسطينية وليست عميلة لإيران، ولكن بالرغم من ذلك استطاعت إيران أن تمول وتسلح الحركة، وأمدتها بدعم سياسي، ومارست ضغوطها على حركة حماس، وزعم الرئيس المصري حسني مبارك أنه بعد استيلاء حماس على غزة فإن مصر أصبحت فعليًّا لها حدود مع إيران. كما هددت إيران المصالح المصرية الأخرى، مثل تعاونها العسكري مع السودان الجار الجنوبي لمصر، وقد انكشف هذا الحاجز ما بين مصر وإيران تمامًا أثناء عملية الرصاص المصبوب الإسرائيلية، عندما وجدت إسرائيل نفسها تقف مرة ثانية مع الدول العربية السنية في جانب استراتيجي واحد ضد الإجراءات العسكرية للهلال الإيراني. وما يثير الدهشة أيضًا أن أمريكا وقفت عاجزة أمام محاولات إيران لتقويض أمن مصر والتي تعد الحليف العربي الأقرب للولايات المتحدة.كما ظهر عجز النفوذ الأمريكي جليًّا في قضية أخرى، وهي قضية البرنامج النووي الإيراني. وهذا العجز ظهر في ثلاثة عوامل: الفشل في بناء تحالف دولي موسع يدعم العقوبات (بالرغم من أن العالم العربي وروسيا والصين يشاركون أمريكا نفس القلق تجاه إيران النووية)، وعدم وجود مصداقية للتهديد الأمريكي باتخاذ رد عسكري فوري، حتى بدون تحالف مساند له، والعامل الثالث هو تصميم إيران أمام التردد الغربي. فالقيادة الإيرانية تعتبر البرنامج النووي من مصالحها الاستراتيجية العليا، وتستعد لدفع ثمن باهظ للحصول عليه. ولا ترى إيران أن الغرب، المتردد في دفع ثمن المواجهة، قادر على تنحية مسار القطار الإيراني عن وجهته، وقد خرجت بعض التصريحات في الغرب مؤخرًا تحمل معانٍ ضمنية بضرورة تعلم العيش مع إيران النووية، وظهر ذلك في تقارير عن النوايا الأمريكية لتقديم "غطاء نووي" إلى حلفائها. وبدون تغير عاجل في السياسات فمن المتوقع أن تحصل إيران على قدرات نووية، أو على الأقل تنجح في ضرب تعتيم كبير على برنامجها النووي في المستقبل القريب.كما أن خطورة إيران النووية تتعدى مجرد النظام الإيراني، فليس من الواضح ما إذا كانت إيران تستطيع أن تحافظ على توازن رادع بمقاييس الحرب الباردة (التدمير المتبادل)، وذلك للتشكيك في قدرة إيران على سيطرتها على برنامجها النووي، واحتمالية تسرب الأسلحة إلى كيانات وميليشيات ليست دولاً، مما قد يؤدي إلى إطلاق سباق تسلح نووي متعدد الأقطاب، كما يمكن أن ينهار النظام الإيراني ذاته، أو أي أنظمة أخرى يمكن أن تحصل على السلاح النووي، مما يؤدي إلى مخاطر وقوع السلاح النووي في الأيادي الخطأ التي ربما لا تتورع عن استخدامه.ووجود إيران نووية سوف يؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة الإقليمية والعالمية بصورة كبيرة، وذلك في حالة تغير نفوذ إيران وحرية حركتها في المنطقة، مما سيهدد الولايات المتحدة ويهدد حلفائها، فإيران على سبيل المثال يمكنها أن تسيطر على الأراضي التي تزعم ملكيتها في مضيق هرمز، وحينئذ سوف تجد الولايات المتحدة أنه من الصعب مواجهة ذلك، كما أن التعتيم الإعلامي على البرنامج النووي الإيراني من شأنه أن يعقد تحركات الولايات المتحدة ضد إيران، وسوف تجد أمريكا صعوبة في التعامل مع إيران بالطريقة ذاتها التي تعاملت بها أمريكا مع العراق أو مع صربيا في التسعينيات.