سوريا اليوم: مسيرة ومظاهرة!
من مسيرة مؤيدة للنظام في آذار الماضي (أ.ب.) |
نديم الصالح
17/06/2011
المسيرةعلى غير العادة، "ساحة الأمويين" متّسخة. علب مياه فارغة ومشروبات غازية
ومناديل ورقيّة وأكياس. الموالون للنظام السوري كانوا هنا، حملوا علماً
سوريّاً طويلاً جداً، امتدّ على مساحة كبيرة من "اوتوستراد المزّة" الذي
ينتهي إلى الساحة، واختاروا أن يكون طوله 2300 متر، "تيّمناً" بعدد سكان
سوريا البالغ 23 مليوناً. كانوا بعشرات الآلاف، يحملون العلم الطويل،
وأعلاماً ذات قياس طبيعي طُبع عليها صورة للرئيس السوري. لم تخلّ عملية
حمل العلم من طقوس غريبة: السجود لصور الرئيس!
المسيرة التي شكّل النسبة الأكبر من المشاركين فيها موظفو الشركات التي
تعود ملكيتها لبعض رجال الأعمال الجدد، وموظفو القطاع العام، بالإضافة
طبعاً إلى الطلاب، لم يظهر فيها "مندسون" ولا "متآمرون" ولا "مخربون"
أو"سلفيون" ولا "عصابات مسلحة إرهابيّة"، "أمعنت ترويعاً وتقتيلاً في
المواطنين". على العكس، تمتّع الحشد بأمان هائل، لم يتوّفر في أي لحظة،
لأولئك المتظاهرين السلميين "أصحاب المطالب المحقّة والمشروعة"، كما قال
الرئيس السوري في خطابه في مبنى "مجلس الشعب"!
تفرّق الحشد مع نهاية الدوام الرسمي، باستثناء البعض الذي قام بمسيرات
سيّارة في شوارع العاصمة، انطلاقاً من ساحة الأمويين، عبر الشارع الموازي
لنهر بردى، باتجاه جسر الرئيس وحتى جسر فكتوريا، ومنه إلى شارع الثورة.
الازدحام الذي خلّفته حركة السيارات الفارهة للموالين لم يقابله سائقو
سيارات الأجرة والميكروباص بأي نوع من أنواع التذّمر. على العكس، كان
يحمّلون ملامح وجوههم بابتسامات عريضة، تصل أحياناً حدّ القهقهة!
المظاهرةالوصول إلى مكان التجمّع ليس سهلاً، يستدعي اتصالات استفسارية كثيرة، لن
يتردد الشاب الذي يجريها في "تسمية الأمور بمسمياتها". يتحدث مع الطرف
الآخر عن "مكان المظاهرة وزمانها". لا يخشى أن يكون خطّه مراقباً. الشجاعة
تفسّر هذا الوضوح، ولكن أيضاً لغته الكرديّة!
الوصول للمكان يتطلب "تاكسي" في البداية، ثم "سوزوكي" تصعد بك إلى المنطقة
في النهاية. ستجد نفسك أمام الباب السفلي لمقبرة في منطقة ركن الدين ذات
الغالبيّة الكرديّة. تحضيراً للتجمّع، سيدخل البعض إلى المقبرة، يجلسون
تماماً أمام قبر "خالد بكداش"، الأمين العام للحزب الشيوعي السوري. ورغم
أن "الطيف اليساري والمدني" المشارك في المظاهرة كان بادياً، لم يلاحظ أن
أحداً قرأ الفاتحة على روح المرحوم!
"المنظمون" ملتحون، لكنّ الحضور النسائي في المظاهرة كان قوّياً. كنّ، في
الغالب، غير محجبات. دقّة في التنظيم، تجعل التظاهرة المقرّر أن تبدأ في
السابعة... تبدأ في السابعة.
يبدأ "الهتيف" الشاب في ترديد أهزوجة، ليكرر الحشد اللازمة من خلفه: "يا
وطنا ويا غالي.. نحنا بدنا حريّة". بعض أزقة الحي لا تنطبق عليها حتى صفة
الأزقة، فهي أصغر من ذلك. يدخل المتظاهرون/ات في "زقاق" لا يتعدى عرضه
المتر الواحد، لكن هتافهم للحريّة ينسيهم الفضاء الضيّق. المنظمون في
مقدّمة المظاهرة، أبناء المنطقة هم، يقودونها: هتافاً، توجيهاً، تحميساً..
وتصويراً! يصرّون على الحريّة وعلى "واحد واحد واحد الشعب السوري واحد"،
ويصرّون، وهنا المفاجأة، على "خاين يلي بيقتل شعبه"، و"ياللعار ياللعار
علي بيضرب شعبه بنار". مصدر المفاجأة أن هذا الشعار كان "ثقيلاً" وغير
مستحب، في ركن الدين، حين لم يكن عدد شهداء الانتفاضة قد تجاوز العشرات
بعد. اليوم أصبح ممكناً، ربما ليملأ الفراغ الذي يخلّفه غياب "الهتاف
الأكبر": "الشعب يريد إسقاط النظام"، والذي حاولت مجموعة من المتظاهرين/ات
أن تهتف به، فلم تلق تجاوباً!
هتافات أخرى تجعل من سوريا كلّها حاضرة في الحي الدمشقي الشعبي: من درعا
بالطبع، إلى جسر الشغور وغيرها، مروراً بكل من حماة وحمص: "حمص يا دار
السلام... فيك مربى الأسود... فيك خالد سيف الله... فيك الكرم والجود.. يا
حمصي همّك همّي ويا حموي دمك دمّي!"، ثمّ: "الله سوريا حريّة وبس"...
و"الله أكبر"، يردّدها المنظمون بحماس وبكثرة، ليتكامل معهم "المكوّن
المدني" فيستبدل "الصفقات الثلاث" المشهورة بـ"حريّة"، وليجري الهتاف
هكذا: الله أكبر... حريّة، الله أكبر... حريّة!
عناصر الأمن الغائبة، نسبياً، عن المكان، سمحت للمتظاهرين بأن يتفرقوا
بهدوء، حتى أنّ بعضهم تمكّن من توديع البعض الآخر قائلاً: "منشوفك
بالمظاهرة الجاي انشالله". لكن المتظاهرين الغرباء عن المنطقة تاهوا في
أزقتها، لدرجة أن تفرّقهم لم يحدث كما يجب. كانوا يزعمون التفرّق ليعاودوا
الالتقاء ببعضهم البعض في تقاطعات الشوارع. حينها لم يتمكنوا من ضبط
قهقهاتهم، أمام عيون سكان الحي المصوّبة نحوهم: من دون عدوانيّة، لكن ليس
من دون القليل من الدهشة!