ها
هي الثورة تستعيد عافيتها بعد أن بدأت تتطهر من "أدران" الحزبية البغيضة
ونزق بعض الشباب قليل الخبرة ومحدود التواصل مع جذور المجتمع المصري ،
وأستطيع أن أؤكد من الآن أن مليونية الجمعة المقبلة ستكون ناجحة ومبهجة
لكل تيارات الوطن ، شريطة أن تستمر تلك الروح الوحدوية التي بدت من
تصريحات مختلف القوى الوطنية في الساعات الأخيرة ، والتأكيد على أن هذه هي
جمعة "التطهير والأمن" ، وجمعة وحدة تيارات الثورة ، وليست جمعة أي مطلب
آخر تتبناه تلك القوة أو هذا التيار .
كانت أحداث الجمعة الماضية وما تلاها ، رغم مرارتها ، رسالة تنبيه
للجميع ، وإنذار بأن الثورة في خطر إذا استمر هذا التشظي والعناد مع إرادة
الشعب ، فأعلنت الجمعية الوطنية للتغيير تخليها في تلك المليونية عن شعار
"الدستور أولا" وأعلنت قوى أخرى انسحابها ، بعد أن أدركت أن طرح هذا
الشعار يكفي لإفشال أي تجمع شعبي حاشد هذه الأيام ، لوضوح المسألة لدى
التيار الغالب ، حتى أن الذي كان مترددا أيام الاستفتاء أصبح اليوم أكثر
إصرارا على "نعم" لسرعة إنجاز برلمان الثورة وحكومة الشعب المنتخبة ورئاسة
الجمهورية التي تأتي عبر أصوات حرة ثم تأسيس دستور جديد يليق بتلك الثورة
وأهدافها وأشواق الشعب المصري من ورائها .
من حق أي قوة وطنية أن تمتنع عن المشاركة في تلك المليونية ، ومن حق
أي تيار أن يكون له تحفظه على هذا الاحتشاد ، ولكني أتصور أن التيارات
الإسلامية في غالبيتها العظمى ستشارك بقوة في هذه المليونية ، ليس فقط لكي
يؤكدوا على مطلب الوحدة الوطنية ، ووحدة قوى الثورة ، وإنما أيضا لإحياء
مطالب الثورة وإظهار الإصرار على تحقيقها ، وفي مقدمتها ـ بكل تأكيد ـ
تطهير المؤسسة الأمنية من العناصر القيادية التي انصهرت مع فساد عصر مبارك
وتجبره واستعلائه ، هؤلاء "الباشوات" الذين تغلغلت الفرعونية في وعيهم
ونفسيتهم وضح أنه من الصعب عليهم استيعاب أن "عوام" المصريين أصبح لهم صوت
وإرادة ، وأنهم مواطنون يحميهم القانون وحقوق المواطنة ، وأن زمان السادة
والعبيد في العلاقة بين الشرطة والشعب قد انتهى ، وأن المرحلة هي مرحلة
الأخوة في رسالة الوطن ، والمشاركة في البناء ، مرحلة إيد في إيد ، بين
رجل الشرطة والمواطن العادي ، لرجل الشرطة احترامه وهيبته كممثل للقانون
وحامي للعدالة ، وليس كجلاد أو هراوة للفرعون ، وللمواطن هيبته واحترامه
في وطنه ، يستمد هيبته في وطنه من أنه "مصري" .
مليونية الجمعة هي رسالة أيضا إلى الدكتور عصام شرف بأن الثورة ما
زالت تدعمه ، من أجل اجتياز المرحلة الانتقالية بأمان وسلام ، وأن عليه أن
يكون أكثر حزما مع "المتلاعبين" به في وزارته ، وهم معروفون بالاسم الآن ،
وأنه ينبغي أن تكون هناك حركة تطهير عاجلة في الوزارة الحالية من أجل بث
الطمأنينة لدى الرأي العام بأن الدولة بيد أمينة في المرحلة الانتقالية ،
كما أنها رسالة إلى المجلس العسكري بأن ثورة الشعب المصري ما زالت حية ،
وأنها تنتظر استكمال المجلس العسكري لوفائه للثورة والشعب ، بإنجاز خريطة
الطريق التي صدق عليها ملايين المصريين في استفتاء الثورة ، أول حدث
ديمقراطي بعد الثورة ، مع منح كل الضمانات الكافية لطمأنة جميع تيارات
الوطن السياسية بأن أحدا لا يمكنه التلاعب في صياغة الدستور الجديد ، وأن
الجيش لن يتسامح مع أي خيانة مفترضة لأهداف الثورة وأشواق المصريين في
الحرية والعدالة والديمقراطية والكرامة .
كانت الثورة وقواها الحية على قلب رجل واحد ، والشعب يستجيب لكل دعوة
إلى المليونيات بقوة وحب وشوق ، حتى ركب البعض الموجة ، واخترعوا صداما لا
مبرر له بدعوى "الدستور أولا" مطالبين بإهدار إرادة الشعب في استفتائه
التاريخي ، وتعطيل إنجاز مؤسسات الوطن الديمقراطية المأمولة ، فانفرط
العقد ، وتبعثرت القوى ، وبدأت الجماهير تنفض عن ائتلافات الثورة وأحزابها
، وتحولت المليونيات إلى بضعة مئات أو بضعة آلاف يتجمعون في ميدان التحرير
، حتى انتفض وعي عقلاء الثورة من جديد ، وعلت الأصوات التي تؤكد على
احترام إرادة الشعب ، وتؤكد على ضمان القوى الثورية الكبرى لاحترام طموحات
الجميع تجاه دستور مصر الجديد ، فعادت الثورة إلى عنفوانها من جديد .
أتمنى أن تعلو أصوات رموز الثورة وقواها الحية والكبيرة أيضا في
التأكيد على ضرورة انصراف الجماهير من الميدان في نهاية اليوم ، وأن تحذر
من تلك العناصر غير المسؤولة التي تتحدث عن اعتصام مفتوح لا معنى له إلا
"جر الشكل" ، لأن الاعتصام معطل لمصالح الناس ، ومربك لحركة الشارع ،
ومستفز لإدارات الدولة ، ومعين على انتشار البلطجة وانفلات الأمن ، وكل
هذه معاني تناضل الثورة أساسا من أجل معالجتها ، بل وتطالب الدولة بالتصدي
لها ، فكيف تكون بعض عناصر الثورة حربا على أهدافها ، لا مجاملة في حق
الوطن ، ولا مداهنة في حق الثورة ، ينبغي فضح هؤلاء المستهترين ، حتى لو
حلفوا كل يمين بأنهم من أبناء الثورة .