كما يمكن لإيران أن تفكر في إمداد حلفائها بالمظلة النووية، وسوف يؤدي ذلك إلى حرية حركة سوريا وحزب الله وحماس، أو أيّ دولة أخرى يمكن أن تدور في الفلك الإيراني مستقبلاً. وسوف تزداد الثقة الذاتية الإيرانية، وربما تستفز الولايات المتحدة أو إسرائيل، وبالمثل فإن العرب والأتراك ربما يرغبون في عقد علاقات وثيقة مع إيران في تلك الحالة، مما سيعطيها نفوذًا سياسيًّا أعلى. وعندما تتصادم المصالح الإيرانية والأمريكية، فربما تنحاز بعض الدول إلى جانب إيران التي سيمنحها حصولها على القدرات النووية عزيمةً على استخدام القوة وقدرةً على تهديد الأنظمة المعتدلة بمجموعة من التهديدات المتنوعة.كما تهدد إيران مجموعة من المصالح الحيوية للولايات المتحدة، حيث تمتلك إيران وجودًا في أفغانستان، ووجودًا عسكريًّا في عدد من دول القرن الإفريقي، وتدعم الثوار الشيعة في اليمن، وتتطلع بعين طامحة إلى البحرين (ذات الغالبية الشيعية)، وحتى بموطئ قدم في فنزويلا وفي الدول اللاتينية الأخرى، وحتى على مسارات تهريب المخدرات عبر المكسيك إلى الولايات المتحدة, ولا تستجيب الولايات المتحدة بفاعلية إلى تحركاتها هناك أيضًا.ومن المسلَّم به أن إيران قوة إقليمية، ولكن بإجمالي دخل قومي مشابه لولاية ميريلاند الأمريكية، وهو اقتصاد لا يمكن أن ينافس القوة العظمى الوحيدة في العالم، بل إنه بالرغم من التعاون ما بين إيران والصين وروسيا، بما في ذلك في قضايا البرنامج النووي، والتسلح، وقضايا وسط آسيا، إلا أنهم لا ينتمون إلى المعسكر الاستراتيجي ذاته. ولكن محل النزاع بين إيران النووية وبين حلفائها في جانب، والولايات المتحدة وحلفائها في جانب آخر، واضح للغاية، لذا فإنه من الضروري على إسرائيل والولايات المتحدة أن يرسما صورة متماسكة وديناميكية وواضحة للتهديد الإيراني.ونحن نرى بأعيننا الآن إيران وهي تقوِّض الهيمنة الإقليمية للولايات المتحدة، وأصبح الهلال الشيعي أكثر تماسكًا على الأرض، وبدأ في التشكل من طهران عبر كربلاء ودمشق وينتهي في بنت جبيل في لبنان. ومن المتوقع أن يصل النفوذ الإيراني إلى غزة وإلى السواحل الشمالية والجنوبية الغربية للجزيرة العربية، وإلى باب المندب وإلى آسيا الوسطى. ومن أهم استراتيجيات إيران هو بناء القدرة على تهديد الأنظمة العربية من خلال الأطراف التابعة لها، والتي تعمل داخل مختلف الدول العربية، في الوقت الذي تحافظ فيه على قدرتها على إنكار تورطها المباشر.إن سياسة الرئيس أوباما تجاه إيران غير واضحة بشكل كامل، فقد أعلنت إدارته عن حاجتها إلى الحوار مع إيران، بالإضافة إلى حاجتها لمنع إيران من أن تصبح دولة نووية في الوقت نفسه، ولكن يجب أن يتم تحويل تلك التصريحات الدعائية إلى سياسات عملية. والفترة الأولى من رئاسة أوباما تشير إلى محاولات لخوض سياسة خارجية تعتمد على الحوار، ولكن محاولات إجراء حوارات مع إيران توفر لها الوقت الثمين، وإيران ماهرة في استغلال الوقت، بينما تباشر مصالحها النووية في دأب شديد. | |
|